بين التاريخ الهجري والميلادي - حول التاريخ الهجري
خطبة الجمعة للشيح محمد ابي الهدي اليعقوبي في جامع الحسن في دمشق 28/ذي الحجة/1429هـ الموافق لـ 26/كانون الأول/2008م
التاريخ الهجري

أيها الإخوة المؤمنون.. نودع في هذه الأيام عاماً ونستقبل عاماً، ومعظم الناس يتذكر الأعوام الميلادية وينسى تاريخ الإسلام والمسلمين المرتبط بالسنة النبوية وسيرة المصطفى عليه الصلاة والسلام.. معظم الناس لا يتذكر التقويم الهجري إلا أيام العطل، فإذا مرت عطلة وقيل هذه عطلة المولد النبوي الشريف تذكر أنه الثاني عشر من ربيع الأول، وإذا مرت عطلة كعطلة العيد تذكر أنه عيد الفطر، أو إذا مرت عطلة رأس السنة الهجرية تذكر أنه رأس السنة الهجرية.. معظم الناس لا يعرف التاريخ الهجري، لو سألنا معظم الناس عن تعداد الأشهر القمرية الهجرية بدءاً من المحرم وانتهاء بذي الحجة لما استطاع كثير منهم تعداد هذه الأشهر، وربما يصلح ترتيب هذه الأشهر سؤالاً ربما لربح مليون دولار يخسر فيه معظم الناس!.
ولو سألنا الناس عن اليوم الذي نمر فيه ما تاريخه بالتاريخ الهجري القمري؟ لرأينا معظم الناس لا يعرف، ولو رجعت إلى الوثائق والعرائض والمعاملات التجارية فيما بين الناس كالعقود لرأيتهم يكتبون التاريخ الميلادي ولا يكتبون التاريخ الهجري! وهذا أمر عجيب غريب في أمة تدعي أنها أمة الحضارة، في أمة تفخر بتاريخ مجيد، في أمة ترجع للنبي عليه الصلاة والسلام وتعتز به، وقد رأينا تمسك الأمة بالنبي عليه الصلاة والسلام لما أساء أهل (الدانمارك) أعداء الله تبارك وتعالى إليه عليه الصلاة والسلام، ففزعت أمة الإسلام وقامت من كل حدب وصوب تنتصر لهذا النبي العظيم، ولكنها في حقيقة الأمر أبعد ما تكون عن سنته عليه الصلاة والسلام.
أحياناً نتعلل بالقوانين، بمعنى: الإنسان أحياناً يعتذر عن عدم تطبيقه لبعض أحكام الإسلام بالقوانين، أنا أقول: القوانين في هذه البلاد تؤكد على التاريخ الهجري كالتاريخ الميلادي، فالقوانين توجب على كل موظف حكومي يؤرخ في واقعة حادثة أو معاملة أو ورقة من الأوراق الرسمية توجب عليه أن يؤرخ بالتاريخ الهجري، والإذاعة والرائي تفتتح البرامج فيهما كل يوم ببيان التاريخ الهجري، والصحف تصدر مؤرخة بالتاريخ الهجري أولاً ثم بالتاريخ الميلادي حسب القوانين، ولكن إهمال الناس للتاريخ والحضارة والسنة والسيرة ورغبتهم في تقليد الغرب هو الذي أوصلنا إلى ما نحن فيه، وقد حذرنا النبي عليه الصلاة والسلام من أن نسير خلف كل ناعق، حذرنا النبي عليه الصلاة والسلام من تقليد الكفار: (لتتبعن سنن من كان قبلكم شبراً بشبر وذراعاً بذراع، حتى لو دخل أحدهم جحر ضب لدخلتموه) وهكذا صنعنا وهكذا فعلنا.
التاريخ الميلادي تاريخ الأمم المسيحية، والعادة جرت في تاريخ الأمم والشعوب أن الأمة الغالبة تفرض العادات والتقاليد على الأمم المغلوبة، وذلك كان حال المسلمين أيام العزة والنصرة والسيادة والمنعة، لما انطلقت جيوش الإسلام وخرج الدعاة إلى الله تبارك وتعالى ينشرون دين الله عز وجل في شرق الأرض والغرب، كان الإسلام بقوة وكان المسلمون في عزة، وكانت أمم الأرض تنظر إلى المسلمين وترى فيهم الحضارة والعلم والأخلاق والأمانة والصدق والعدل، فكانوا يقلدون المسلمين، كانوا يتعلمون اللغة العربية، لا لأن الإسلام فرض على من يدخل الإسلام تعلم اللغة العربية، فتعلم اللغة العربية ليس فرض عين على كل مكلف، ولذلك بقيت الأمم الإسلامية في بلاد (جاوا) وفي بلاد إفريقية وفي بلاد البلقان وغيرها.. بقيت لتلك الأمم والشعوب لغاتها، بقيت لها ثقافاتها، لأن الإسلام لم يرد محو تلك اللغات، ولم يفرض تعلم اللغة العربية، ولكنَّ أمماً عديدة تعربت حباً في العرب وحباً في الإسلام.
من عادة الضعيف أنه ينظر إلى القوي فيقلده ويعجب به، إذا كان القوي صاحب أخلاق، إذا كان القوي مثالاً يحتذى، إذا كان القوي قوياًُ بالعدل والإنصاف، وهكذا كان حال المسلمين، فما بالنا -أيها الإخوة المسلمون- نقلد أمم الغرب وقد انكشف زيف الحريات والديمقراطية والمبادئ في بلاد الغرب! ما بالنا نقلد أمم الغرب وقد انكشف ضعف الدولار وضعف الاقتصاد وضعف النظام الرأسمالي! ما بالنا نقلد أمم الغرب أيها الإخوة ونعجب بكل ناعق يأتينا من بلاد الغرب! في العلم في الثقافة في اللغة في كل باب من الأبواب!.
لو قام فيما بيننا رجل من المؤلفين العباقرة ينظم الدورات المبنية على علم التربية الإسلامي وعلم النفس والسلوك والتواصل والذكاء استنباطاً من كتب المسلمين كابن خلدون وغيره، لما قصده أحد!.. لكن جاءتنا من بلاد الغرب الـ: (NLP):(Neurological linguistical programming) البرمجة اللغوية العصبية.. الاسم باللغة الأجنبية، وصاحب الفكرة من الولايات المتحدة الأمريكية، فصارت الدورات تسوق بالآلاف، وتدفع فيها المبالغ الواسعة، ويقبل عليها الصغير والكبير والنساء والرجال!.. فكرة جاءت من الغرب..
نحن لسنا ضد كل شيء يأتينا من الغرب، ولكن نريد أن نبين ولع الناس بكل ما يأتي من الغرب الكافر، من بلاد أمريكا وأوروبا، وهكذا إذا تحدث الناس فيما بينهم، كأهل لبنان، أهل لبنان لا بد لهم من يدخلوا اللغات الأجنبية كالفرنسية في أحاديثهم.. (شكراً جزيلاً) غير موجودة في لبنان، بل يقولون: (ميرسي كتير)!.. يجب أن يظهر أحدهم معرفته باللغة الفرنسية، فيمزج ما بين اللغة الفرنسية واللغة العربية، ويستحيي العربي في لبنان أن يقول: (شكراً جزيلاً)! لا بد عندهم من مزج الثقافة الفرنسية والثقافة العربية، وقد بدأت هذه الحمى (الموضة) تسري في بلادنا، أقول: بل هي طاعون بدأ يفتك بنا، بدأنا نرى الآن في البرامج التي تظهر على شاشات التلفزيون كلما يخرج أحد لا بد له من إدخال اللغة الإنكليزية داخل الحديث!.. للإشارة إلى أن هذه اللغة لغة الغالب، لغة القوي، وأننا نعرفها ونتحدث بها، ونترك قواعد لغتنا، نترك قواعد اللغة العربية، نترك تاريخ اللغة العربية، فضلاً عن تاريخ الإسلام والمسلمين.
أيها الإخوة المؤمنون.. حينما نودع عاماً ونستقبل عاماً ينبغي علينا أن نرجع إلى تاريخنا المجيد، وأن نرجع إلى سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم وسيرة خلفائه من بعده، وتاريخ الحضارة الإسلامية، وأن نعرف ما جرى من تلك الأحداث في الأيام الهجرية، معظم الناس لا يعرف متى ولد بالتاريخ الهجري!.. متى ولدت؟.. تاريخ ولادتك بالتاريخ الهجري هل تحفظه أو تعرفه؟.. تاريخ الولادة صار مرتبطاً بالأشهر الشمسية والتاريخ الميلادي المسيحي.. لو سألت أي إنسان: في أي شهر عربي ولدت؟ ما هو تاريخ ولادتك؟ في أي يوم من الأيام القمرية؟ وهذا شيء يخصك، ينبغي أن تعرفه، تترتب عليه أحكام شرعية، فالبلوغ مثلاً يكون ببلوغ خمس عشرة سنة، هذا البلوغ بالسن عند فقد العلامات يكون ببلوغ خمس عشرة سنة قمرية هجرية، لا خمس عشرة سنة ميلادية، هذا من الأحكام الفقهية التي تتعلق بكل واحد منا وبأولادنا، وقد أشرت إلى بعض هذه الأحكام في خطب سابقة منذ بضعة أشهر كالزكاة مثلاً وحولان الحول.. تجب الزكاة كل سنة هجرية قمرية.. من نذر أن يصوم لله تبارك وتعالى شهراً، يجب عليه أن يصوم شهراً قمرياً هجرياً، أي: تسعة وعشرين يوماً أو ثلاثين يوماً.. طلب الهلال لكل شهر قمري واجب، فرض كفاية على المسلمين، والفرق ما بين السنة الهجرية والسنة الشمسية معروف، هو أحد عشر يوماً وجزء من اليوم، فالسنة القمرية ثلاثمائة وأربعة وخمسون يوماً، والسنة الميلادية كما تعرفون يعرف ذلك كل واحد منا.. فينبغي علينا أيها الإخوة أن نستغل هذه المناسبة وهذه الفرصة، بأن نحاول حين نرجع إلى البيت أن نمسك بالتقويم الهجري، وأن نحفظ الأشهر القمرية بالترتيب.
حياتنا صارت أشبه ما تكون بالحياة الغربية، لا نرجع إلى الله تبارك وتعالى إلا في صلاة الجمعة وفي صلوات الجماعة ربما، أو في بعض الأحكام الشرعية.. نتخفف من الدين شيئاً فشيئاً.. ولو أردنا أن ننظر في مستوى التدين الذي كان في بلادنا قبل خمسين سنة ومستوى التدين الذي هو الآن، لرأينا أن مستوى التدين قد انخفض.. المظاهر الدينية زادت بفضل الله تبارك وتعالى.. بناء المساجد بفضل الله ازداد، وارتداء الحجاب بفضل الله عز وجل ازداد، وطلاب العلم في ازدياد، والناس في إقبال، لكن أنا لا أتحدث عن المظاهر ولا عن القباب والمآذن.. مدينة دمشق بفضل الله تعالى كادت تصير مدينة الألف مئذنة والألف قبة بفضل الله عز وجل.. والحجاب في ازدياد.. لكن مستوى التدين والورع.. الورع عن أكل أموال الناس، الورع في خروج النساء، نعم الحجاب فرض وقد ازداد بفضل الله عز وجل، لكن المحجبات اليوم ما عندهن الورع الذي كان عند المحجبات قديماً من الستر وعدم وضع الزينة وعدم الحديث مع الرجال في الطريق.. التدين بين الناس نقص.. المعرفة بالأحكام الشرعية نقصت فيما بين الناس.. وهذه أمور خطيرة ينبغي أن نتنبه لها إنما تحدث بالتدرج، هذه الأمور نحن المسؤولون عنها لا الدولة، العادة أن الناس تلقي بالمسؤولية على الدولة دائماً، نحن المسؤولون أيها الإخوة عن ديننا، نحن المسؤولون عن تقوانا وورعنا، نحن الذين نسأل بين يدي الله تبارك وتعالى عما قدمنا.
عيد الميلاد كان يوم أمس، وعيد رأس السنة الهجرية بعد غد، ويسأل الناس بعضهم بعضاً -وخاصة في هذه الأحياء- أين سيقضي ليلة رأس السنة؟!.. التاريخ المسيحي هذا مزور، لا تصدقوا أن عيسى عليه السلام ولد في هذا اليوم الذي يعينونه، وإنما أجروه في هذا اليوم بناء على أمور جرت على عهد الدولة الرومانية، ولا يُعرف تاريخ ميلاد عيسى عليه السلام بالتحديد، وقد أثبت بعض المؤرخين المسيحيين غلط النصارى في هذا التاريخ، وفي هذا أبحاث مؤلفة نشرت لا نتوسع بذكرها في هذا المقام، فالتاريخ طبقاً للمؤرخين المنصفين عندهم مزور، ومع ذلك أيها الإخوة يقبل الناس من المسلمين على الزينات! يقبل الناس من المسلمين على أشياء يخجل الإنسان منها، سمعتم بواحد سمى بنته: (فالانتاين) بمناسبة عيد الحب؟!! ومن ذلك بيع الزهور، وبيع ما يتناسب مع كل مناسبة، وتغيير زينة المحلات، ووضع ما يناسب شجرة الميلاد، وما يناسب اللون الأحمر والورد الجوري في تاريخ الحب.. صرنا نتحول ونتغير في كل مناسبة غربية!.
يجب علينا أيها الإخوة أن نرجع إلى الله تبارك وتعالى وإلى ديننا وتاريخنا وحضارتنا، وأن نعرف منبتنا ونشأتنا، ونعرف آباءنا وأجدادنا، وما هو تاريخ بلادنا بلاد الشام، فعندنا ما يغنينا بفضل الله تبارك وتعالى، والغرب يريد أن يفرق بيننا وبين ماضينا، وكل أمة تترك ماضيها لا يمكن أن تنتصر إطلاقاً، وقد أعرضنا عن هذا الماضي، وبدأنا نخجل من ذكره ونخجل من دراسته ونزهد فيه، من أين نبتغي العزة والقوة؟! من الدول الغربية التي تريد استعمار بلادنا؟! أو تريد محو ثقافتنا والقضاء على إسلامنا وشريعتنا؟! من أين نطمع أن ننال تلك العزة إن لم ننلها من الله تبارك وتعالى الذي قال: ?وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ?، انظروا إلى كلام سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (نحن قوم أعزنا الله بالإسلام، فمهما ابتغينا العزة بغير ما أعزنا الله به أذلنا الله).
أسال الله تبارك وتعالى أن يعيد علينا وعليكم هذه السنة الهجرية - ونحن نودعها وهي سنة ألف وأربعمائة وتسعة وعشرين- بالخير واليمن والبركة والنصر والفرج لنا ولكم ولأهل غزة والعراق ولجميع المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، أسال الله تبارك وتعالى أن يعيد علينا وعليكم هذا العام الهجري الذي انقضى من أعوامنا وقد تقربنا إلى الله تبارك وتعالى، وازددنا إيمانناً ويقيناً، وقد ازددنا من الأعمال الصالحات، وازددنا قرباً من نبينا عليه الصلاة والسلام وحباً فيه واتباعاً لسنته عليه الصلاة والسلام، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين فاستغفروه فيا فوز المستغفرين، أستغفر الله....

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين