بين الاختلاف والسقوط

«الاختلاف»: هو سنَّة من سنن الله في هذه الحياة، وله أسباب كثيرة، ولعلَّ المجتمع الذي لا يعرف معنى الاختلاف، أو لا يسْمح به، إنما هو مجتمع دكتاتوري، وليس مقصدي في هذا المقال تقصّي الموضوع، وإنما أريد الإشارة لموضوع الاختلاف بين العلماء في القضايا الشرعية، لأقول إن هذا الاختلاف موجود ومقرر، بدأ منذ عصر الصحابة رضوان الله عليهم، -حتى في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم- ولعل أمر النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه «لا يصلّين أحدٌ العصر إلا في بني قريظة»، فاختلف الأصحاب عندما دنا الغروب فصلى بعضهم وأجَّل الصلاة آخرون، لعل هذا الحدث دليل جلي حول الموضوع.

إنه من المتفهم جداً أن يحصل الاختلاف في تحديد ليلة القدر، أو تحديد الصلاة الوسطى، أو تحديد الساعة التي يستجاب فيها الدعاء يوم الجمعة، ومتفهم كذلك الاختلاف في نقض الوضوء حال لمس الزوجة، وكل ما هو على هذا المنوال..

وللخلاف بين العلماء أسباب كثيرة، منها ما هو معتبر، ومنها ما يدخل في مجالات سوء الطوية، وخبث النفس لدى المتصدرين في الشأن الديني، ولعل من أسباب ذلك هو الحصول على بعض الفتات من هنا وهناك، وقد نهى الله عن ذلك فقال: {وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ}، ولعل من فعل ذلك أراد طلب الحظوة عند أهل السلطة، وقد سمَّى المسلمون هذا النوع من الأشقياء «علماء السلطان»، الذين لا يخشون من تحليل الحرام، وتحريم الحلال..

«السقوط»: في حديثنا مع الناس نقول لهم اخرجوا من الثنائية الضيّقة، فلا يعني أنه لا أحكام في الشرع إلا واجب أو حرام، بل هنالك مندوب ومباح ومكروه، وليس في الألوان سوى الأبيض والأسود، فهنالك أحمر وأخضر وأزرق...

لكن هذه الثنائية بالنسبة لإرادة الله سبحانه وتعالى في حياة البشر ومصائرهم ثابتة ولا محيد عنها، فمثلاً هنالك طيب وخبيث، مؤمن وكافر، طائع وعاصٍ، وفي الآخرة جنة ونار، وحتى يكون الإنسان طيباً لا خبيثاً، ومؤمناً لا كافراً، وطائعاً لا عاصياً، ويدخل الجنة لا النار، لا بد له من الخضوع لامتحانات واختبارات نتيجتها تخضع لهذه الثنائية، فإما نجاح وإما سقوط..

فمثلاً ذكر لنا رسول الله صلى الله عليه أن الله سيرسل الأعور الدجال «الفتَّان»، الذي يجري فحص مقابلة مع من يقابلهم، ويحكم على أحدهم من خياراته فإما ناجح وإما ساقط، أحدهم سيغتر بقوة الدجال فيؤمن به، وآخر سيتزلف له، وآخر يحسب نفسه ذكياً، ويزعم أن حكمة خياراته ستجعله يحمي نفسه، فإنه سيخدع الدجال ويقول له أنه مؤمن به ظاهراً لكن قلبه مطمئن بالإيمان، ما أشقى هذا الإنسان الذي يتزلف لديكتاتور يسوم الناس سوء العذاب، وهو يحسب نفسه يحسن صنعاً!!، لو كانت المساومة على المبادئ جائزة لرضي رسول الله صلى الله عليه وسلم بعرض قريش لما قالوا له نؤمن بإلهك سنة، وتؤمن بآلهتنا سنة، لعل هذا المتذاكي الذي أراد خداع الدجال أو السلطان الغشوم، لم يخطر بباله أنه كان بإمكان النبي صلى الله عليه وسلم أن يخدع قريشاً  كذلك فيعبدوا إلهه سنة، وعندما تحين سنتهم يخلف وعده، وربما يكون كسب في سنته الأولى تمرير بعض الأمور..

وكذلك لم يعلم هذا الشقي الساقط سبب رفض النبي صلى الله عليه وسلم لعرض قريش عندما عرضوا عليه الملك، فلربما قال: ولِمَ لا يقبل بالملك ثم يُكْرِه الناس على الدخول في دينه، أليس الناس على دين ملوكهم؟

كلا!، فالمبادئ لا تقبل المساومات، ولا حجة لمتذاكٍ بموضوع الاختلاف يقيس ذلك على الأحكام الفقهية التي اختلف حولها العلماء، فمن تجاوز المبادئ فقد سقط غير مأسوف عليه، وإن كان سابقاً قد عمل بعمل أهل الجنة حتى لم يبق بينه وبينها إلا ذراع!!

«اختلاف أم سقوط؟»: سأل كفار مكة اليهود وهم من أهل الكتاب، هل نحن –الوثنيين- أهدى سبيلاً أم محمد –الإسلام- فقالت اليهود للوثنيين: بل أنتم أهدى سبيلاً من المسلمين، ليس هذا السقوط الوحيد في حياة اليهود، فحياتهم مليئة بهذا الحال!!

كيف يكون دين سماوي يعلم اليهود في قرارة أنفسهم أن من جاء به رسول من الله، كيف تكون وثنية الوثنيين خير منه، حقاً ليس للسقوط قاع!!

بعد هذا كله أقول:

  • إن قول عالم ما إن سقوط النظام (نظام بشار الأسد) هو سقوط للإسلام، لا يدخل في مجال الاختلاف وإنما هو عين السقوط.

  • إن قول عالم ما إن جيش بشار أشبه بجيش الصحابة، هو عين السقوط.

  • إن قول عالم ما إن الإخوان المسلمين في مصر خوارج لا بد من قتلهم هو عين السقوط.

  • إن قول عالم ما إن التصويت على دستور الدم الانقلابي في مصر واجب لأنه دستور مؤيد من الله هو عين السقوط.

  • إن اشتراك حزب يدعي الإسلامية في خلع رئيس شرعي منتخب له بيعة، وكانت سياسته رحمه، هو سقوط لهذا الحزب ورجالات ومنظريه.

إن الاختلاف يكون في الأمور التي يجوز فيها الاختلاف، وأما مثل هذا الأمور وما هو على شاكلتها فإنما هو عين السقوط وهل السقوط إلا هذا السلوك المشين؟

إن هذا الصنف من العلماء الساقطين المعتوهين الآكلين بدين الله، وبائعي دينهم بدنيا غيرهم، هم كما قال الشيخ محمد الغزالي رحمه الله: بلاء على دين الله وعلى دنيا الناس، وأنه لا صلاح للدين إلا بزوالهم.

إن هذا الصنف من المبطلين مكروه من الله ومن الناس، فالله سبحانه وتعالى قد ذمَّ من يُلَبِّس على الناس دينهم، ويخون أمانة التبليغ، وتوعدهم بعذاب أليم، والناس ترى فيهم مخادعين أجبروهم على قبول الذل والاستبداد باسم الدين، فكان من شعارات الثورة الفرنسية: «اشنقوا آخر إقطاعي بأمعاء آخر قسيس»، ولم يصل الأمر إلى هذه النتيجة البائسة إلا لأن رجل الدين لم يبلغ الناس من الدين إلا ما يجعلها تستمرئ الذل وترضى الهوان، لبئس هذا الدور، ولبئس هذا الخداع، ولبئس هذا المصير!!

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين