بين الأستذة والدعوة

 

إن مما ينبغي التنبه له في عصرنا الحاضر، التفريق بين أسلوبين؛ أولهما (أسلوب التعليم)، وثانيهما: (أسلوب الدعوة).

 

فالأسلوب الأول يقتضي وجود أستاذ وتلميذ، ومُلقٍ ومُتَلَقٍّ، وذلكم لقناعة التلميذ بأستاذه، ولمعرفة الأستاذ بتلميذه، وقد ضرب القرآن الكريم لنا مثلًا بكليم الله تعالى موسى عليه السلام مع أستاذه الخضر، وأوضح حينئذٍ أدب التلميذ مع الأستاذ، وشروط الأستاذ على التلميذ، (قَالَ لَهُ مُوسَى? هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى? أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا (66) قَالَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (67) وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى? مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا (68) قَالَ سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا (69) قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَن شَيْءٍ حَتَّى? أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا (70) [الكهف].

 

والأسلوب الثاني:

أسلوب الداعية، وهو الذي يجب أن يكون مَبنِيًا على النِّدِّيَّةِ في الحوار، حيث لا يستشعرُ المدعو فوقِيَّةَ أستاذٍ، ولا شروط معلمٍ، إنما يستشعر روحَ البحث المجرَّد، والمنطق العقلي، المبنيِّ على الحكمة البالغة، والمُزدان بالموعظة المثيرة للرهبة والرغبة، والمسيَّجِ بالجدال بالتي هي أحسن، مع أدبٍ جَمٍّ، وعبارةٍ دافئةٍ، وفكرةٍ نيِّرَةٍ، وعرضٍ مُمتِع، وذلكم طِبقًا لتوجيه الله تعالى لنبيه الحبيب صلى الله عليه وسلم: (ادْعُ إِلَى? سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ? وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ? إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ ? وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) [النحل: 125].

 

إنّ القرآن الكريم حين أعلن الحرية الفكرية لكل إنسان، ظهر أنه مِن غير الجائز حَملُ إنسانٍ على الإيمان بالإكراه، أو قَهرهِ على الدخول في الإسلام بالإجبار، قال تعالى: (لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ? قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ ? فَمَن يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللَّهِ فَقَدِ ... وَيُؤْمِن بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى? لَا انفِصَامَ لَهَا ? وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) [البقرة: 256].

 

ولقد عرض القرآن الكريم صفحةً مُشرقةً وطريقةً رائعة لأسلوب الحوار الذي يخلو من الفوقية، ويتجرد عن الاستعلاء، ويَنبُو عن الجفاء، ويتخذ سبيل الحوار المحايد والتحليل العقلي المجرد مدخلا لمن يدعو إلى الله، فقال تعالى: (قل من يرزقكم من السماوات والأرض قل الله وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين ( 24 ) قل لا تسألون عما أجرمنا ولا نسأل عما تعملون ( 25 ) قل يجمع بيننا ربنا ثم يفتح بيننا بالحق وهو الفتاح العليم) [سبأ: 26].

 

وقد حذر القرآن الكريم الدعاة من اتخاذ الجفوة طريقًا للدعوة، فقال تعالى: (وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ فَيَسُبُّواْ اللّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ) [الأنعام: 108].

كما أبرز الله تعالى على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم طريق دعوته، فقال: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّه عَلَى بَصِيرَة أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّه وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) [يوسف: 108].

 

ولعل لَبسًا يتخلل ما ذكرناه؛ فيقول قائل: إن الحق أبلج، والباطل لجلج، وأن الواجب إقامة الحجة، والتحذير من العاقبة !!

 

ذلك كله صحيح، ولكن: مَن ذا الذي يزعم أن هذا لا يصلح إلى على سبيل الاستعلاء، أو طريق التبكيت والجفاء، إن أسوتنا رسول الله صلى الله عليه وسلم رَغم ما عاناه من قومه، قال داعيا لهم: (اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون).

 

فحقيق بالدعاة الصادقين أن يتحَلَّوا ببَسمَةٍ آسرَةٍ، وكلمةٍ جاذبةٍ، وفكرةٍ نضرةٍ، وعرضٍ شَيّقٍ وبحثٍ مُجرَّد، وتواضع جَمّ، وخُلُقٍ رفيع، مُتَأسِّين بسيد الخلق صلى الله عليه وسلم الذي وصفه ربه سبحانه (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) [القلم: 6]، ومُستَنِّينَ باختياره كما ورد في الحديث: (ما خُيِّرَ رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين إلا أخذ أيسرهما) [رواه مسلم].

ومُتَحَلِّين بالرفق ُمصطبِغين بالرِّقَّة، حيث ذكر النبي صلى الله عليه وسلم قوله: (إِنَّ الرِّفْقَ لا يَكُونُ فِي شَيْءٍ إِلا زَانَهُ ، وَلا نُزِعَ مِنْ شَيْءٍ إِلا شَانَهُ) [رواه مسلم].

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين