بيننا وبينكم الجنائز

لا تزال البشائر تنزل على قلوبنا بردا وسلاما، وتحط على صفحات نفوسنا ندى وشذا، برغم شدة المحن، وتتابع الشدائد، ومع تآمر حقراء الداخل ومجرمي الخارج على مصرنا وأخواتها المنكوبات بالعملاء وعباد البطون والفروج والأهواء.

نعم، لا تزال البشريات – في بحار آلامنا - ترطب القلوب، وتزرع في النفوس الثقة، وتبدد الظلمة الحالكة، وترينا مصارع الظالمين جد قريبة، فما كان الله ليدع مَن طلبه بإيمان، وقصده بإخلاص، وضحى في سبيله، ورجا عونه، واستغاث به واستجار، وطلب أجره وسط بحار الأوجاع دون أن تأتيه من خلف ستار الغيب رسائل طمأنة تسبق وعد الله بالنصر..

هي "رسائل طمأنة" بحق؛ ليعلم عباد الله الحق أن الشدائد والمحن - وإن عظمت - فإنها إلى انكشاف، فقط يُرون الله من أنفسهم خيرا، يثبتون كما الجبال تقاوم الرياح الهوج، والرواسي تصابر الزلازل الحاطمة، ومن الله سيأتي النصر في ساعة ستكون أفضل مما اخترتم لأنفسكم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}.

إن البشائر لتنطق بلسان فصيح قائلة: أما الظُّلمة فسيبددها الضياء، والمحنة سيذهب بها الأمل في الله، والشدائد ستتلاشى على صخرة الصبر في الله، ومؤامراتُ الظالمين ومكر الليل والنهار ستُفضَح على رءوس الأشهاد في الدنيا قبل الآخرة.

بشرى الجنائز:

ومن البشائر التي تطمئن الثائرين في وجه الانقلاب الآثم في مصر إلى سلامة موقفهم وصحة اختيارهم: ما نراه من حال شهداء الشرعية والثورة من ابتسامة عريضة تملأـ الفم والوجه، ودماء تحكي ريحُها أطيب مسك، وجنائز تشهدها جموع غفيرة، مع أن الشهيد - أو الشهيدة – ليس زعيما مشهورا، ولا مطربة جماهيرية ذائعة الصيت، ولا لاعبَ كرة حقق إنجازات دولية وقارية، بل عبد من عباد الله كان أمس مجهولا أو شبه مجهول وسُفك دمه اليوم في سبيل الله.

إن الخارجين من ميادين الحرية مضمخين بالمسك إلى دار غير الدار، وجار غير الجار، ليلوّحون لنا من خلف أستار الأكفان، يلوّحون للجموع الحاشدة التي تودعهم: أن اصبروا معاشر ثوار الحق والحقيقة، فإما أن تلحقونا وعبير الشهادة يملأ منكم الأكوان والأجواء والأنحاء، وإما أن تُقيموا في أرض الله حُكما صالحا مؤسسا على المبادئ التي متنا من أجلها{مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَال صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبه وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِر وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا}..

لا تجزعوا، فقتلى الحق في الجنة، وقتلى الباطل في النار، لا تجزعوا فرائحة النتن تتصاعد من جند الباطل وهم أحياء، وشهداء الحق ترسم دماؤهم معالم الطريق، ويكشف مسكهم الأذفر أفقا واسعا يقابله طريق للباطل أضيق من مسالك نَفَس المصدور.

صاحب الكلمة:

لقد وقف إمام أهل السنة أحمد بن حنبل قبل يومنا هذا بقرابة اثني عشر قرنا يضيف إلى حججه التي أفحم بها جهال المعتزلة قولةً فاصلة تميز جماعة الحق من حزب الباطل، وتفصل بين الفريقين فصلا بيِّنا: قولوا لأهل البدع: بيننا وبينكم الجنائز حين تمر.. قالها بعد فصول طويلة من الصبر والثبات في وجوه الظلم الأخرق.

وكانت كلمة.. كانت كلمة من الإمام الكبير صدّقتها شواهد التاريخ، وأثبتتها أحداث الواقع، فشهدت جنازة أحمد وجنازة كثير من الصالحين - حيث لا مجاملة ولا مراءاة للميت – حشودا ضخمة من البشر؛ وأعدادا غفيرة من الناس؛ قال ابن كثير عن وفاة أحمد: "وحضر غسله نحو من مائة من بيت الخلافة من بني هاشم، فجعلوا يقبلون بين عينيه، ويدعون له ويترحمون عليه رحمه الله. وخرج الناس بنعشه والخلائق حوله من الرجال والنساء ما لم يعلم عددهم إلا الله، ونائب البلد محمد بن عبد الله بن طاهر واقف في جملة الناس، ثم تقدم فعزَّى أولاد الإمام أحمد فيه، وكان هو الذي أمَّ الناس في الصلاة عليه... ولم يستقر في قبره رحمه الله إلا بعد صلاة العصر؛ وذلك لكثرة الخلق.

يقول ابن كثير: "وقد روى البيهقي وغير واحد: أن الأمير محمد بن طاهر أمر بحزر (=عدّ) الناس، فوُجِدوا ألف ألف وثلثمائة ألف... وقال ابن أبي حاتم: سمعت أبا زرعة يقول: بلغني أن المتوكل أمر أن يمسح الموضع الذي وقف الناس فيه حيث صلوا على الإمام أحمد بن حنبل، فبلغ مقاسه ألفي ألف وخمسمائة ألف...

وقال: "قال عبد الرحمن بن أبي حاتم: سمعت أبي يقول: حدثني محمد بن العباس المكي، سمعت الوركاني - جار أحمد بن حنبل - قال: أسلم يوم مات أحمد عشرون ألفا من اليهود والنصارى والمجوس. وفي بعض النسخ: أسلم عشرة آلاف بدل عشرين ألفا، فالله أعلم".

ثم قال ابن كثير: "وقد صدق اللهُ قولَ أحمد في هذا؛ فإنه كان إمام السنة في زمانه، وعيون مخالفيه أحمد بن أبي داؤد - وهو قاضي قضاة الدنيا - لم يحتفل أحد بموته، ولم يلتفت إليه، ولما مات ما شيعه إلا قليل من أعوان السلطان".

والمسألة ليست أعدادا غفيرة فحسب، فذلك هو ظاهر المشهد، فإن أصناف من ودعوا الإمام لتلفت النظر أكثر، فمنهم الأمير والشريف والتاجر والجندي والفقير والمسكين والعالم والزاهد والعامة والخاصة، فمن حسنت منهم نيته فقد طلب أجرا لا رياء معه، ومن كان غير ذلك فقد أراد أن يزيد بشهود الجنازة وجاهة، أو يثبت سلطانا.

وشهداء الشرعية وأنصارها يمضون اليوم على خطى أسلافهم، ويثبتون أصالتهم في الطريق الذي سلكته جماهير أمتنا منذ غرس النبي المصطفى غرسها بعيدا عن طرق الشذاذ والعملاء والخوارج والبغاة والطغاة، فلا عجب أن نرى في جنائز سمية وحبيبة ومصطفى وبلال، وعشرات، ومئات، وآلاف مثلما سمعنا عن جنائزهم.

هي الجنائز إذن:

هي الجنائز إذن؛ شاهد حق ودليل صدق على طريق اختاره أصحابها، فإن كانوا قد ماتوا وتركونا، فإن وصيتهم ستظل معلقة في رقابنا تطالبنا لا بحقهم فقط، ولكن بحق أجيال قتلتها الأمراض، وأنهكت أبدانها العلل، ستظل تطالبنا بحق تراب الوطن وقمحه وقطنه وهوائه ومائه؛ أطفاله ونسائه، شيوخه وشبابه..

إنه ليس ثأرك وحدك،

لكنه ثأر جيلٍ فجيل

وغدًا..

سوف يولد من يلبس الدرع كاملة،

يوقد النار شاملة،

يطلب الثأرَ،

يستولد الحقَّ،

من أضلع المستحيل

وإن كان أمل دنقل ينتظر في لحظته من يلبس الدرع كاملة، فأنت – أيها الثائر اليوم في وجه الانقلاب الأثيم - قد لبست الدرع كاملة، وأوقدت النار شاملة تطلب لا ثأرك وحده، ولكن ثأرك وحقك، فإن الثأر نار تشتعل ثم تخمد بعد مصرع الظالم، وأما طالب الحق، فإن الجذوة تبقى في صدره مشتعلة حتى يبلغ الكتاب أجله؛ يبني ويؤسس مملكة الخير على أنقاض مملكة الشر الهالكة.

أخي الثائر، ليس من حقك أن تُحبَط، وليس من حقك أن تهرب أو تتخاذل، فخلفك عار الدنيا إن هربت أو تخاذلت، ليس اليأس من أخلاقنا، ولا التخاذل من شيمنا:

إنها الحرب

قد تثقل القلب..

لكن خلفك عار العرب

لا تصالح

ولا تتوخ الهرب

لا تنظر إلى كثرة جنائزنا فتيأس، ولا مؤتمراتهم وقراراتهم فتُحبَط، ولكن انظر إلى من ينتظرك أن تعود له بأكاليل الغار ونياشين العز تزين جبهتك، انظر خلفك وأمامك ستجد الحشود معك، وقبل ذلك الله – إن نصرته – معك.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين