[ بيعة داعش على الخلافة من غير مشورة المسلمين فتنة ]

 

" ملعون مَنْ أيقظها "

 

 

هذا العنوان من كلمة قالها أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، في أواخر أيام خلافته ، قبل أن يستشهد بقليل ، لتكون دستورا للمسلمين في البيعة على الخلافة .. وهذه المقالة على وجازتها ، هي من الإلهام الإلهي ، الذي كان يجري على لسان عمر في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وبعد وفاته . حتى وصفه النبي صلى الله عليه وسلم بالمُحدَّث أي الملهم فقال: " إنْ يَكُنْ منكم مُحَدّثون فعُمَرُ "

ومما جاء في صحيح البخاري، أن عمر صعد المنبر فقال في خطبة له طويلة : " بَلَغَنِي أَنَّ قَائِلًا مِنْكُمْ يَقُولُ: وَاللَّهِ لَوْ مَاتَ عُمَرُ بَايَعْتُ فُلَانًا. فَلَا يَغْتَرَّنَّ امْرُؤٌ أَنْ يَقُولَ إِنَّمَا كَانَتْ بَيْعَةُ أَبِي بَكْرٍ فَلْتَةً وَتَمَّتْ, أَلَا إِنَّهَا قَدْ كَانَتْ كَذَلِكَ . وَلَكِنَّ اللَّهَ وَقَى شَرَّهَا ، وَلَيْسَ مِنْكُمْ مَنْ تُقْطَعُ الْأَعْنَاقُ إِلَيْهِ مِثْلُ أَبِي بَكْر. مَنْ بَايَعَ رَجُلًا مِنْ غَيْرِ مَشُورَةٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَلَا يُبَايَعُ هُوَ وَلَا الَّذِي بَايَعَهُ تَغِرَّةً أَنْ يُقْتَلَا "

يقول عمر :" وَإِنَّهُ قَدْ كَانَ مِنْ خَبَرِنَا حِينَ تَوَفَّى اللَّهُ نَبِيَّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّ الْأَنْصَارَ خَالَفُونَا وَاجْتَمَعُوا بِأَسْرِهِمْ فِي سَقِيفَةِ بَنِي سَاعِدَةَ ، وَخَالَفَ عَنَّا عَلِيٌّ وَالزُّبَيْرُ وَمَنْ مَعَهُمَا ، وَاجْتَمَعَ الْمُهَاجِرُونَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ ، فَقُلْتُ لِأَبِي بَكْرٍ: يَا أَبَا بَكْرٍ انْطَلِقْ بِنَا إِلَى إِخْوَانِنَا هَؤُلَاءِ مِنَ الْأَنْصَارِ، فَانْطَلَقْنَا نُرِيدُهُمْ فَلَمَّا دَنَوْنَا مِنْهُمْ لَقِيَنَا مِنْهُمْ رَجُلَانِ صَالِحَانِ فَذَكَرَا لَنَا مَا تَمَالَأَ عَلَيْهِ الْقَوْمُ , فَقَال – أي أحد الأنصاريين - : أَيْنَ تُرِيدُونَ يَا مَعْشَرَ الْمُهَاجِرِينَ ؟ فَقُلْنَا: نُرِيدُ إِخْوَانَنَا هَؤُلَاءِ مِنَ الْأَنْصَارِ. فَقَالَ : لَا عَلَيْكُمْ أَنْ لَا تَقْرَبُوهُمْ , اقْضُوا أَمْرَكُمْ ( كأن الأنصاري خشي إن ذهبوا إليهم أن يختلفوا ، فنصح بأن يقضي المهاجرون أمرهم دون الذهاب إلى من  في السقيفة ) فَقُلْتُ – القائل عمر - : وَاللَّهِ لَنَأْتِيَنَّهُمْ , فَانْطَلَقْنَا حَتَّى أَتَيْنَا سَقِيفَةَ بَنِي سَاعِدَةَ ، فَإِذَا رَجُلٌ مُزَمَّلٌ بَيْنَ ظَهْرَانَيْهِمْ ، فَقُلْتُ : مَنْ هَذَا؟ فَقَالُوا: هَذَا سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ ، فَقُلْتُ : مَا لَهُ ؟ قَالُوا: يُوعَكُ ( أي مريض بالحمَّى ) فَلَمَّا جَلَسْنَا قَلِيلًا تَشَهَّدَ خَطِيبُهُمْ ( أي خطيب الأنصار)  فَأَثْنَى عَلَى اللَّهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ ثُمَّ قَالَ : أَمَّا بَعْدُ فَنَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ وَكَتِيبَةُ الْإِسْلَامِ، وَأَنْتُمْ مَعْشَرَ الْمُهَاجِرِينَ رَهْطٌ ، وَقَدْ دَفَّتْ دَافَّةٌ ( أي جماعة غرباء عنا ) مِنْ قَوْمِكُمْ فَإِذَا هُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يَخْتَزِلُونَا مِنْ أَصْلِنَا وَأَنْ يَحْضُنُونَا مِنَ الْأَمْرِ (أي يريدون أن يقصونا عن الأمر وينفردوا به دوننا ) .

فَلَمَّا سَكَتَ ( خطيب الأنصار ، قال عمر ): أَرَدْتُ أَنْ أَتَكَلَّمَ وَكُنْتُ زَوَّرْتُ مَقَالَةً أَعْجَبَتْنِي أُرِيدُ أَنْ أُقَدِّمَهَا بَيْنَ يَدَيْ أَبِي بَكْرٍ، وَكُنْتُ أُدَارِي مِنْهُ بَعْضَ الْحِدّة ، فَلَمَّا أَرَدْتُ أَنْ أَتَكَلَّمَ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: عَلَى رِسْلِكَ . فَكَرِهْتُ أَنْ أُغْضِبَهُ، فَتَكَلَّمَ أَبُو بَكْرٍ فَكَانَ هُوَ أَحْلَمَ مِنِّي وَأَوْقَر، وَاللَّهِ مَا تَرَكَ كَلِمَةً أَعْجَبَتْنِي فِي تَزْوِيرِي إِلَّا قال في بديهه مِثْلَهَا وَأَفْضَلَ مِنْهَا ، حَتَّى سَكَتَ (أبو بكر) فَقَالَ ( للأنصار ) : مَا ذُكِرَ فِيكُمْ مِنْ خَيْرٍ فَأَنْتُمْ لَهُ أَهْلٌ ، وَلَنْ يُعْرَفَ هَذَا الْأَمْرُ إِلَّا لِهَذَا الْحَيِّ مِنْ قُرَيْشٍ ، هُمْ أَوْسَطُ الْعَرَبِ نَسَبًا وَدَارًا ، وَقَدْ رَضِيتُ لَكُمْ أَحَدَ هَذَيْنِ الرَّجُلَيْنِ فَبَايِعُوا أَيَّهُمَا شِئْتُمْ . ( قال عمر ): فَأَخَذَ (أبو بكر) بِيَدِي وَبِيَدِ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ الْجَرَّاحِ وَهُوَ جَالِسٌ بَيْنَنَا ، فَلَمْ أَكْرَهْ مِمَّا قَالَ غَيْرَهَا. كَانَ وَاللَّهِ أَنْ أُقَدَّمَ تُضْرَبُ عُنُقِي وَلَا يُقَرِّبُنِي ذَلِكَ مِنْ إِثْمٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَتَأَمَّرَ عَلَى قَوْمٍ فِيهِمْ أَبُو بَكْرٍ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ تُسَوِّلَ إِلَيَّ نَفْسِي عِنْدَ الْمَوْتِ شَيْئًا لَا أَجِدُهُ الْآنَ .

فَقَالَ قَائِلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ ( هو الحباب بن المنذر ) : أَنَا جُذَيْلُهَا الْمُحَكَّكُ وَعُذَيْقُهَا الْمُرَجَّبُ ( يريد أن يقول أن عنده الحل الشافي) : مِنَّا أَمِيرٌ وَمِنْكُمْ أَمِيرٌ يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ (..قال عمر) :فَكَثُرَ اللَّغَطُ وَارْتَفَعَتِ الْأَصْوَاتُ حَتَّى فَرِقْتُ مِنَ الِاخْتِلَافِ . فَقُلْتُ : ابْسُطْ يَدَكَ يَا أَبَا بَكْرٍ. فَبَسَطَ يَدَهُ فَبَايَعْتُهُ وَبَايَعَهُ الْمُهَاجِرُونَ ثُمَّ بَايَعَتْهُ الْأَنْصَارُ, وَنَزَوْنَا عَلَى سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ ، فَقَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ : قَتَلْتُمْ سَعْدَ بْنَ عِبَادَةَ . فَقُلْتُ : قَتَلَ اللَّهُ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ .

قَالَ عُمَرُ: وَإِنَّا وَاللَّهِ مَا وَجَدْنَا فِيمَا حَضَرْنَا مِنْ أَمْرٍ أَقْوَى مِنْ مُبَايَعَةِ أَبِي بَكْرٍ . خَشِينَا إِنْ فَارَقْنَا الْقَوْمَ وَلَمْ تَكُنْ بَيْعَةٌ أَنْ يُبَايِعُوا رَجُلًا مِنْهُمْ بَعْدَنَا, فَإِمَّا بَايَعْنَاهُمْ عَلَى مَا لَا نَرْضَى ، وَإِمَّا نُخَالِفُهُمْ فَيَكُونُ فَسَادًا , فَمَنْ بَايَعَ رَجُلًا عَلَى غَيْرِ مَشُورَةِ الْمُسْلِمِينَ فَلَا يُتَابَعُ هُوَ وَالَّذِي بَايَعَهُ تَغِرَّةً أَنْ يُقْتَلَا  " .

فعمر رضي الله عنه ينكر أشد الإنكار ، أن يَعمَدَ رجلٌ إلى رجل فيبايعه بالخلافة، على غير مشورة من المسلمين. ويشير إلى أنَّ مثل هذا التصرف، قد يفتح بابا للشر، لا يغلق حتى يقتل به كلا هذين المتبايعين . وهذا معنى قوله ": تَغِرَّةً أَنْ يُقْتَلَا " أي حذرا من أن يؤدِّي هذا التصرف إلى قتل الرجلين معا .. لما افتاتا على المسلمين ببيعة ، يُهدَرُ فيها حقهم في اختيار من يحكمهم ، ويُفرَضُ عليهم حاكم ما ، قد لا يكون أهلا لسياسة الدين والدنيا .. وإنَّ مِنْ شأن تصرفٍ متسرع من هذا النوع ، أن يفتح بابا للخلاف والاحتراب ما بين المسلمين ..وتكون فتنة يكون من أوائل ضحاياها ، ذلكما الرجلان اللذان فتحا بابها .

ومن هذا الحديث الآنف الذكر ، نجد أن عمر يحذر من بيعة " الفلتة " ويمنع أن يفعلها أحد محتجاً بأن بيعة أبي بكر كانت كذلك  ..

والفلتةُ : هنا بمعنى " انتهاز الفرصة ، وهي مأخوذة مما كان يفعله الناسُ في الجاهلية قبل الإسلام من الإسراع إلى الأخذ بالثأر ، في الليلة التي يُشَكُّ فيها هل هي من رجب أو شعبان ؟ وهل هي من المحرم أو صفر ؟ حيث كان العرب لا يشهرون السلاح في الأشهر الحرم، فكان من له ثأر تربَّصَ وانتظر .. فإذا جاءت ليلة الشك، انتهز الفرصة من قبل أن يتحقق انسلاخ الشهر، فيتمكن ممن يريد إيقاع الشر به وهو آمن، فيترتب على ذلك التسرع في الإقدام على أخذ الثأر شر كثير ، ويفتح بهذا القتل بابٌ جديدٌ لثأرٍ جديد  ..

وإنما كان وَصْفُ عمرَ ( لبيعة أبي بكر بأنها فلتة ) أي متسرعة . لأن الجامع بينها وبين ( الأخذ بالثأر فلتةً ) هو انتهاز الفرصة فيهما . لكنَّ عُمرَ أشار إلى الفارق في القياس، إذ كان ينشأ عن الإسراع إلى ( أخذ الثأر) شر كثير، وكان يمكن أن يقع مثله في بيعة أبي بكر، ولكنْ وقى الله المسلمين منه، فلم ينشأ عن بيعته شر البتة، بل أطاعه الناس كلهم ، من حضر البيعة ومن غاب عنها  ..

ولهذا خوَّف عمرُ الناسَ من الإقدام على مثل تلك البيعة في المستقبل ، فقال - رضي الله عنه -  : " بَلَغَنِي أَنَّ قَائِلًا مِنْكُمْ يَقُولُ : وَاللَّهِ لَوْ مَاتَ عُمَرُ بَايَعْتُ فُلَانًا. فَلَا يَغْتَرَّنَّ امْرُؤٌ أَنْ يَقُولَ إِنَّمَا كَانَتْ بَيْعَةُ أَبِي بَكْرٍ فَلْتَةً وَتَمَّتْ، أَلَا إِنَّهَا قَدْ كَانَتْ كَذَلِكَ . وَلَكِنَّ اللَّهَ وَقَى شَرَّهَا "

وفي قوله: "وقى الله شرها " إيماء إلى خطورة البيعة بعيدا عن مشورة أهل الحل والعقد كافة ، والتحذير من الإقدام على مثل ذلك ، حذرا من وقوع الشر، لأن المسلمين - وفي غالب أحوالهم - لا يوجد فيهم رجل مثل أبي بكر ، يكون محل إجماع وقبول لدى كل المسلمين ، خصوصا بعد فساد الأحوال  ..

لقد أسرع المسلمون يوم السقيفة ، إلى عقد البيعة بمن حضر فيها من المهاجرين والأنصار، مخافة أن ينفضوا على غير بيعة، فيعمد الأنصار إلى مبايعة سعد بن عبادة ، ويكون المسلمون بعد ذلك حيال أمرين ، كلاهما شر ، فإما أن يبايعوا على مضض ، وإما أن يرفضوا ، وينجم عن ذلك حدوث فتنة واقتتال بين المسلمين .. لهذا فضلوا البتَّ في الأمر بسرعة ، وأغلقوا بذلك ثغرة ، كان يمكن أن ينفذ منها الشيطان ، فينزغ بين المهاجرين والأنصار ، وينفرط عقد الإسلام ، ويرجع الناس كفارا يضرب بعضهم رقاب بعض ..

إذن ، فالبيعة للبغدادي " فلتة " نهى عنها عمر .. وأقره من سمعه من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يراجعوه في ذلك ، فكان سكوتهم بمثابة الإجماع على بطلان بيعة الفلتة ، التي أقدم عليها البغدادي وشركاه من أمراء داعش ، أولئك المُقنَّعين ، الذين لم يَعرِف المسلمون لهم حقيقة حتى الآن . وكل ما عرفوه عنهم هو أنهم حلفاء للنصيرية وشيعة إيران على قتل المسلمين . فكيف يُتصوَّرُ أن يبايعهم المسلمون بالخلافة، وهم يُسلطون السيف على رقابهمٍ، ويساعدون براميل الأسد على قتلهم وإبادتهم..!!!!

 

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين