بيعة ثم بيعة

 

 

في سبيل تحقيق السمو النفسي والاجتماعي لا يُفرِّق الإسلام بين جهاد المرء لبلوغه الكمال في خاصة نفسه، وجهاده لتوطيد الحق في أرجاء المجتمع الكبير.

فإنَّ الدعوة إلى الخير لا تسوغ من عَليل القلب مُضطرب السلوك، كما أنَّ سليم القلب شريف السيرة لا يسكت على بيئة مُضطربة الضمير مُهتزة الخلق.

والحضارة الحديثة تفرق بين السلوك الشخصي، والسلوك العام، وربما قبلت من الرجل أن يكون له جانبان، أحدهما رديء في حياته الخاصة، والآخر حسن في حياته العامَّة.

وهذا الانشطار في النفس الإنسانية غير مقبول ولا معقول من الناحية الدينيَّة.

وقد كان الإسلام بعد عشر سنين على ظهوره في مكة يُعاني آلام الغربة الروحية والحصار الاقتصادي والاستضعاف الشائن، وكان المسلمون جديرين بقبول النصرة من أي يد تمتدُّ بها.

وجاء من (يثرب) وفدٌ أنعش الآمال، فرج يبدد هذا الضيق، وضياء يكشف تلك الغُمَّة، ولكن الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم استقبل هذا الوفد، ليعلمه قبل كل شيء أصول العقيدة السليمة، ويُمَسِّكَه بمعاقد العمل الصالح.

إنَّ الأنبياء لا يكافحون بمرتزقة يحملون السيف في أيديهم، وإنما يحاربون برجال يَستبطنون الإيمان والشرف في قلوبهم وسلوكهم.

وهذا ما تنضح به الكلمات والوصايا والخطب التي وعاها التاريخ في بيعتي العقبة الصغرى والكبرى.

في البيعة الأولى: جاء الرجال الذين شرح الله صدورهم بالإسلام. وقد لقيهم النبي صلى الله عليه وسلم بالعقبة، وعقد معهم بيعة على الإيمان بالله وحده، والاستمساك بفضائل الأعمال والبعد عن مناكرها.

عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه: بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة الأولى ألا نشرك بالله شيئاً، ولا نسرق، ولا نزني ولا نقتل أولادنا، ولا نأتي ببهتان نفتريه، بين أيدينا وأرجلنا، ولا نعصيه في معروف.

قال: فإن وفيتم فلكم الجنة، وإن غَشِيتم من ذلك شيئاً، فأُخذتم بحدِّه في الدنيا فهو كفارة له. وإن سترتم عليه إلى يوم القيامة فأمركم إلى الله، إن شاء عذب وإن شاء غفر. [أخرجه أحمد وغيره]

هذا ما كان سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم يدعو إليه وكانت الجاهلية تنكره عليه. أيكره هذه العهود إلا مجرم يحب للناس الريبة، ويود للأرض الفساد؟!

أتمَّ وفدُ الأنصار البيعة، ثم قَفَل عائداً إلى (يثرب)، فرأى النبي صلى الله عليه وسلم أن يبعث معهم أحد الثقاة من رجاله ليتعهَّد نماء الإسلام في المدينة ويقرأ على أهلها القرآن ويُفَقِّههم في الدين، ووقع اختياره على (مُصعب بن عمير) رضي الله عنه ليكون هذا المعلِّم الأمين.

ونجح (مصعب) رضي الله عنه أيَّما نجاح في نشر الإسلام، وجمع الناس عليه، واستطاع أن يتخطَّى الصعاب التي توجد – دائماً – في طريق كل نازح غريب، يحاول أن ينقل الناس من موروثات ألغوها إلى نظام جديد يشمل الحاضر والمستقبل ويعم الإيمان والعمل، والخلق والسلوك.

ولا تحسبنَّ (مصعباً) رضي الله عنه كأولئك المرتزقة من المبشَّرين الذين دسَّهم الاستعمار الغربي بين يدي زحفه على الشرق، فترى الواحد منهم يقبع تحت سريرِ مريضٍ ليقول له: هذه القارورة تقدمها لك العذراء وهذا الرغيف يهديك إياه المسيح.

وربما فتح مدرسة ظاهرها الثقافة المجرَّدة أو ملجأ ظاهره البر الخالص، ثم لوى زمام الناشئة من حيث لا يدرون، ومالَ بهم حيث لا يُريدون.

هذا ضرب من التلصص الروحي، يتوارى تحت اسم الدعوة إلى الدين.

والذين يُمثِّلون هذه المساخر، يجدون الجرأة على عملهم من الدول التي تبعث بهم، فإذا رأيت إصرارهم ومُغامرتهم فلا تنسَ القُوى التي تساند ظهورَهم في البر والبحر والجو.

أما مصعب رضي الله عنه فكان من ورائه نبي مُضطَّهَد، ورسالة مُعتبرة ضد القانون السائد، وما كان يَملك من وسائل الإغراء ما يُطمِعُ طلابَ الدنيا ونهَّازي الفُرَص، كل ما لديه ثروة من الكياسة والفطنة قبسها من محمد صلى الله عليه وسلم، وإخلاص لله تعالى، جعله يضحي بمال أسرته وجَاهها في سبيل عقيدته. 

ثم هذا القرآن الذي يتأنَّق في تلاوته، ويتخيَّر من روائعه، ما يغزو به الألباب فإذا بالأفئدة ترقُّ له، وتتفتح للدين الجديد.

وعاد (مصعب) رضي الله عنه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة قبيل الموسم الحافل يخبره بما لقي الإسلام من قبول حسن في (يثرب) ويبشره بأنَّ جموعاً غفيرة دخلت فيه عن اقتناع مسَّ شغافهم، وبصر أنار أفكارهم وسوف يرى من وفودهم بهذا الموسم ما تقرُّ به العين.

بيعة العقبة الكبرى:

إنَّ الرجال الذين اعتنقوا الإسلام عرفوا – دون شك – تاريخه القريب والصعاب الهائلة التي لقيها، وحزَّ في نفوسهم أن يُستضعف إخوانهم في مكة، وأن يخرج نبيُّهم صلى الله عليه وسلم وهو يدعو إلى الله سبحانه، فلا يجد إلا آثماً أو كفوراً.

ولذلك تساءلوا – وهم خارجون من المدينة قاصدين البيت العتيق – حتى متى نترك رسول الله صلى الله عليه وسلم يطوف ويُطرد في جبال مكة ويخاف؟

لقد بلغ الإيمان أوجَه في هذه القلوب الفتيَّة، وآن لها أن تنفس عن حماسها وأن تفكَّ هذا الحصار الخانق المضروب حول الدعوة والداعية.

قال جابر بن عبد الله رضي الله عنه: فرحل إليه منا سبعون رجلاً حتى قدموا عليه في الموسم، فواعدناه شعب العقبة، فاجتمعنا عندها من رجل ورجلين حتى توافينا، فقلنا يا رسول الله، علام نبايعك؟ قال صلى الله عليه وسلم تبايعونني على السمع والطاعة في النشاط والكسل، والنفقة في العسر واليسر، وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن تقوموا في الله، لا تخافون لومة لائم، وعلى أن تنصروني فتمنعوني – إذا قدمت عليكم – مما تمنعون منه أنفسكم وأزواجكم وأبناءَكم ولكم الجنة.

فقمنا إليه، وأخذ بيده (أسعد بن زرارة) رضي الله عنه وهو أصغر السبعين بعدي فقال: رويداً يا أهل يثرب فإنا لم نضرب أكباد الإبل إلا ونحن نعلم أنه رسول الله، وإن إخراجه اليوم مناواة للعرب كافة، وقتل خياركم، وأن تعضكم السيوف.

فإما أنتم قوم تصبرون على ذلك فخذوه، وأجركم على الله، وإما أنتم قوم تخافون من أنفسكم خيفة فذروه، فبيِّنُوا ذلك فهو أعذر لكم عند الله.

فقالوا يا (أسعد) أعطنا يدك فوالله لا نذر هذه البيعة، ولا نستقيلها فقمنا إليه رجلاً رجلاً فبايعناه. [أخرجه أحمد، وابن حبَّان]

وعن كعب بن مالك رضي الله عنه: نمنا تلك الليلة ليلة العقبة – مع قومنا في رحالنا حتى إذا مضى ثلثُ الليل خرجنا من رحالنا لميعاد رسول الله صلى الله عليه وسلم نتسلَّلُ تسلُّل القطا مُستخفين حتى اجتمعنا في الشِّعْبِ عند العقبة ونحن ثلاثة وسبعون رجلاً، ومعنا امرأتان من نسائنا، نسيبة بنت كعب، وأسماء بنت عمرو بن عدي. [أخرجه أحمد].

موقف للعباس رضي الله عنه:

فلما اجتمعنا في الشعب ننتظر رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءنا العباس ابن عبد المطلب، وهو يومئذ على دين قومه، إلا أنَّه أحب أن يحضر أمر ابن أخيه، ويستوثق له، فلما جلس كان أول مُتكلم، قال: يا معشر الخزرج إن محمداً منا حيث قد علمتم، وقد منعناه من قومنا ممن هو على مثل رأينا فيه، فهو في عزَّةٍ من قومه ومَنَعةٍ في بلده، وأنَّه قد أبى إلا الانحياز إليكم واللحوق بكم، فإن كنتُم تَرون أنَّكم وافُون له بما دعوتموه إليه، ومانعوه ممن خالفه فأنتم وما تحمَّلتم من ذلك. وإن كنتم ترون أنكم مُسْلِمُوه وخَاذِلُوه بعد الخروج إليكم من الآن فدعوه، فإنَّه في عِزَّة ومَنَعة من قومه وبلده.

قال كعب: فقلنا له: قد سمعنا ما قلت، فتكلَّم يا رسول الله فخذ لنفسك وربك ما أحببت، فتلا رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن، و دعا إلى الله، ورغَّب في الإسلام ثم قال: أبايعكم على أن تمنعوني مما تمنعون منه نساءكم وأبناءكم.

قال كعب رضي الله عنه: فأخذ البراء بن معرور بيده، وقال: نعم، فوالذي بعثك بالحق لنمنَّعك مما نمنع أزرنا، فبايعنا رسول الله، فنحن – والله – أبناء الحروب ورثناها كابراً عن كابر.

فاعترض هذا القول – والبراء يكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم – أبو الهيثم ابن التيهان، فقال: يا رسول الله إنَّ بيننا وبين الرجال – يعني اليهود – حبالاً وإنا قاطعوها، فهل عسيت إن فعلنا ذلك ثم أظهرك الله، أن ترجعَ إلى قومك وتدعنا؟

قال: فتبسَّم رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: بل الدم الدم، والهدم الهدم، أنا منكم وأنتم مني، أحارب من حاربتُم، وأُسَالِمُ من سالمتم.

وأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يخرجوا منهم اثني عشر نقيباً يكونوا على قومهم بما فيهم، فأخرجوا منهم النقباء، تسعة من الخزرج وثلاثة من الأوس، فقال لهم الرسول عليه الصلاة والسلام: أنتم على قومكم بما فيهم كفلاء ككفالة الحواريين لعيسى بن مريم، وأنا كفيلٌ على قومي. [أخرجه أحمد]

تلكم بيعة العقبة، وما أبرمَ فيها من مَواثيق، وما دار فيها من محاورات.

إنَّ روح اليقين والفداء والاستبسال سادت هذا الجمع، وتمشَّت في كل كلمة قِيلت، وبدا أنَّ العواطف الفائرة ليست وحدها التي توجِّه الحديث، أو تملي العهود كلا، فإنَّ حساب المستقبل روجع مع حساب اليوم، والمغارم المتوقَّعة نظر إليها قبل المغانم الموهومة.

مغانم؟ أين موضع المغانم في هذه البيعة؟ لقد قام الأمر كلُّه على التجرُّد المحض والبذل الخالص.

هؤلاء السبعون مثل لانتشار الإسلام عن طريق الفكر الحرِّ والاقتناع الخالص.

فقد جاءوا من (يثرب) مُؤمنين أشدَّ الإيمان، ومُلبِّين داعي التضحية، مع أنَّ معرفتهم بالنبي صلى الله عليه وسلم كانت لمحةً عابرة، غبرت عليها الأيام، وكان الظن بها أن تزول.

بيد أنَّها لم تزل، بل ربت على مَرِّ الأيام، وما زادتها الأحداث إلا صلابة وتألقاً... والمعروف أنَّ بيعة العقبة أنقذت الإسلام من جبروت الوثنيَّة في مكة، ومَهَّدت للهجرة التي بدأ بها تاريخه الطويل.

إلا أنَّ هذه البيعة – إلى جانب ذلك – كانت نداء الإنقاذ الذي نجا به الإسلام من المآزق المتضايقة.

ففي غزوة حنين، عندما فرَّ الطلقاء والضعفاء للجولة الأولى، أمرَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عمَّه العباس رضي الله عنه، وكان جَهير الصوت فنادى يَمنة ويسرة: يا أصحاب العقبة، فثاب الرجالُ المؤمنون إلى صاحب الرسالة ينعطفون نحوه، وقد هاجت في مَشاعرهم أقدس الذكريات فكانت الجولة الأخرى وجاء بعدها النصر.

ألا ما أجلَّ عهود الشرف في تاريخ الدعوات.

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم. 

 

المصدر: (مجلة الوعي الإسلامي - محرم 1386 - العدد 13).

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين