بكار بن قتيبة مثال القاضي العادل والفقيه العالم


حدث في الرابع والعشرين من ذي الحجة
 الأستاذ . زاهد عبد الفتاح أبو غدة
في الرابع والعشرين من ذي الحجة من عام 270 توفي في مصر، عن 88 عاماً، القاضي الزاهد الصالح بكار بن قتيبة بن أبي برذعة بن عبيد الله بن بشر بن عبيد الله بن أبي بكرة نفيع بن الحارث بن كلدة الثقفي صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولي قضاء مصر قرابة 25 عاماً فكان مثال القاضي العادل التقي والفقيه العالم.
 
ولد بكار بن قتيبة بالبصرة سنة 182، وتفقه على هلال بن يحيى بن مسلم البصري الحنفي، المعروف بهلال الرأى، المتوفى سنة 245، وهو من أصحاب الإمام أبى يوسف، لقب بالرأي، لسعة علمه وكثرة أخذه بالقياس، وهو أول من صنف في علم الشروط والسجلات في القضاء، وله كتاب مشهور في أحكام الوقف، وأخذ هلال هذا العلم عن إمام آخر من أصحاب أبي حنيفة هو زفر بن الهذيل، المولود سنة 110والمتوفى سنة 158.
 
وكان القاضي بكار من كبار المحدثين الحفاظ في زمانه، وروى حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أعلام المحدثين البصريين في أيامه مثل الإمام المحدث صفوان بن عيسى الزُهري، المتوفى سنة 198، والإمام أبي داود الطيالسي المولود سنة 131 والمتوفى بالبصرة سنة 203، الحافظ الكبير، صاحب المسند، وعن الإمام يزيد بن هارون، المولود سنة 118 والمتوفى سنة 206، والحافظ مؤمل بن إسماعيل العدوي المتوفى بمكة سنة 206، والإمام الحافظ عبد الصمد بن عبد الوارث التنوري، المتوفى سنة 207،  إضافة إلى روايته عن عديد من محدثي عصره، ولما كلفه الخليفة بقضاء مصر، نقل القاضي بكار حديث البصريين إلى مصر والشام فأهداه إلى محدثيها وعلمائها، وكتب محديثها فيها الكثير من مروياته.
 
أمضى بكار بن قتيبة 64 سنة من حياته في البصرة، ولا تفيدنا كتب التاريخ كثيراً عن حياته قبل ذهابه إلى مصر، حين عينه الخليفة العباسي المتوكل على الله قاضياً على مصر سنة 246، لما اشتهر عنه من العلم والزهد والورع والفضل، وكان الخليفة يعيّن قضاة الأمصار مثلما يعين ولاتها، وكان الوالي على مصر يزيد بن عبد الله، وهو أول وال على مصر من الأتراك، وكانت ولاتها من قبل من العرب، وجاء تعيين بكار بعد أن بقيت مصر بلا قاض مدة خمس سنين منذ أن عُزِل القاضي محمد بن أبي الليث وعاد إلى بغداد في سنة 241، ومن الطريف أن أهل البصرة عزَّ عليهم أن يخسروا هذا العالم الجليل بسفره إلى مصر، فأرسلوا إليه مع قوم ثقات ببعض الحمام الزاجل وكتبوا إليه يسألونه أن يرسلها إليهم بأخباره ويجواب ما قد يسألوه من أمور، ففعل.
 
وسار بكار سيرة حسنة في القضاء، وكان هو ومن سبقوه يصدرون أحكامهم وفقاً لمذهب الإمام أبي حنيفة، وكان القاضى بكار يتبع في مجلس قضائه أسلوب الترقيق والتخويف بالله، فكان يكثر الوعظ للخصوم ويتلو عليهم آيات القرآن الكريم، وكان في كل جلسة يتلو على كل حالف من الخصوم والشهود قوله تعالى في سورة آل عمران: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلا أُولَئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾، وكان منهم من يرجع عن اليمين إزاء ذلك، ولا يكتفي بكار بذلك بل كان إذا فرغ من الحكم خلا بنفسه وعرض عليه قصص جميع من تقدم إليه، وما حكم به، وكان يراجع نفسه، ويقول: يا بكار، تقدم إليك رجلان فى كذا، وتقدم إليك خصمان فى كذا، وحكمت بكذا، وعملت بكذا، فما يكون جوابك غدًا؟  وكان ضابطاً لأمور محكمته يحاسب أمناءه فى كل وقت، ويستوثق من الشهود فى كل مسألة، وكان رصيناً مهاباً في مجلس قضائه، قال الإمام المعمَّر المحدث أبو العلاء محمد بن أحمد بن جعفر الوكيعي الكوفي نزيل مصر المولود سنة 204 والمتوفى سنة 300: ما سمعت بكار بن قتيبة القاضي قط ينشد بيت شعر إلا مرة، كنت عنده واختصم إليه رجل وابنه، فكان من كلِّ واحد منهما إلى صاحبه ما لم يحمده بكار، فالتفت إليهما وأنا أسمع، فقال:
 
تعاطتيما ثوب العقوق كلاكما ... أبٌّ غير بَرٍّ وابنه غير واصل
 
قال أبو حاتم ابن أخي القاضي بكار بن قتيبة: قدم على عمّي رجل من البصرة له علم وزهادة ونسك فأكرمه وقرَّبة وأدناه، وذكر أنه كان معه في المكتب، فمضت به الأيام فجاء في شهادة ومعه شاهدان من شهود مصر عند عمي فما قبل شهادته، فقلت لعمي: هذا رجل زاهد وأنت تعرفه، قال: يا ابن أخي ما رددت شهادته إلا أنه كنا صغاراً وكنا على مائدة عليها أرز وفيه حلوى فنقبت الأرز بإصبعي فقال لي: أخرقتها لتغرق أهلها؟ فقلت له: أتهزأ بكتاب الله تعالى على الطعام؟! ثم أمسكت عن كلامه مدة، وما أقدر على قبوله وأنا أذكر ذلك منه.
 
وفي سنة 254 عين الخليفة المتوكل أحمد بن طولون والياً على مصر، وسنه 34 عاماً، وكان شجاعا جوادا حسن السيرة، يباشر الأمور بنفسه، ولكنه كان شديد الإثخان والفتك فيمن عصاه، وكان ابن طولون قد قرأ القرآن في صغره ودرس الفقه، فكان يعظم بكارًا ويحترمه ويحضر مجالسه ويسمع عليه، قال الإمام أبو جعفر الطحاوي: وكان بكار من الحمد فى ولايته عليها، ومن القبول لأهلها إياه، ومن عفته عن أموالهم، ومن سلامته فى أحكامه، ومن اضطلاعه بذلك على نهاية ما يكون عليه مثله، حتى لو كانت أخلاقه ومذاهبه هذه فيمن تقدم، لكان بين بها عن كثير منهم، وكان الأمير أحمد بن طولون من المعرفة بحقه، والميل إليه، والتعظيم لقدره على نهاية، وكان يأتى إليه بمحضرنا وهو يملى على الناس الحديث على كثرة من كان يحضر مجلسه فيمنع حاجبُ ابن طولون مستمليَ القاضي من التوقف عن الاستملاء عليه، ثم يصعد ابن طولون إليه إلى المجلس الذى كان يحدث فيه، فيقعد مع الناس فيه ويستتم بكار مجلسه وهو حاضر لا يقطعه بحضوره إياه.
 
ومات رجل من المتعهدين وعليه مال للأمير وله أطفال، فطلب عاملُ الخراج من أحمدَ بن طولون أن يأمر القاضي ببيع داره فيما عليه، فأرسل ابن طولون إلى القاضي بكار في ذلك، فقال: حتى يثبت عليه الدين، فأثبتوه وسألوه البيع، فقال: حتى يثبت عندي أنه ملكه، فأثبتوه ثم سألوه البيع، فقال: حتى يحلف من له الدَّين، فحلف ابن طولون، فقال بكار: أما الآن فنعم، قد أمرت بالبيع.
 
ومن نباهة القاضي بكار أن رجلاً خاصم عنده آخر شافعياً في شُفعة جوار، والشافعية لا يرون الشفعة في الجوار، فطالبه عند بكار، فأنكر، فطاوله بكار حتى عرف أنه من أهل العلم، فقال بكار للمدعي: ألك بينة؟ قال: لا. قال لخصمه: أتحلف؟ قال: نعم. فحلفه، فحلف، فزاد في آخر اليمين: إنه ما يستحق عليك هذه الشفعة على قول من يعتقد شفعة الجوار، فامتنع، فقال له بكار: قُم فأعطه شُفعته. فأخبر الرجل الإمام أبا إسحاق المزني بما جرى معه، فقال له: صادفت قاضياً فقيهاً.
 
ومن فقه القاضي بكار في مصالح المسلمين أنه ما كان يحكم دائماً بالمذهب الحنفي، فقد مات رجل آخر وعليه مال، وله دار قد جعلها وقفاً، فقال عامل الخراج لأحمد: إن القاضي بكار يرى بيع الوقف، فسأله ففعل كما فعل في المرة التي سبقت، فلما ثبت الدَّين، وثبت وضع يده عليه، وأنه وقف، قال ابن طولون لبكار: مُر ببيعه على مذهبك. فسكت ساعة، فعاوَده، فقال: أيها الأمير إنك قد بنيت المسجد الجامع والمارستان، والسقاية والصهريج، وحبست على ذلك ما شاء الله، فلا تجعل لغيرك على أحباسك سبيلاً. فسكت أحمد. ويجدر أن نذكر هنا أن القاضي بكار بن قتيبة كان مشاركاً في كافة المشاريع الخيرية التي قام بها أحمد بن طولون، فقد جعله مشرفاً على إصلاح مقياس النيل في سنة 259، ولما بنى مسجده المشهور في مصر في سنة 264، كان القاضي بكار الإمام في أول جمعة تقام فيه، وكان ابن طولون إذا حضر جنازة لا يصلي عليها غيرهُ، إلا أن يكون القاضي بكار حاضراً، ولما مات يحيى بن القاسم العلوي كانت جنازته حافلة، فحضر ابن طولون وبكار، وبعد أن صلى الناس على الجنازة فقال ابن طولون: حطوا النعش، وقال لبكار: تقدم فصل عليه. فقال له: كم أُكبّر؟ قال: خمساً، فتقدم بكار فصلى عليه وكبر خمساً، وأعاد أكثر الناس الصلاة عليه مع بكار، وقد سأل القاضي ابن طولون عن عدد التكبيرات لأن عددها في المذهب الحنفي أربع تكبيرات، وعند الشافعي خمس، وهذا من القاضي ذوق وفقه يدلان على شخصيته الفريدة رحمه الله تعالى.
 
صنف القاضي بكار كتاباً جليلاً نقض فيه ما رده الإمام الشافعى على الإمام أبى حنيفة رحمهما الله، وطريقة توثيقه لكلام الشافعي تدل على منهج مستقيم في التوثق والتحقيق، يندر بين العلماء، ذكر الحسن بن زولاق في كتابه أخبار قضاة مصر، أن القاضي بكار نظر فى كتاب صنفه صاحب الإمام الشافعي أبو إبراهيم المزني، إسماعيل بن يحيى، المولود سنة 175 والمتوفى سنة 264، والمسمى مختصر المزنى، فوجد فيه ردًا على أبى حنيفة، فقال لرجلين من شهوده: اذهبا واسمعا هذا الكتاب من أبى إبراهيم المزنى، فإذا فرغ منه، فقولا له: سمعت الشافعى يقول ذلك؟ واشهدا عليه به، فمضيا وسمعا من المزنى المختصر وسألاه: أنت سمعت الشافعى يقول ذلك؟ قال: نعم، فعادا إلى القاضى بكار، فشهدا عنده على المزنى أنه سمع الشافعى يقول ذلك، فقال بكار: الآن استقام لنا أن نقول: قال الشافعى. ثم رد على الشافعى فى هذا الكتاب. وإلى جانب كتاب الرد على الشافعي، صنف القاضي بكار كتباً تتعلق بالقضاء وترتيباته الإدارية وإدارة سجلاته ووثائقه، مما يدل على وعيه وفقهه للناحية الإدارية والتوثيقية للأحكام، وهذه الكتب هي: كتاب الوثائق والعهود، وهو كتاب كبير، وكتاب الشروط، وكتاب المحاضر والسجلات.
 
وكان في مصر في تلك الفترة ثلة من أعلام العلماء ممَّن صحبوا الإمام الشافعي وقاموا بمدرسته، وكانت العلاقات بينهم وبين القاضي بكار علاقات تقدير واحترام وتعاون على البر والتقوى، فقد كان رحمه الله يأنس بالإمام يونس بن عبد الأعلى الصدفي الشافعي، المولود سنة 174 والمتوفى سنة 264، ويسأله عن الشهود والعدول، وكان كذلك على علاقة طيبة بالإمام إسماعيل بن يحيى المزني، ولما توفي في سنة 264، عن 82 عاماً، الإمام محمد بن عبد الله بن عبد الحكم المالكي، وكان عالم المالكية في زمانه، صلى عليه القاضي بكار، ممن أخذ عليه الحسن بن الحسن الدمشقي الحصائري الشافعي، المولود سنة 242 والمتوفى سنة 338، فقد ارتحل إلى مصر فأخذ عنه، وصار فيما بعد إمام مسجد باب الجابية، ومفتي دمشق ومقرئها، وزار القاضي بكار دمشق سنة 267 في ثلة من علماء مصر فأخذ عنه عدد من علمائها وطلبة العلم فيها.
 
ومن كبار تلامذة القاضي بكار الإمام العلامة الحافظ الكبير، محدث الديار المصرية وفقيهها، أبو جعفر الطحاوي الأزدي، أحمد بن محمد بن سلامة، المولود سنة 239 والمتوفى سنة 321، والذي ابتدأ دراسة الفقه وفقاً لمدرسة الإمام الشافعي ثم تحول إلى المذهب الحنفي، ولازمه فأكثر وبه تخرج، ويروي عنه كثيراً في كتابيه أحكام القرآن ومعاني الآثار.
 
وفي سنة 264 توفي الأمير أماجور أمير الديار الشامية المعيَّن من قبل الخليفة، وكانت الخلافة في غاية الضعف لانشغالها بثورة الزنج واستفحال شرهم، فاستخلف أحمد بن طولون ابنه العباس على مصر وسار إلى دمشق، ثم إلى حمص، ثم إلى حماة، ثم إلى حلب، فملكها جميعها، وبسط سلطانه على مصر وبلاد الشام وأنطاكية باستثناء طرسوس التي عصت عليه، ثم ما لبث أحمد بن طولون أن اضطر للعودة سريعاً إلى مصر إذ حاول ابنه العباس أن يستولي على الحكم، فعاد أدراجه في أوائل سنة 265، وخاض معارك مع ابنه استمرت سنين وانتهت في سنة 268بقمع التمرد واستبباب الأمور له، وكان للقاضي بكار دور في هذه المرحلة إذ أرسله أحمد بن طولون في وفد من العلماء إلى العباس في محاولة لاستمالته لحلٍّ سلمي، ولكن لم يكتب لهذه المحاولة النجاح إذ رفضتها حاشية العباس.
 
وهنا نقف قليلاً لنتحدث عن الخليفة المعتمد وولي عهده الموفق لعلاقة ذلك بما جرى للقاضي بكار قبل وفاته.
 
تولى المعتمد على الله، أحمد بن جعفر، الخلافة في سنة 256، وكان في السابعة والعشرين، وكانت أيامه مضطربة بتدبير الموالي وغلبتهم عليه، وفي أواخر سنة 261 عقد المعتمد العهد بعده لابنه جعفر، وسماه المفوض إلى الله، وعقد العهد بعد ابنه جعفر لأخيه طلحة، وسماه الموفق بالله، وكان جعفر يومئذ صغيراً، فشرط في العهد: إن وقع به الموت ولم يبلغ جعفر ويكمل الأمر، أن يكون الأمر لأخيه أولاً، ثم لابنه من بعده. ولم يزل أمر الموفق بالله يقوى ويزيد، حتى صار الجيش كله تحت يده، والأمر كله إليه، وكان قتل صاحب الزنج بالبصرة على يديه، فملك الأمر، وأحبه الناس، وأطاعوه، وضبط الأمور، وصلحت الدولة، وكفَّ يد المعتمد عن كل عمل حتى أنه احتاج يوما إلى ثلاث مئة دينار فلم ينلها، وكان يضيق بهذا الحجر الشديد، وهو صاحب البيت المشهور:
 
وتؤخذ باسمه الدنيا جميعا ... وما من ذاك شئ في يديه
 
وغلب على أحمد بن طولون أحد خاصته، وحسَّن له جمع الأموال، ومنعه من سماحته وعوائده الجميلة، فنفرت القلوب عنه، وتغيرت الخواطر عليه، فتنكر له في سنة 269 غلامه لؤلؤ، وكان خليفته على حلب وحمص وقنسرين وديار مضر، وكاتب الموفق بالله في بغداد في المصير إليه ومفارقة ابن طولون، واشترط لنفسه شروطاً أجابه إليها الموفق، ولما بلغ ذلك أحمد بن طولون سارع إلى الخروج رجاء أن يلحق لؤلؤاً، واستخلف على مصر ابنه خمارويه.
 
وكان المعتمد قد فاض به الكيل من أن لا يكون له من الخلافة غير اسمها، ولا ينفذ له توقيع لا في قليل ولا في كثير، فكتب سراً إلى أحمد بن طولون في دمشق يشكو إليه حاله، فأشار عليه أحمد باللحاق به، ووعده النصرة، وأرسل إليه مئة ألف دينار، وسير عسكراً إلى الرقة ينتظر وصول المعتمد إليهم، فاغتنم المعتمد غيبة الموفق في حرب الزنج بالبصرة، وسار شرقاً بحجة الصيد، وعلم الموفق بنيته فطلب من عامل الموصل أن يرده، فرده إلى سامراء مكسوفاً مخذولا.
 
وبلغ أحمد بن طولون ذلك فرجع إلى دمشق. وكتب إلى عامله في مصر يأمره بإحضار القضاة والفقهاء والأشراف، وكتب بخبر المعتمد وما فُعِلَ به، وأن الموفق نكث بيعة المعتمد، وأسره، وأن المعتمد يبكي بكاء شديداً.
 
وجاء من مصر وجوه القوم وعلى رأسهم  بكّار بن قتيبة، وحضر أمثالهم من أهل الشام والثغور، فلما اجتمعوا، أمر أحمد بن طولون بكتاب خَلَعَ فيه الموفق من ولاية العهد، لمخالفته المعتمد، وحصره إياه، وكتب فيه: إنه خلع الطاعة، وبرئ من الذمة فوجب جهاده على الأمة. وشهد على ذلك جميع من حضر إلا بكّار بن قتيبة ومحمد بن إبراهيم الإسكندراني، وفهد بن موسى، وقال بكّار: لم يصح عندي ما فعله الموفق ولم أعلمه، وكنتَ أوردتَ علىّ كتاب المعتمد بولايته، فأورد علىّ كتابًا آخر بخلعه، وامتنع من الشهادة والخلع، وكان ذلك في 12 ذي القعدة سنة 269.
 
فقال له أحمد بن طولون: غرك كلام الناس فيك: ما فى الدنيا مثل بكار! أنت شيخ قد خرفت، عد إلى مصر! فلما رجع حبسه، ولم يمكنه أن يعزله، لأن القضاء لم يكن إليه أمره، ولما حبسه كان القاضي بكار يغتسل فى كل جمعة، ويتطيب، ويلبس ثيابه، ويأتى إلى باب السجن، فيقول له السجان: إلى أين؟ فيقول: قد نادانى منادى ربى، وأنا أول من أجابه، فيقول له السجان: اعذرنى، فما أقدر على ذلك، ويعزُّ علىَّ، فيقول بكار: اللهم اشهد، ثم يرجع. فبلع ذلك ابن طولون فأرسل إليه: كيف رأيت المغلوب المقهور لا أمر له ولا نهي، ولا تصرف له في نفسه؟! لا تزال هكذا حتى يأتي علي كتاب المعتمد بإطلاقك.
 
وكان أحمد ابن طولون يصل القاضي بكار فى كل سنة ألف دينار خارجاً عن راتبه، فيتركها ولا يتصرف فيها، ولما اعتقله بسبب امتناعه من خلع الموفق، طالبه بإعادة هذه المبالغ، فحمل إليه 18 كيساً كما استلمها مختومة بختم أحمد بن طولون، فاستحى أحمد، وكان يظن أنه أخرجها وأنه يحرجه بطلبها لعجزه عن ردها.
 
ولما اعتقله ابن طولون أمره أن يسلم القضاء إلى محمد بن شاذان الجوهرى البصري، المولود سنة 194 والمتوفى سنة 274، ففعل بطريقة حافظ فيها على استقلال القضاء وكرامة القضاة، فقد جعله بمثابة نائب له، وشكا أصحاب الحديث إلى ابن طولون انقطاع إسماع الحديث من بكار، وسألوه أن يأذن له فى الحديث، ففعل، وكان يحدث فى السجن من طاق فيه.
 
ثم إن أحمد بن طولون مرض مرضاً شديدًا، فأمر الناس بالدعاء له، فخرجوا يدعون له ومعهم اليهود والنصارى بالتوراة والإنجيل، ودعا حفيده أحمد بن خمارويه، وقال له: اذهب إلى القاضى بكار فسلم عليه، وقل له : أنا أردك إلى منزلتك وأحسن، فقال: قل له: شيخ فان وعليل مدنف، والملتقى قريب، والقاضي الله عز وجل.
 
فلما أبلغها الرسول أحمد أطرق ثم أقبل يكررها، ثم أمر بنقله من السجن إلى دار اكتريت له، وفيها كان يحدث، فلما مات ابن طولون قيل للقاضي: انصرف إلى منزلك، فقال: هذه الدار بأجرة، وقد صلحت لي، فأقام بها بعد أحمد أربعين يوما ثم توفاه الله تعالى إلى رحمته، وكانت مدة سجنه قرابة السنة وليست سنوات كما ورد في بعض الكتب.
 
قال أبو جعفر الطحاوي: ظن الناس أنه لا يتهيأ لأحد حضور الجنازة، وحضروا عند العصر، وكنت فيمن حضر، فأُخرجت جنازته بعد العصر، وأقبل الناس أكثر ما كانوا، وفيهم أصحاب أحمد بن طولون قد غطوا رؤسهم حتى لا يعرفوا، وزاد الجمع من غير أن يُرى فى الناس راكب واحد، فشهده أكثر ممن يشهد العيد بوقار وسكينة، وصلى عليه ابن أخيه محمد بن الحسن بن قتيبة، وتفقه عليه ولازمه وانتفع به، ودفن بالقرافة في حوش عبد الله بن وهب، وفبره معروف إلى اليوم.
 
لم يخلف القاضي بكار أولاداً لأنه على الأصح لم يتزوج ولم يتسر، ولم يترك كذلك ديناراً ولا درهماً، ولا داراً ولا عقاراً، وكان عالماً زاهدًا من البكائين، وكان يحيى الليل كله، فإذا أصبح كان وجهه كالقمر، قال أحمد بن سهل الهروي: كنت ساكنا في جوار بكار بن قتيبة، فانصرفت بعد العشاء، فإذا هو يقرأ الآيات من سورة ص: ﴿يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ﴾ ثم نزلتُ في السحر، فإذا هو يقرؤها، ويبكي، فعلمت أنه كان يتلوها من أول الليل.
وكان ينشد دائمًا:
 
لنفسي فى نفسي عن الناس شاغل ... لنفسي أبكى لست أبكى لغيرها
 
رحمه الله رحمة واسعة.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين