بطلٌ من أحفاد سيدنا خالد محمد زيد السلقيني

سطَّرها بالدموع : محمد علي الأبرش

 

أرنو إلى لحظة من لحظات الصفاء , فما هي بتلك الكلمات التي تطلق جزافاً , ولا بتلك الخواطر التي يجود الكاتب فيها من عواطفه ومشاعره , بل هي كلمات عن بطل , وذكريات عن شهيد .
حروف خالدات عن شاب وديع جعلت منه الأيام شاباً صلباً طلب الشهادة بصدق فنالها إنه البطل الشاب محمد زيد السلقيني , ولد الشهيد في مدينة حمص سنة 1993 من عائلة ذات إباء ورفعة وعزة , سادس ستة من إخوته، ولد توأماً مع أخته , أمضى مرحلة رياض الأطفال في روضة (طلائع النور ) وهي التي شهدناها محترقة يسطع من نارها درب أعدته لطلابها كالشهيد محمد نور دله، والشهيد ضياء النجار ، والشهيد عبد العزيز الأبرش وغيرهم , وهاهو الشهيد زيد آخر من سجَّلته تلك الروضة العامرة بالشهداء .
 أمضى الشهيد المرحلة الابتدائية في مدرسة الفارعة الشيبانية الواقعة في حيِّ جورة الشياح الذي نشأ وترعرع فيه ، وأمضى كذلك المرحلة الإعدادية في مدرسة حوري رجوب , والمرحلة الثانوية في مدرسة سيدنا خالد بن الوليد في حيِّ الميدان , وقد حصل على الشهادة الثانوية في عام 2011، ودخل كلية الهندسة الزراعية ،وكانت الأحداث في أوجها , فشارك في الاحتجاجات والمظاهرات , وبعد تطور الأحداث صارت الشهادة في سبيل الله هدفه الأسمى .
حدثته ذات مرة في رمضان قائلاً : هذه أيام لن تمحى من ذاكرتنا بتفاصيلها وذكرياتها وسنرويها لأبنائنا ، فقال مبتسماً : وهل سنبقى إلى ذلك الزمن ؟؟
بعد أن عمَّت المظاهرات جميع أرجاء سوريا، وتحولت سلمية الثورة ، وتغير منهج الثوار إلى الدفاع عن النفس والأهل والبلد من طغيان النظام المجرم في سوريا، ورأى الشباب كيف تُنتَهك محارم الله ، وكيف يتم تدمير البيوت والقرى وما ذاك بعظيم أمام قتل الرجال والنساء والأطفال فتحركت فيه نخوة الرجولة والشهامة والعزة والكرامة .
 وفي تاريخ 24 / إبريل (نيسان ) / 2012 كلمني ابن خالي البطل زيد في عزمه على الخوض للجهاد في سبيل الله، وأنه قد طلب الشهادة مرات ومرات لكنها -  كما وصفها لي - صعبة المنال، وهي أقصر طريقة للاستراحة من الذنوب , ومن جملة ما أخبرني عن عزمه في المضي أنه لن يستمع إلى أحد يثبطه عن المضيِّ في درب الجهاد , فأحببت أن أذكره  بأن تكون نيتك خالصة لله تعالى لقوله صلى الله عليه وسلم ( من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله ) وعليك برضا الوالدين وطلب الدعاء منهما، فأجابني بجواب أبكاني ومازالت رسائله في موقع التواصل الاجتماعي شاهدة على ذكره : يا أبا أسامة ،والله إني خائف من نيتي أن تشوبها شائبه , أريدها خالصة لله سبحانه وتعالى ،فأرجوك ثم أرجوك :لا تخبر أحداً بهذا الأمر وبالنص: (ما بدي انزع شغلي بالرياء ) , قلت له : حدثني عن رضا والديك وهل أخبرتهم لكي يدعو لك ؟ فقال لي : سأخبرهم , فقلت له : أَخْبِرْ والدتَك بحكمة وتروٍ فأنت تعرف قلب الأم , فقال لي : ( بعرف اذا رحت اكيد رح يدعولي وما رح يدعوا علي , الله وكيلك صار عاشر مرة ما عم تتيسر الروحة للجهاد , بدي صلي هلأ صلاة الاستخارة وان شاء الله يحصل خير ) لقد كان صادقا في سلوكه درب الجهاد , وأشهد الله ولا أزكي على الله أحداً أنه كان صادقاً في طلبه للشهادة .
التحق بالمجاهدين والتقى مع رفاق الدرب الذين حدثوني قصة استشهاده ، بأنه كان يكتحل ويستاك ويتوضأ ويصلي ركعتين وينطلق, حدثني من هناك كثيراً، وما زال صوته في قلبي ساكناً , أدرس في دمشق وأتذكر أيام السعادة معه وقد جاءته سعادة أعظم بإذن الله عندما نقف مع أخيه في مدخل البناء , ونتحدث طويلاً خاصة في ليالي رمضان 1432 هـ , نحلل ونناقش ونصحح أخطاء بعضنا البعض ...
وها هو يكلمني في 9 / 6 / 2012 قبل ثلاثة أيام من استشهاده، وهو في جورة الشياح يطمئننا أن الأمور بخير و ( الكلاب بالأراضي ما حدي عم يشيلهم ) فاستبشرنا خيراً  لأن الجيش التابع للنظام حاول اقتحام حي جورة الشياح الصامد ...
في تاريخ 11 / 6 / 2012 كان يوماً عصيباً شهدته جورة الشياح وحمص القديمة من قصف ودمار واستشهاد الكثيرين فاتصلت بالشهيد البطل زيد في الساعة الخامسة والثلاثين عصرا ، وكان غالباً ما يغلق هاتفه إلا للضرورة وبين إعادة للمكالمة منه ومحاولة أخرى مني استطعت الحديث معه وبكلامه الهادئ قال :
- أبو أسامة الأوضاع سيئة جدا ادعي لنا ستة شهداء أمامنا ذهبوا ..
- ياالله يا الله قول : يالطيف ، قول : يا لطيف ، اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلا وأنت تجعل الحَزن إذا شئت سهلا ( ولم يخطر ببالي سوى هذا الدعاء ) أين أنت الآن ؟
- بالحميدية ،طلعنا من جورة الشياح بصعوبة وفداء أصيب ( الشهيد البطل فداء شلال الذي استشهد بعد زيد بأيام ) .
- يا رب لطفك وفرجك ( وأصوات القصف على مسمعي ) نراك قريبا يا أبا أسامة ( فكلانا أبو أسامة )
وهنا لحظة الاستعداد تقترب .... لحظة الختام في الدنيا تدنو .. وهنا يُكمل أحد الذين رافقوا زيداً وتعرفوا عليه بعد التحاقه بالمجاهدين حتى استشهاده ، فقال: تواعدنا في مكان معيّن في الحميدية لكي نأخذه معنا، فقد تفرقنا بسبب القصف والهجوم الشرس والمحاصرة والقصف على أشده والطائرات تحوم فوق كل مكان، وما إن وصلت إلى الحميدية حتى دخلت المكان الذي وعدته فيه وناديت: زيد .... زيد ... فلم يجب أحد، فصرخت: يا زيد أنت هنا، ويتردَّد صوتي إلي ولم أجده , فهممت بالخروج للبحث عنه فلا يعقل أن يخرج من حي الحميدية في هذه الأجواء، وإذا بي أرى على يميني هاتفه ملقى على الأرض والدماء من حوله وآثار حطام ودمار .. ما هذا ؟ أين هو ؟؟.. ناديت خارجا : زيد ، فخرج لي شباب من الثوار يخبروني بأن زيداً أصيب، وقد نقل إلى مستشفى ميداني بالخالدية , يقول لي صاحبنا الذي رافقه : والله لم أعد أرى أمامي سوى زيد ، ودوي القذائف من حولي ،ومن أمامي ،وأنا أسير مسرعاً إلى الخالدية ، يا زيد ،يا حبيبي ،يا من التقيت بك قدرا ،وتعاهدنا سوية على الجهاد والمضي في هذا الطريق , ماذا حلَّ بك أريدك أن ترى النصر المبين , أريدك أن ترى كيف أذل الله الظالمين , أريدك أن ترى وعد الله ( وكان حقاً علينا نصر المؤمنين ) زيد أنا قادم إليك اصبر قليلاً , يقول : فدخلت إلى المستشفى الميداني، ورأيت ذاك الجسد الطاهر يكفَّن .......
نعم لقد استشهد زيد , لقد نلت ما تمنَّيته يا شقيق روحي وحبيب قلبي وصديق عمري ,إنها الشهادة في سبيل الله يا زيد ,إنها الشرف والرفعة والفوز والكرامة, شهادة كانت لله يا حبيبي يا أخي , أيها المدافع عن دينك وعن أهلك ,وعن بلادك, دمت ودامت ذكراك وذكرى شهدائنا دروساً للأجيال القادمة في التضحية والجهاد وإعلاء كلمة لا إله إلا الله، وستبقى ذكراك العطرة يا ابن التاسعة عشرة من عمرك القليل في مدته الممتد في أثره ، وسيذكرك أهل حمص وسوريا وسيخلد ذكرك ، وقبل ذلك هنيئا لك  بالحياة الحقيقية وأنت تسرح في الجنة وترزق فيها إن شاء الله ،  وإلى الملتقى يا أخي في جنّات عدن .