بصائر نفسية إسلامية -9- القلق المرضي 3 من 3

            لا بد لعلاج المرض العضوي من إصلاح للخلل المسبب له.. تأمل ما  قاله الله تعالى عن زكريا عندما طلب من الله الذرية، وهو شيخ مسن، وامرأته عاقر لا تنجب. {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} الأنبياء90 إذاً كان هنالك خلل عضوي مسبب للعقم، احتاج للإصلاح، قبل أن تتمكن هذه المرأة من الحمل والولادة.... والنبي محمد صلى الله عليه وسلم يقول "لكل داء دواء. فإذا أصيب دواء الداء برأ بإذن الله عز وجل". (رواه مسلم)

            صحيح أن الأعراض في القلق والاكتئاب والوسواس القهري وغيرها من الاضطرابات النفسية والعقلية، أعراض نفسية، تختلف عن الأعراض البدنية المعروفة في الأمراض العضوية، لكن الدماغ هو الآلة التي تصنع المشاعر، والأفكار، والإدراكات، وفيها الرغبة والنفور والشهوة والفرح والحزن والضحك والبكاء والنوم  والنشاط  واليقظة وغير ذلك من الوظائف النفسية والعقلية.

            وإذا أصاب خلل عضوي الجهاز الذي يقوم بالوظائف النفسية، فإن الأعراض الناتجة عن الخلل العضوي هذا ستكون نفسية. كما لو كان الخلل العضوي في الجهاز الهضمي، كانت الأعراض هضمية. وكذلك إن كان في الجهاز النفسي، وهو الدماغ، كانت الأعراض نفسية، رغم أن الخلل عضوي.

            وهذا لا يعني أن كل الأعراض النفسية عند البشر، هي أعراض لخلل عضوي. فالإنسان الذي يفقد عزيزاً، يعاني من حالة نفسية تشبه المرض النفسي، يسيطر عليه فيها الحزن والقلق، ويضطرب نومه وتقل شهيته للطعام والجنس، ويفقد قدرته على الاستمتاع، إلى غير ذلك من أعراض سببها فقده لعزيزه، أو خسارته لشيء غال عليه مالي أو معنوي، وبالتالي ليس سببها عضوياً أبداً، ولا يعالجها الأطباء النفسيون بالأدوية عادة، بل العلاج يكون نفسياً بالكلام، ومحاولة تغيير نظرة المصاب إلى مصيبته، كي يتمكن من هضمها، والتكيف معها، ومع الأوضاع الجديدة في حياته الناتجة عنها.

            وبمرور الوقت، يتجاوز الإنسان المصائب، ويتكيف غير المريض مع المصاعب،  وتعود له ابتسامته، وينطلق في الحياة من جديد.

            ومع أن الطب النفسي حدد مدة ستة أشهر حداً َأقصى للتكيف مع المصائب والمصاعب، فإذا استمرت الأعراض النفسية بعد ذلك، اعتبرنا الشخص مريضاً نفسياً، وتكون المصيبة عاملاً مسرعاً لحدوث المرض لديه، ومع أن أشد مصائب الحياة العادية على النفس البشرية، هي فقد الزوجة المحبة لزوجها المحب، فإن الخالق الذي يعلم من خلق، حدد مدة أربعة أشهر وعشرة أيام، تخرج بعدها الزوجة من حزنها على فقيدها، وينفتح قلبها للرجال من جديد، إلاّ إن كانت قابلة للاكتئاب النفسي، وكانت وفاة الزوج سبباً في بدء الاكتئاب، أو غيره من الاضطرابات النفسية لديها، فعندها يطول الحزن كثيراً، وقد لا ينتهي إلاّ بالعلاج الطبي النفسي.

 

            والخلاصة:

            للقلق والحَزَن في حياة الإنسان ثلاثة أسباب:

            أولها: ظروف الحياة وشدائدها.

            وثانيها: إدراك الإنسان لوجوده ككائن له ذات مستقلة، وحرة، وذات إرادة، وباحثة عن المعنى، ومدركة لما وراء عالم الشهادة من ممكنات والشعور بالضلال والضياع في غياب الإيمان الصحيح.

            وثالثها: الخلل المرضي العضوي في عمل جهاز العقل والمشاعر لديه، أي:  الدماغ.

           والحكمة تقتضي أن لا يكون العلاج واحداً لأنواع مختلفة من القلق والحزن. إذ لا بد لكل نوع من علاج يناسبه، حتى تتمتع النفس الإنسانية بالسكينة والطمأنينة.

أرجو ممن أعجبته مقالتي هذه أن يتكرم بنشرها لعل الله يثيبه ويثيبني وينتفع بها إخوة آخرون

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين