بصائر نفسية إسلامية – 8 - القلق المرضي 2 من 3

 

        والطب حالياً يقول: إن الخلل في عمل النواقل العصبية الرئيسية (السيروتونين، والنورإيبنفرين، والدوبامين، والغابا، وغيرها)، هو المسؤول عن الأعراض النفسية، والعقلية، التي تصيب البشر من قلق، وكآبة، أو هياج، أو وسوسة، أو أوهام، أو هلوسات.

            ولا تستغربوا ذلك، لأن النفس البشرية، جهاز حي صنعه رب العالمين بيده، فأحكم صنعه، وجعله في أحسن تقويم، ثم خلق منه زوجه، ومنهما توالدت البشرية، وأثناء توالدها هذا الذي تركه ربنا يحدث بقدره، {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ } القمر49 تحدث أخطاء بسيطة جداً في بناء هذا الجهاز الحي العجيب الصنع، فيسبب الأمراض للناس.

            فإن كان الخلل في جهاز الهضم، كانت المعاناة هضمية.

            وإن كان الخلل في جهاز الحركة، كانت المعاناة حركية.

            وإن كان الخلل في جهاز الإدراك، والمشاعر، والأفكار، كانت المعاناة نفسية، والقلق، والاكتئاب، والوسواس، وغير ذلك أكثر أنواع المعاناة النفسية حدوثاً لدى البشر.

            وهذا النوع من القلق الإنساني لا يتعافى، إلا إن تعافى البدن، وتقوم الخلل الفيزيولوجي الذي سببه. وهذا هو القلق الإنساني الذي يعالجه الأطباء النفسيون، والمختصون النفسانيون، بالأدوية، أو بالعلاج النفساني غير الدوائي.

            القلق المرضي يجعل الإنسان يبالغ في الشعور بالمخاطر، فيرى الصغير منها كبيراً، ويرى البسيط منها عظيماً وخطيراً. لذا فإن المصابين بالقلق المرضي، يعانون من القلق الظرفي الشديد في أغلب الأحيان، لأن الخلل الفيزيولوجي لديهم يجعلهم يرون ما لا يراه غيرهم من أسباب الخطر والتهديد، فيعيشون في رعب، بينما غيرهم مطمئن القلب والبال.

            إن مرضهم يجعلهم كالذي ينظر إلى الأشياء من خلال عدسة مكبرة، أو يسمع الأصوات من خلال مكبر للصوت، يضاعفه مرات كثيرة، موضوعاً على أذنيه، بحيث يسمع الهمسة صرخة.

            وهؤلاء لا يرتاحون من القلق الظرفي، إلا إن عولج قلقهم المرضي، حيث تعود إليهم قدرتهم على التوكل على الله، والامتناع عن القلق، توكلاً عليه، واعتماداً على رحمته ورعايته...

            المريض بالقلق، يستفيد من التطمين، والتوكل، لكن فائدته تكون مؤقتة عابرة، وسرعان ما يعود إلى القلق الشديد الذي يصعب عليه وعلى من حوله أن يطمئنه، ويساعده على التخلص منه، ما لم نوقف عملية التضخيم التي يسببها مرض القلق، أو الاكتئاب، أو الوسواس، أو غير ذلك من أنواع المرض النفسي المولدة للقلق....

            وفي النصف الثاني من القرن العشرين، ظهرت أدوية كثيرة ورائعة، لعلاج القلق، والاكتئاب، والوسواس، واضطراب العقل بكافة أنواعه. حيث تفيد هذه الأدوية في إعادة التوازن، والفاعلية لعمل النواقل العصبية في الدماغ، التي يعتبرها الطب مسؤولة عن هذه الاضطرابات.

            وهي علاجات تسيطر على المرض، وتريح الإنسان من أعراضه. كما يسيطر دواء الضغط على الضغط، ويعطينا ضغطاً طبيعياً، طالما نتناول الدواء الخافض للضغط. والفارق بين الضغط والاضطرابات النفسية، أن الضغط مزمن عادة، بينما القلق، والاكتئاب، والوسواس القهري، واضطرابات العقل، تأتي على شكل نوبات يتراوح طولها ما بين أيام قليلة إلى عدة سنوات، تهدأ بعدها حتى لو لم تعالج بالأدوية، ويبقى المريض بخير ما شاء الله أن يبقى، ثم يعاوده مرضه مرة أخرى في أغلب الحالات.

            العلاج إذاً يختصر المعاناة، ويعيد المريض إلى طبيعته، وهذا خير من بقاء الأعراض، وما تسببه من معاناة للمريض وأهله، ومن عجز عن أداء دوره في الحياة، سواء في مهنته، أو دراسته، أو حياته العائلية.

            وهذا يعني أن الإيمان وحده لن يكفي لشفاء القلق الإنساني المرضي وغيره من الاضطرابات النفسية الناتجة عن خلل عضوي في عمل الخلايا العصبية في الدماغ، وهذا لا يعيب الإيمان أو القرآن في شيء، إلا إن كانت عدم كفايتهما لعلاج الداء السكري، أو أمراض الكلية، أو السرطان، تقلل من شأنهما.

أرجو ممن أعجبته مقالتي هذه أن يتكرم بنشرها لعل الله يثيبه ويثيبني وينتفع بها إخوة آخرون. 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين