بصائر نفسية إسلامية - 7 - القلق المرضي 1 من 3

 

            وهو ثالث أنواع القلق الإنساني، وهو قلق بلا مقلق حقيقي، إنه خوف بلا مخيف، ورعب بلا تهديد، إنه الخوف والإنذار الذي يجتاح النفس البشرية، لا لأن هنالك خطراً حقيقياً يتهددها، بل لأن خللاً في أجهزة الإنذار فيها أطلق جرساً، أو صفارة تنذر بالشؤم، وتخيف من كارثة، أو مصيبة، على وشك أن تقع، دون أن يكون هنالك أي مبرر لهذا الإنذار.

            تخيلوا بناية عظيمة رائعة، بما فيها من شقق فخمة كثيرة، وبما فيها من أجهزة إنذار متطورة، تطلق جرساً عالياً متواصلاً، إذا بدأ حريق صغير في أية زاوية من زواياها.. ينطلق هذا التنبيه، وتضيء لوحات معينة، تشير إلى موقع الدخان، أو الحرارة الزائدة، التي استشعرتها أجهزة الإنذار هذه، كي يبادر القائمون على البناء إلى إطفائها، وتدارك الأمر، قبل أن تنتشر النيران، ويستفحل الحريق، ويتسبب بالأضرار الكبيرة،كما تنبه القاطنين في المبنى إلى ضرورة إخلائه على الفور، ريثما تتم السيطرة على الحريق، ويستعاد الأمان، والسلامة المهددين به.

            هل هنالك أحسن وأروع من نظام كهذا، لحماية السكان من مصائب قد تقع في أية لحظة من ليل أو نهار؟.

            لكن تخيلوا جرس الإنذار هذا، وقد انطلق عالياً في هدأة الليل، ليوقظ الجميع من نومهم اللذيذ، بعد يوم من العمل والسهر، وليملأ قلوبهم بالخوف، وليجبرهم على الخروج من بيوتهم، ونزول الأدراج الكثيرة، لأنهم في حال الحريق عليهم عدم ركوب المصاعد، وبعد أن يخرجوا من مبناهم مع أطفالهم، وهم في ملابس النوم يكتشفون أن الإنذار كان كاذباً، أي: أنه انطلق يرن لا لأن حريقاً بدأ يتوهج في مكان ما من المبنى، بل لأن خللاً في الوصلات الكهربائية، أو في الأجهزة الحساسة للدخان، أو الحرارة، أو في الجهاز الذي يجمع المعلومات، ويحللها،ويعطي القرار بإطلاق الإنذار أو عدمه.. المهم: خلل ما تسبب في إنذار، لا داعي له ولا مبرر...  

            لو حدث هذا مرة، فإن الفرحة بأنه ليس هنالك حريق، وأن الأمور كلها على ما يرام، قد تنسي السكان ما عانوه من إزعاج عندما انطلق الإنذار، وأيقظهم، وأخرجهم.

            لكن لو تكرر هذا الخلل، وتكررت الإنذارات الكاذبة، فإن نظام الإنذار الرائع، يتحول إلى مصدر إزعاج للسكان، بدل أن يكون مصدراً للشعور بالأمن والطمأنينة، وعندها ستكون أمنيتهم هي أن يتم إصلاح نظام الإنذار من الحريق في أسرع وقت، فهم لا يستغنون عنه، لأن البناء الضخم الذي ليس فيه نظام استشعار للحرائق، وإنذار للسكان منها، يكون الإنسان فيه معرضاً للخطورة الزائدة أن يشب حريق، ويستفحل قبل أن يعلم به، وعند علمه به يكون قد انسد أمامه طريق الخروج والسلامة...

            وهكذا هو القلق المرضي عند الإنسان، إنه ناشئ عن خلل في عمل الأجهزة التي تستشعر المخاطر، وتنبه الإنسان إليها... وتتعرض النفس لإنذارات، وتخويفات، دون سبب حقيقي.

            إنه خوف بلا مخيف، وشعور بالتهديد بلا مهدد، لأنه ناتج عن مشكلة في الأجهزة، وليس عن وجود ما يدعو للحذر، أو الخوف في الحقيقة والواقع.

ومثلما يتحول جهاز الإنذار المختل من نعمة إلى نقمة، يتحول القلق النفسي الذي خلقه الله ليكون لنا نعمة تحمينا من غدر الأقدار التي لا تسرنا، يتحول إلى نقمة، لأن الإنسان ينخدع به في أغلب الأحيان، فيعيش خائفاً يترقب، مع أنه ليس هنالك أي مبرر لخوفه، ولترقبه، ولتوقعه للمصائب، أو المصاعب.

            عندما يكون الخلل في جهاز إنذار الحريق، يسهل علينا إدراك ذلك، والاطمئنان إلى أن المبنى في أمان، رغم أن الإنذار يصرخ بأعلى صوته، فنتجاهله، ونعود إلى فراشنا، وننام. لكن الإنذار الذي ينطلق في أعماق نفوسنا، وقلوبنا، يحتاج منا إلى وعي، وفهم، وتبصر، كي ندرك أنه ليس هنالك من خطر ولا تهديد، إنما هي مشاعر قلق كاذب، سببه اختلال في المركبات الكيماوية التي تتعامل بها خلايا الدماغ، وتتفاهم بها فيما بينها، ويدعوها علماء الأعصاب النواقل العصبية، Neurotransmitters"". وهي تشبه الهرمونات، إلاّ أنها لا تتجول في الدم بحيث يفيدنا معايرتها فيه، بل المهم وجودها في نقاط محددة جداً، تتلامس فيها خليتان عصبيتان، كما يتلامس رجلان وهما يتصافحان، يمد كل منهما يداً تشتبك بيد الآخر، وهكذا مثال المشبك العصبي "Synapse"، الذي عنده يتم التواصل بين الخلايا العصبية، بإفراز النواقل العصبية التي تنقل الأوامر من خلية إلى أخرى.

أرجو ممن أعجبته مقالتي هذه أن يتكرم بنشرها لعل الله يثيبه ويثيبني وينتفع بها إخوة آخرون.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين