بصائر نفسية إسلامية -2- اعقلها وتوكل - 1 من 4

            القلق عند الإنسان ثلاثة أنواع: الظرفي، والوجودي، والمرضي.

  أولها القلق الظرفي: وهو القلق الذي يخطر ببالنا كلما تحدثنا عن القلق النفسي، فما منا من أحد إلا ومر بظروف أصابه فيها القلق على شيء معين مهم.

            كالذي يشعر بالقلق عند الامتحان، لأنه لا يضمن النجاح، ويخشى الرسوب والإخفاق، فينتابه شعور متردد، بين الخوف وتوقع الرسوب، والطمأنينة والثقة وتوقع النجاح.

            وهكذا هو، لحظة يتشجع ويتفاءل، وأخرى يركبه الهم ويتوقع الرسوب.

            أما إن قلت ثقته بنفسه أكثر، فإن خوفه وتوقعه للرسوب يسيطر عليه أغلب الوقت، أو كل الوقت، ويتحول القلق لديه إلى خوف شديد، ورعب، وهلع، فيشله شلاً، ويتعذر عليه الأداء في الامتحان، ويكون رسوبه مؤكداً، ما لم يهدأ، ويتشجع من جديد.

قلق الامتحانات، مثال يسهل علينا جميعاً فهمه، طالما تعلمنا في المدارس، وخضنا تلك الخبرات والتجارب، لكن القلق الظرفي متنوع، فالذي عليه إجراء عملية جراحية لا يضمن الطبيب نتائجها، أو يخشى من حدوث اختلاطات لها غير سارة، أو أنها عملية لطفله الحبيب، أو لزوج غال لا يتصور الإنسان الحياة من دونه، أو القلق على بضاعة استوردها تاجر، لا يضمن هل ستباع كلها، وهل سيربح أم سيخسر.... إلى غير ذلك.

حتى قلق السيدة التي تستعد لاستقبال ضيوف أعزاء على وجبة غداء، تراها تنجز كل ما يتوجب إنجازه من نظافة، وترتيب، وطبخ، وتحضير، وتزين... قبل مجيء الضيوف؟، ترى هل سيعجبهم الطعام؟ ترى هل...؟.

     أشياء كثيرة يمكن لمن شاء أن يقلق بسببها في ظرف كهذا.

            وهكذا كل ظروف الحياة، يمكن للإنسان أن يجد فيها ما يدعو إلى القلق والتوتر.

أما الشفاء والوقاية من القلق الظرفي، فهو في التوكل على الله حق التوكل، وفي بذل الجهد الممكن إضافة للتوكل، ليتحقق ما أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم، عندما سأله أحد أصحابه عما يفعل بناقته خلال فترة سيقضيها في مكان ما: هل يعقلها ويربطها إلى شيء ثابت كي لا تسرح وتشرد وتضيع عنه، أم يطلقها دون تقييد ويتوكل على الله. فقال له النبي الحبيب عليه الصلاة والسلام: [إعقلها وتوكل]. أي: إفعل الأمرين معاً.

            إعقلها: لأن الحكمة والعقل السليم تقتضي ذلك، وتوكل على الله: لأن التوكل خلق المؤمن الذي يعلم أن رب العالمين محيط بكل شيء، وناظر لكل شيء، وعلى كل شيء قدير.

            وهو سبحانه وتعالى يحب منا أن نعتمد عليه، ونتكل عليه، وهو يحب المتوكلين...

            ثم إن الإنسان مهما أخذ من الأسباب، فإن العقل البشري يضع احتمالات لوجود نقص في الأسباب، والإعدادات التي اجتهد الإنسان فيها، إما لأنها فوق طاقته، أو لأنها خارج علمه، أو لأنه نسيها، أو غير ذلك من الاحتمالات التي يمكن أن تؤدي إلى نتائج لا تسرنا رغم أننا أخذنا كل الاحتياطات والأسباب التي نعرفها.

            إذاً "إعقلها" وحدها لا تكفي كي ينعم الإنسان بالسكينة وراحة البال والطمأنينة، ولا بد لذلك من التوكل على الله، والثقة أنه سيختار لنا الأحسن، طالما أننا مؤمنون به، ومتوكلون عليه.

            إن التوكل الحق على الله يضمن راحة البال، واطمئنان القلب، رغم كل الظروف.

            فالشيطان لا سبيل له على القلوب المؤمنة المتوكلة، قال تعالى: {فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم ( 98) إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون ( 99) }  "النحل:  98 - 99".

            إذا اجتمع الإيمان مع التوكل، كانت السكينة التي ما بعدها سكينة، وكانت الطمأنينة التي ليس كمثلها طمأنينة، رغم الظروف المختلفة التي تهز النفوس والقلوب.

            وقد أشكل على البعض قوله صلى الله عليه وسلم: [إعقلها وتوكل]. وما روي عن عمر بن الخطاب: "إن السماء لا تمطر ذهباً ولا فضة"، فاشترطوا لصحة التوكل على الله، أن يأخذ الإنسان بالأسباب، وإلاّ كان متواكلاً لا متوكلاً، وهذا غير صحيح على الإطلاق.

            لأن مفهوم التواكل بمعنى التوكل على الله دون أخذ بالأسباب، لم يرد في القرآن الكريم، أو الحديث الشريف، بل وردت عبارة "فتواكلنا الكلام" في أحد الأحاديث بمعنى وكل كل منا الكلام إلى صاحبه يريده أن يبدأ الكلام قبل صاحبه.. فالتواكل هنا صيغة مفاعلة من وكل تعني اتكالهم على بعضهم بعضاً ولا علاقة له بالتوكل على الله لا مع الأخذ بالأسباب ولا مع تركها.

أرجو ممن أعجبته مقالتي هذه أن يتكرم بنشرها لعل الله يثيبه ويثيبني وينتفع بها إخوة آخرون. 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين