بصائر نفسية إسلامية -13- شفاء لما في الصدور  4 من 6

 

     المريض النفسي المسلم، مظلوم جداً في هذا الزمان، طالما يخرج على الملأ وعاظ، وحتى علماء كبار يقولون: إن المؤمن الحق لا يصيبه القلق، أو الاكتئاب أو غيره، مع أن القرآن الكريم يحكي لنا ما قاله النبي محمد صلى الله عليه وسلم لصاحبه في الغار: [لا تحزن إن الله معنا] قال تعالى: {إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ }التوبة40

     إذاً المؤمن بشر يحزن ويقلق في المواقف، ويحزن ويقلق عند المرض الناتج عن خلل في خلاياه العصبية أو في غدده الصماء. فالأطباء جميعهم يعرفون أن زيادة الإفراز لهرمون الغدة الدرقية مثلاً يجعل المريض قلقاً خائفاً، كأن هنالك ما يهدده من المخاطر، بينما لا يعدو الأمر زيادة مستوى الثيروكسين في دمه، والأطباء يعرفون ما يفعله دواء السودوإيفدرين المقبض للأوعية، المستخدم في علاجات الزكام، حيث يؤدي الإكثار منه إلى الشعور بالقلق النفسي الشديد، وكأن هنالك مخاطر محدقة، بينما الأمر ناتج عن تأثير هذا الدواء في خلايا المخ، وإثارته لها إثارة زائدة عن الحد.... أمثلة كثيرة يعرفها الأطباء، ينتج فيها القلق، أو الحزن، عن خلل في كيمياء البدن، والمؤمن مثله مثل غير المؤمن في ذلك، لأن الإيمان لا يخرجنا من بشريتنا وضعفنا البشري. {يُرِيدُ اللّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفاً} النساء28.

     وفي تراثنا الرائع، يتمتع الإمام الغزالي بمكانة عظيمة، يلقب فيها ب"حجة الإسلام". ولعله كان أقدر الأقدمين على البحث في أمور القلوب والنفوس من الناحية الإيمانية، كما يشهد بذلك كتابه" إحياء علوم الدين". وهذا الرجل الكبير تقول سيرته: إنه أصيب بالسوداء أي الاكتئاب، واعتزل الناس في غرفة يقيم بها في المسجد الأموي في دمشق، حتى شفاه الله، وخرج من نوبة الاكتئاب، فكان عالماً غزير الإنتاج، وكان أقدر القدماء على فهم أمور النفس، وأحوال القلوب.

     ولم يقل أحد من العلماء الأجلاء القدامى، أن الغزالي أصابته السوداء، أي:  الاكتئاب النفسي لأنه كان في تلك المرحلة ناقص الإيمان. كما يتهم بذلك المسلم المعاصر، عندما يصاب بالاكتئاب، أو غيره من الأمراض النفسية.

     ولعل من أسباب هذا الاعتقاد الخاطئ، والظن أن المؤمن لا يصيبه القلق ولا الاكتئاب ولا غيرهما من الاضطرابات النفسية إلا لخلل في إيمانه. أقول: لعل من أسباب الظن أن النفس المؤمنة، لا بد من أن تكون نفساً مطمئنة، طالما خاطبها المولى في كتابه الكريم قائلاً: يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ{27} ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً{28} فَادْخُلِي فِي عِبَادِي{29} وَادْخُلِي جَنَّتِي{30}} الفجر 27-30 كما أن الله قال عن ذكره: {الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ }الرعد28. فافترض البعض أن النفس المؤمنة، لا يصيبها القلق، والحزن وغيرهما من أشكال المعاناة النفسية، وإن أصابها شيء من ذلك، فهو إنما يصيبها لأن هنالك نقصاً في إيمانها، أو خطأ في اعتقادها، أو تقصيراً في عباداتها، أو وقوعاً في المعاصي.

أرجو ممن أعجبته مقالتي هذه أن يتكرم بنشرها لعل الله يثيبه ويثيبني وينتفع بها إخوة آخرون.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين