بصائر إيمانية ـ 2 ـ

بقلم الشيخ : مجد مكي


خطبة ألقيت بجامع السلام بحلب 29/ربيع الآخر/1398 الموافق 7/نيسان/1978م.


روى الإمام مسلم والترمذي وأحمد عن العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : «ذاق طعم الإيمان من رضي بالله رباً ، وبالإسلام ديناً ، وبمحمد نبياً ورسولاً».


لعل التاريخ لم يشهد عصراً أحوج من عصرنا إلى هذا الهدي النبوي الكريم ، فما أبعد الشقة اليوم بين الأسماء ومسمَّياتها ، وما أكثر المنتسبين إلى الإسلام ، والإسلام منهم براء ، وما أكثر الملقبين بلقب الإيمان وأفئدتهم منه هواء. فإن أجبتم ألا تكونوا من أولئك وهؤلاء ، فتعالوا نعرض أنفسنا على أشّعة الإيمان الكاشفة ، لنختبر بمعاييره مبلغ صدقنا ومدى جدِّنا في دعوى الإيمان.


إن الإيمان في حقيقته ليس من فصيلة الأقوال أو الأعمال أو الظواهر التي تدركها الأسماع والأبصار ، ولكنه شيءٌ في جَذْر النفس منبته، وفي أعماق القلب مولده ، ففي ذلك القرار المكين يستقر بذر الإيمان وينمو حتى يخرج نباته بإذن ربه ، [كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ] {إبراهيم:24}  ،وكل مظهر من المظاهر لم ترسخ عروقه في هذا الحرز الحريز ، فإنه يظل في مهب الرياح عرضة للتحول أو الزوال ، [كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ] {إبراهيم:26}  .


الإيمان ثمرة طيبة... من ذاق حلاوتها عرف ، ومن لم يذق يرثى لحاله... ويُعزَّى في ذات نفسه ، ولذا قال أحد الصالحين: مساكين أهل الدنيا خرجوا منها وما ذاقوا أطيب ما فيها.


وحسب المؤمن عزاً وفخراً وتيهاً أن الله يخاطبهم في محكم الآيات بالنداء الحبيب الآية تلو الآية ، تستجيش عواطفهم، وتحرك كوامن نفوسهم ، فهم المقصودون بقوله سبحانه :[يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا]. عندها يشعرون أنهم موصولون بالله دون قيود.


وأنه يخاطبهم من علياء عزته ، يريد منهم أن يرتفعوا ... وأين يعزوا، وأن يعلوا:[وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ] {آل عمران:139} .


وجدير بالمؤمنين أن يحمدوا الله على ما رزقهم من نعمة الإيمان وما أنزل على قلوبهم من سكينة الإسلام:[هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ المُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ] {الفتح:4} . [وَلَكِنَّ اللهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الكُفْرَ وَالفُسُوقَ وَالعِصْيَانَ] {الحجرات:7} .


معشر المسلمين: لقد آن للقلوب الخاوية أن تذوق طعم الإيمان... وآن للأفئدة المظلمة أن يغشاها نور القرآن وأي إيمان يجب أن تتذوقه وأن نعود إليه؟!!


إنه الإيمان الذي غرسه رسول الله صلى الله عليه وسلم في قلب الفتى اليافع الصغير ... فاكتسب من ذلك برد اليقين وسكينة المؤمنين.


روى الإمام الترمذي بسند صحيح عن أبي العباس عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال : كنت خلف النبي صلى الله عليه وسلم يوماً فقال لي :« يا غلام أني أعلمك كلمات: احفظ الله يحفظك ، احفظ الله تجدهُ تُجاهك ، إذا سألت فاسأل الله ، وإذا استعنت فاستعن بالله ، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء ، لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك ، رُفعت الأقلام وجفَّت الصحف».
احفظ الله يحفظك : إنَّ من أولى الأمور التي يجب أن يعتقدها المؤمن : أنه إذا حفظ دين الله بحفظ أوامره التي أوجبها : ونواهيه التي حرمها ، فوقف عند أوامره بالامتثال ، و عند نواهيه بالاجتناب ، فلا يفقده حيث أمره ، ولا يراه حيث نهاه... من فعل ذلك حفظ الله عليه دينه ، وأدخل النور في قلبه:[أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا] {الأنعام:122} . من حفظ حدود الله وراعى حقوقه عاش في حياة طيبة على هذه الأرض :[مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً] {النحل:97} .
إن حفظ الله تعالى لا يمكن أن يقربه دنس الشيطان ولا شر الإنسان ، ونحن نقرأ في كتاب الله تعالى كيف حفظ موسى عليه السلام وأحاطه برعايته ، في ساعة أصدر فرعون أمره بتقتيل الأولاد ، حتى يأمن من خطر النبي المنتظر... وشاءت عناية الله أن يدخل الرضيع المنتظر قصر فرعون بحفظ إلهيّ وقدرة ربانية ، ويُحنِّن عليه قلب امرأته ... وهو غلام صغير لا يملك حمايةً لنفسه ولا يستطيع حفظاً لذاته:[وَقَالَتِ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ] {القصص:9}  .[وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى(37) إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى(38) أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي اليَمِّ فَلْيُلْقِهِ اليَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي(39)]. {طه}. .
وضرب الله لنا مثلاً في كتابه أن يعقوب على نبينا وعليه الصلاة والسلام لما أحسَّ بالمؤامرة التي دبَّرها أبناؤه على أخيهم يوسُف . وهو رجل مسنٌّ لا يستطيع أن يضع يده على خيوط المؤامرة، ولكنه أسند أمره إلى الله تعالى، وقال : [وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللهِ إِنَّ اللهَ بَصِيرٌ بِالعِبَادِ] {غافر:44} . وقال :[ فَاللهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ] {يوسف:64} . وإذ برعاية الله وحفظه تنتشل يوسف من غيابت الجببِّ تارةً، وتخرجه من السجنِ أخرى ثم تُتوِّجه ملكاً :[وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ المُحْسِنِينَ] {يوسف:56} .
إنَّ حفظ الله تعالى للعباد يكون في مصالح الدنيا كالحفظ في البدن والولد والأهل والمال قال تعالى :[لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللهِ] {الرعد:11} .
جاوز بعض الصالحين مائة سنة ، وهو متمتِّع بموفور عقله وقوة جسمه فوثب يوماً وثبة شديدة عاتبه عليها إخوانه، فقال لهم : هذه جوارح حفظناها عن المعاصي في الصغر فحفظها الله علينا في الكبر.
كانت امرأة تغشى عائشة ، وكانت تكبر . تمثل بهذا البيت : ويوم الوشاح من تعاجيب ربنا ألا إنه من بلدة الكفر أنجاني قال : فقالت عائشة لها : ما هذا البيت الذي أراك تمثلين به ؟ قال : فقالت : شهدت عروسا لنا في الجاهلية وضعوا وشاحها وأدخلوها مغتسلها ، فأبصرت الحدأة حمرة الوشاح فانحطت عليه فأخذته ، فاتهموني ففتشوني حتى فتشوني في قبلي . قالت : فدعوت الله عز وجل أن يبرئني قالت : فجاءت الحدأة بالوشاح حتى طرحته وسطهم وهم ينظرون
وحفظ الله للعبد يكون في دينه وإيمانه فيحفظه في حياته من الشبهات المضلة ، ومن الشهوات المحرمة ، ويحفظ عليه دينه عند موته فيتوفاه الله تعالى على الإيمان ، قال بعض السلف : إذا حضر الرجل الموت يقال للملك : شُمَّ قلبه ، قال : أجد في قلبه الصيام ، قال : شُمَّ قدميه ، قال : أجد في قدميه القيام ، فيقول : حفظ  نفسه فحفظه الله .
فالله عزَّ وجل يحفظ المؤمن بأنواع من الحفظ ، ويحول بينه وبين ما يفسد عليه دينه قال تعالى :[ أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ المَرْءِ وَقَلْبِهِ] {الأنفال:24} . يحفظه ويحول بين المؤمن وبين المعصية التي تجره إلى النار.
احفظ الله يحفظك ، احفظ الله تجده تجاهك: أقم دين الله واحفظ حقوقه تجد أنَّ الله معك يوجهك ويحوطك ويوفقك ويسدِّدك.. وحفظ الله للمؤمنين أمر لا نشك فيه ولا نرتاب . وكلنا يعلم أن الله حفظ نبيه صلى الله عليه وسلم يوم خرج من بيته مهاجراً ، فأعمى أعين المشركين عنه ... وعاد المشركون ... وكأنَّ قوة الحق تردعهم من أن يمسوا محمداً وصاحبه بسوء
فأدبروا ووجوه الأرض تلفحهم   كباطل من جلال الحق منهزم.
ولما هرب الحسن البصري من الحجاج فدخل بيتاً وتبعه الشرط وفتشوا البيت فلم يجدوه، فقال الناس للحجاج : إنَّ الشرط فتشوا عن الحسن فلم يجدوه قال الحجاج: بل كان في البيت، ولكن الله طمس أعينهم فلم يروه.
وروى البخاري ومسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبرنا أن ثلاثة نفر ممن كانوا قبلنا انطلقوا حتى آواهم المبيت إلى الغار، فانحدرت صخرة من الجبل فسدت عليهم الغار، فقالوا : إنه لن ينجيكم من هذه الصخرة إلا أن تدعوا الله بصالح أعمالكم، فدعوا بصالح أعمالهم وقالوا : اللهم إن كنا فعلنا ذلك ابتغاء وجهك ففرج عنا ما نحن فيه فانفرجت الصخرة وخرجوا يمشون.
روى الإمام مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حدث عنغلام مؤمن دعا إلى دين الله ونبذ شريعة الملك، فدفعه الملك إلى جنوده وقال : اذهبوا به إلى جبل كذا وكذا فاصعدوا به الجبل فإذا بلغتم ذروته فإن رجع عن دينه وإلا فاطرحوه، فذهبوا به فصعدوا به الجبل، فقال : اللهم اكفنيهم بما شئت ، فرجف بهم الجبل فسقطوا، وجاء يمشي إلى الملك. قال الملك : ما فعل أصحابك ؟ فقال : كفانيهم الله تعالى فدفعه إلى نفر من أصحابه، فقال : اذهبوا به فاحملوه في سفينة وتوسَّطوا به البحر، فإن رجع عن دينه وإلا فاقذفوه فذهبوا به ، فقال: اللهم اكفنيهم بما شئت فانكفأت بهم السفينة فغرقوا وجاء يمشي إلى الملك .
ولما ابتلع الحوت نبي الله يونس عليه السلام وغاص به في أعماق البحار، وأضحى نبي الله في ظلمات ثلاث ... ظلمة الليل، وظلمة البحر ، وظلمة بطن الحوت ، كالجنين في بطن أمه ، لا يستطيع أن يستنجد أو أن يصرخ ، سمع تسبيح الحصى في جوف البحار، فعادت الثقة إلى قلبه بمدد الله فنادى ربه... وقد سجل القرآن نداءه ليكون ملاذ المؤمنين عند الشدائد:[وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ  فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي المُؤْمِنِينَ] {الأنبياء:87ـ 88} .ويصعد الدعاء الطاهر فتقول الملائكة : يا رب صوت معروف من بلاد غريبة، فيقول الرب عزَّ وجل : إنه عبدي يونس قالوا : يا ربنا ألا ترحم ما كان يصنع في الرخاء فتنجيه في البلاء؟ قال : نعم فأنجاه الله :[فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ المُسَبِّحِينَ لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ] {الصَّفات:143ـ 144} .
احفظ الله يحفظك : احفظ الله تجده تجاهك : إذا سألت فاسأل الله ، وإذا استعنت فاستعن بالله .
 روى الترمذي : سلوا الله من فضله فإن الله يحبُّ أن يسأل ، من لا يسأل الله يغضب عليه».
الله يغضب إن تركت سؤاله  وبُنيَّ آدم حين يسأل يغضب
فالإنسان مطبوع على التقتير والشح والحرص ، [وَكَانَ الإِنْسَانُ قَتُورًا] {الإسراء:100} . [وَأُحْضِرَتِ الأَنْفُسُ الشُّحَّ] {النساء:128} .
وفي قبض كف الطفل عند ملاده دليل على الحرص المركب في الحيِّ
وفي بسطها عند الممات إشارة  ألا فانظروا أني خرجت بلا شيء
لقد رأى وهب بن منبه رجلاً يأتي الظلمة، فيسألهم فرثى لحاله، وأشفق لوضعه ونصحه، فقال : وَيْحك يا هذا تأتي مَنْ يغلق عنك بابه ، ويظهر لك فقره ويواري لك غناه... وتدع من يفتح لك بابه نصف الليل ونصف النهار ، ويظهر لك غناه ويقول : ادعني أستجب لك.
إذا قيل في الدنيا خليل فقل نعم خليل اسمِ شخص لا خليل وفاء
وإن قيل في الدنيا جواد فقل نعم جواد ركوب لا جواد عطاء
روى البخاري ومسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :« يقول الله عزَّ وجل : هل من داع فاستجيب دعاءه؟ هل من سائل فأعطيه سؤاله؟ هل من مستغفر فأغفر له»؟
لقد غاب هذا الإيمان من قلوب المسلمين حتى نرى الواحد منهم مرتاباً في عطاء الله يسأل الله الرزق ... ثم لا تمشي لحظات حتى نراه .. لا يدع باباً من أبواب الحرام إلا أتاه ...
ألا وإن الرجل الذي يأتي أبواب الحرام بأكل أموال الناس بالباطل والغش ولعب الميسر بمختلف صوره مرتاب بقوله الله عزَّ وجل :[وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ العَلِيمُ] {العنكبوت:60} .[وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللهِ رِزْقُهَا] {هود:6}  .
ألا وإن الموظف الذي يختلس ويرتشي مرتاب في قول الله عزَّ وجل :[إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو القُوَّةِ المَتِينُ] {الذاريات:58} .
ألا وإن الشاب الذي يوالي الظالمين ويحتمي بهم من أجل ضمان مستقبله... وتأمين حياته... جاحد لفضل الله ، شاك في كتاب الله ، مرتاب في قول الله عزَّ وجل :[وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ] {الذاريات:22}  . فيا عجباً لـه يعمر الدنيا على حساب الآخرة ، فما موقفه بين يدي ربه ، إذا أتته منيته ولم يعمر دنياه بعد ، وقد خرب آخرته من قبل ... ماذا عساه أن يقول ... وربه يقول له : عبدي ألم تؤمن أني أنا الرزاق... وليس له إلا جهنم [خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآَخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الخُسْرَانُ المُبِينُ] {الحج:11} .
روى ابن ماجه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «من كانت الدنيا همه جعل الله فقره بين عينيه وفرَّق الله شمله ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له ومن كانت الآخرة همه جمع الله شمله، وجعل غناه في قلبه وأتته الدنيا وهي راغمة».
إذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله:
 روى مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : «احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز».
إذا سألت شيئاً جلباً أو دفعاً على أمر من أمور الدنيا والآخرة فاستعن بالله لأن خزائن الجود بيده، ولأنه القادر على كل شيء وغيره عاجز عن كل شيء حتى عن جلب مصالح نفسه ودفع مضارها:[قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا] {الأعراف:188} .
وأي حال وصل إليه المسلمون لما جهلوا قواعد الإيمان هذه .. وضعف يقينهم بعون الله فاستعانوا بغيره .. وما زادهم ذلك إلا ذلاً ومهانة وصغاراً في ذات أنفسهم وأمام غيرهم، وقد بيَّن الله لنا حالهم وضعفهم حين احتموا بغيره فقال جل شأنه :[مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ العَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ البُيُوتِ لَبَيْتُ العَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ] {العنكبوت:41} .
كم منا معشر المسلمين من يتخذون من دون الله أرباباً يخشونهم كخشية الله أو أشد خشية ويحبونهم كحب الله أو أشد حباً ، يترامون على أعتاب أولي القوة والسلطان أو المال والجاه يعلقون عليهم الآمال ، ويشكون إليهم الآلام وكأن بأيديهم حل كل مشكلة ، وتفريج كل أزمة ... ولو فتشت عن قلوب هؤلاء الذين خضعت أعناقهم وامتلأت قلوبهم رهبة لهذه الأوثان المتحركة التي تأكل وتشرب كما نأكل ونشرب ونتنفس ... لو فتشت عن قلوبهم لوجدت اسم الله لا يخطر لهم على بال ، ولوجدتهم قد غابت فيهم هذه الحقيقة :[مَا يَفْتَحِ اللهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ] {فاطر:2} .فلا يقدر على كشف الضر ، وجلب النفع سواه:[وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ] {الأنعام:17} .
لجأوا إلى عدوهم ليحميهم من عدوهم، واعتمدوا على ظالم لينقذهم من ظالم فما جنوا إلا عذاب الدنيا وفي الآخرة سيحسوا بخيبة الأمل ويرفعوا أيديهم بالدعاء :[وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا] {الأحزاب:67} .
وأعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك:
فإذا أردت النفع والعزة والكمال فاطلبه من الله وحده ، وأنت تقرأ في كتاب الله تعالى :[مَنْ كَانَ يُرِيدُ العِزَّةَ فَللهِ العِزَّةُ جَمِيعًا] {فاطر:10} . [وَللهِ العِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ] {المنافقون:8} .
ورحم الله عمر وهو يعلنها: نحن قوم أعزنا الله بالإسلام ومهما ابتغينا العزة بغيره أذلنا الله . فالنافع والمعز هو الله وحده... وحذار أن تقول: فلان أطعمني ... فلان وظفني ... فلان رفَّعني .. لا تذكر العبد وتنسى الرب:[ وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ] {الأنعام:112} .
يقف سعيد بن جبير أمام الحجاج ... فيقول الحجاج : أتريد أن أعفو عنك يا سعيد؟ قال : إن كان العفو فمن الله أما أنت فلا براءة لك ولا عذر.
واعلم أنَّ الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعون إلا بشيء قد كتبه الله لك ، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك.
إن اجتمع الناس ليلحقوا بلك ضراً فلا يستطيعون لأن الله هو الضار النافع بيده أزمة الموجودات... وقد ضرب الصحابة رضي الله عنهم المثل الأعلى في اعتقادهم أن الله هو المتصرف وحده وأن الكافرين لا يملكون ضر أحد مهما كان لهم من سلطان مادي وجنود وجيوش وأسلحة وهم يردون على المثبطين الذين قالوا لهم: إن الناس قد جمعوا لكم الجموع وجيَّشوا لكم الجيوش ألا تخشونهم؟ ألا تخافونهم؟ [الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الوَكِيلُ(173) فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللهِ وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ(174) ]. {آل عمران}. .
ويهدد الحجاج سعيداً بالقتل فيقول سعيد: لو علمت أن الموت والحياة بيدك لما عبدت إلهاً غيرك.
وقد كان السلف الصالح يندفعون نحو ساحة الوغى وهم يعتقدون أن الضرر لا يصيبهم إلا إذا قدره الله ... وإذا قدر الله على عبد الضرر أصابه ولو في جوف بيته... فعلام الخوف وعلام الخور!! ولم هذا الذل ولم هذا الهوان؟!
لقد كان المسلمون من قبل على غير هذه الصورة.
كنا نقدم للعدو صدورنا لم نخش يوماً غاشماً جباراً
ورؤوسنا يا رب فوق أكفنا نرجو ثوابك مغنماً وجواراً
وكأن ظل السيف ظل حديقة  خضراء تنبت حولها الأزهارا
روى ابن ماجه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «يا أيها الناس آمنوا بالله وأجملوا في الطلب إن نفساً لن تموت حتى تستوفي رزقها وأجلها».
روى الإمام أحمد قال صلى الله عليه وسلم :«إن لكل شيء حقيقة وبالغ عبد حقيقة الإيمان حتى يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وأن ما أخطأه لم يكن ليصيبه».
رفعت الأقلام وجف الصحف: هذا هو الإيمان أن تعتقد أن الله هو الحافظ ... وهو المجيب... وهو المعين.. وهو النافع والضار :[وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ] {النحل:53} .
هذا هو الإيمان الذي تذوقه العارفون فوجدوا فيه برد اليقين وسكينة النفس.. هذا هو الإيمان الذي عاشه رجال التصوف الصادقين الذين تخرجوا في مدارس التربية الإيمانية والسلوك الإسلامي... فكان ضرب أعناقهم أحبَّ إليهم من سلب الإيمان حتى قال قائلهم : إلهي ماذا فقد من وجدك، وماذا وجد من فقدك؟ لقد خاب من رضي دونك بدلاً وخسر من بغي عنك حولاً، وسعد من رضي بك رباً .
وقال الثاني : لو كان أهل الجنة في مثل ما نحن فيه إنهم إذاً لفي عيش طيب.
وقال ثالث : نحن في لذة لو ذاقها الملوك لقاتلونا عليها بحد السيف.
وأعظم من ذلك كله لقد فاز المؤمنون بمثل هذا الإيمان بما تصبو إليه النفس وتتجه إليه القلوب: [إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الفِرْدَوْسِ نُزُلًا] {الكهف:107} .
أما غيرهم من أهل التعاسة والشقاء من الملحدين والمارقين فلا نور ولا هدى لهم ولا طريق يسيرون عليه :[إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا] {النساء:168} .
إنَّ في القلب وحشةً لا يزيلها إلا الأنس بالله.
وتفرقاً لا يلمُّه إلا الإقبال على الله .
وقلقاً لا يشتته إلا الاجتماع عليه والفرار إليه :[فَفِرُّوا إِلَى اللهِ] {الذاريات:50} .
روى مسلم عن العباس بن عبد المطلب:«ذاق طعم الإيمان من رضي بالله رباً ، وبالإسلام ديناً، وبمحمد نبياً رسولاً».
أهم المراجع التي رجعت إليها:
الإيمان والحياة .
جامع العلوم والحكم.
طعم الإيمان مقالة للشيخ دراز في «لواء الإسلام»
شرح النبراوي على الأربعين نووية.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين