بشر بن عوانة، اسم بلا مسمى

كنتُ قد وقفتُ قبل شهور على مقالة جميلة في ترجمة شاعر منبج المعاصر، نسيج وحده، الأديب المثقف الأستاذ: (محمد منلا غزيِّل) رحمه الله.

ولفتني في الترجمة، الوهمُ الذي وقع في قول كاتبها عن الشاعر موضوع الترجمة: "كما حفظ لبِشرِ بن أبي عوانة قصيدته في المقامة البشرية، ومطلعها:

أَفاطمُ لو شهدتِ ببطن خَبْتٍ" وقد لاقى الهزبرُ أخاكِ بِشْرا"

_______

فكتبتُ تعقيبا عليه:

كنتُ أظن - كما توهم الكاتب - أن تلك القصيدة الرائية البديعة هي للشاعر الجاهلي بشر بن عوانة العبدي.

ومكثتُ على ذلك الوهم عقودا، منذ حفظتُ القصيدة والمقامة البِشرية التي تضمنتها، لإمام أدب المقامات: أحمد بن الحسين بن يحيى الهمذاني، أبي الفضل، المشهور بـ: بديع الزمان الهمذاني، المتوفى عام 397هـ عن أربعين سنة. رحمه الله.

وقد كانت القصيدة المذكورة، الفصل الأهم من فصول تلك المقامة البديعة المتميزة شعرا ونثر، وكنتُ قد حفظت المقامة المذكورة بشعرها ونثرها، وأنا طالب في جنة الكلتاوية، "مدرسة دار نهضة العلوم الشرعية بحلب "في أول المرحلة الثانوية، قبل نحو خمسين سنة أو يزيد، في أول السبعينات من القرن الميلادي الماضي. حفظتها من كتاب (جواهر الأدب) لمؤلفه: أحمد بن إبراهيم الهاشمي. المتوفى عام 1943م, وكان ذلك الكتاب قد أضيف إلى مكتبة المدرسة آنذاك، فاستعرته وحفظت منه "المقامة البِشرية" لبديع الزمان الهمذاني، التي ضمنها الهاشمي كتابه المذكور.

وقد رويتها في أكثر من مناسبة منسوبة إلى ذلك الشاعر الفحل "بشر بن عوانة العبدي". كما نسبها إليه الهمذاني صاحب المقامة.

ثم بدأ لي يوما قبل أكثر من عشرين سنة - بعد أن تيسرت المراجع، وتمهدت وسائل المراجعة، من خلال المكتبة الشاملة – بدا لي أن أعرف أكثر عن هذا الشاعر الباهر، بشر بن عوانة العبدي، صاحب تلك القصيدة العصماء التي تملأ قارئها وسامعها نشوة وحماسة وإعجابا، فلم أجد له تعريفا ولا ترجمة في شيء من كتُب الأعلام والتراجم.

لأكتشف من خلال ذلك البحث، أن بشر بن عوانة ما هو إلا اسم بلا مسمى، مسماه من محض الخيال، ولا وجود له في عالم الواقع.

أما القصيدة البليغة المشبِعة حماسة وقوة، المنسوبة إلى بشر بن عوانة، فهي من نظم الأديب الشاعر: بديع الزمان الهمذاني، المتوفى 398هـ صاحب كتاب (مقامات بديع الزمان) المشهور.

وأن الأحداث المثيرة جدا في غرابتها، والمفعمة بالحماسة في "المقامة البِشرية"، نسبة إلى اسم بشر بن عوانة المذكور، التي هي إحدى تلك المقامات، ما هي إلا من نسج خيال بديع الزمان الهمذاني.

وأن كل ما تضمنته المقامة المذكورة من الأراجيز والأشعار الرائقة الراقية، إنما هي من نظم بديع الزمان نفسه.

وجدتُ هذه المعلومة التي كانت نفيسة بقدر ما كانت صادمة، في كتاب "الأعلام" للأستاذ خير الدين الزركلي، المتوفى عام 1976م رحمه الله.

فإنه قال عند اسم (بِشر بن عوانة) ما يأتي:

بشر بن عوانة العبدي: اسم اخترعه البديع الهمذاني، لشاعر وضع له قصة خلاصتها: أنه عرض له أسد، وهو ذاهب يبتغي مهرا لابنة عم له، فثبت للأسد وقتله، وخاطب أختا له سماها البديع (فاطمة) بقصيدة هي أروع ما قيل في موضوعها، مطلعها:

أفاطم لو شهدتِ ببطنِ خبتٍ وقد لاقى الهزبرُ أخاكِ بشرا

والقصيدة في مقامات البديع. انتهى. من أعلام الزركلي.

ولي هنا استدراك وتنبيه على وهْمٍ وقع في كلام الزركلي حين قال: وخاطب أختا له سماها البديع (فاطمة) بقصيدة هي أروع ما قيل..

فإن فاطمة لم تكن أخت بشر في هذه الرواية الخيالية، وإنما هي ابنة عمه التي عرّضت بوصف جمالها له المرأةُ التي سباها.

وفي نص المقامة البشرية موضوع هذا البحث، أن بِشر بن عوانة لما سمع الوصف المُغري قال لها: وَيْحَكِ مَنْ عَنَيْتِ؟ فَقَالَتْ: بِنْتَ عَمِّكَ فَاطِمَةَ. فَقالَ: أَهِيَ مِنَ الحُسْنِ بِحَيْثُ وَصَفْتِ؟..

وفي نص المقامة أيضا، قول بديع الزمان: ثُمَّ كَتَبَ بِدَمِ الأَسَدِ عَلى قَميصِهِ إِلَى ابْنَةِ عَمِّهِ:

أَفَاطِمُ لَوْ شَهِدْتِ بِبَطْنِ خَبْتٍ وَقَدْ لاَقى الهِزَبْرُ أَخَاكِ بِشْرَا

ففاطمة التي خاطبها في مطلع القصيدة بصيغة الترخيم: " أَفَاطِمُ" هي بنت عم بِشر، قولا واحدا، وليست أخته.

ولا يخدعنك عن هذه الحقيقة قوله في الشطر الثاني من البيت:.. أَخَاكِ بِشْرَا.

فإن قرائن السياق المشار إليها تقتضي أن الأخوة هنا ليست أخوة النسب، وإنما هي الأخوة بمعنى الصحبة بوجه من وجوهها، فإن "الأخوة" كما تطلق على أخوة النسب، فإنها تطلق أيضا على أخوة المنهج، وعلى الصداقة، وعلى الصحبة على أي وجه كانت.

وفي معاني "الأخ" في القاموس المحيط: (الصَّديق والصاحب)

وفي قصيدة الحطيئة في وصف الأعرابي الكريم:

أَخي جَفوَةٍ فيهِ مِنَ الإِنسِ وَحشَةٌ.. أي: صاحب جفوة.

وفي شواهد النحو على عملِ الصفة المشبهة باسم الفاعل، عملَ الفعل، قول الشاعر:

أخا الحرب لبَّاسًا إليها جِلَالها.. أي: قرين الحرب وصاحبها.

فيكون معنى الشطر المذكور: وَقَدْ لاَقى الهِزَبْرُ "صاحبكِ" بِشْرَا.

وقد سبق الزركليَّ إلى توهم أن فاطمة في المقامة البشرية هي أخت بِشر، بسبب الشطر المذكور: المُحبيُّ "محمد أمين بن فضل الله المحبي، المتوفى سنة 1111هـ" في كتابه: (خلاصة الأثر في أعيان القرن الحادي عشر) في ترجمة الأديب أبي بكر بن منصور بن بركات العمري الدمشقي، وفيها قول العمري المذكور: نقل صاحب قراضة الذهب (وهو ابن رشيق القيرواني) أنه كتب بِشر بن أبي عوانة العبدي الجاهلي إلى (أخته فاطمة) وكان قد خرج في ابتغاء مهر ابنة عمه. اهـ انظر: خلاصة الأثر في أعيان القرن الحادي عشر [1 /66]

وتابع المحبيَّ على هذا الوهم، شمسُ الدين، محمد بن أحمد السفاريني الحنبلي المتوفى: 1188هـ في كتابه: غذاء الألباب في شرح منظومة الآداب [1 /259] حيث قال فيه: وَفِي قَصِيدَةِ بِشْرِ بْنِ أَبِي عَوَانَةَ الْعَبْدِيِّ الْجَاهِلِيِّ الَّتِي كَتَبَهَا إلَى "أُخْتِهِ فَاطِمَةَ" اهـ

وما هي بأخته، وإنما هي ابنة عمه، كما تُحتم ذلك القرائنُ النصية في نفس المقامة.

هذا، وقد تبيّن لي من خلال هذا البحث، أنه قد وقع كثير من الأدباء والفضلاء، كالمحبي صاحب: (خلاصة الأثر)، والسفاريني، صاحب: (غذاء الألباب) في نفس الوهم الذي وقعتُ فيه، بنسبة قصيدة: (أفاطم لو شهدتِ ببطن خبتٍ..) إلى شاعر حقيقي جاهلي اسمه: "بِشر بن عوانة" أو: "بِشر بن أبي عوانة" كما عند بعضهم. مع أنه اسم ليس له مسمى، كما حققه الزركلي.

كل ذلك بسبب حملهم كلام بديع الزمان الهمذاني على الحقيقة، وإنما هو من محض الخيال، على سبيل اللهو الأدبي.

ففي كتاب: المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر [2 /385] لمؤلفه: أبي الحسن علي بن محمد، المعروف بابن الاثير المتوفى: 630هـ قوله: ذكر بشر بن عوانة في أبياته الرائية التي أولها: أَفاطِمُ لَوْ شَهِدْتِ بِبطْنِ خَبْتٍ..اهـ

وفي كتاب: نهاية الأرب في فنون الأدب [3 /21] لشهاب الدين أحمد بن عبد الوهاب النويري المتوفى 733هـ قوله: وقال بشر بن عَوانة الفقعسي يصف ملاقاته الأسد وما كان بينهما: أفاطم لو شهدت ببطن خبت..اهـ

وفي كتاب: الوافي بالوفَيات [4 /99] لصلاح الدين الصفدي المتوفى: 764هـ قوله: قال بشر بن أبي عوانة الأسدي: من الوافر: أفاطم لو شهدت ببطن خبتِ. اهـ

وفي كتاب: التذكرة السعدية في الأشعار العربية. لمحمد بن عبد الرحمن العبيدي، من أدباء القرن الثامن الهجري، قوله: قال بشر بن عوانة، وقد لقي الأسد: أفاطمَ لو شهدتِ ببطن خبتِ. اهـ

وفي كتاب: حياة الحيوان الكبرى [2 /236] للدميري المتوفى: 808 هـ قوله: قاله بشر بن أبي عوانة لما قتل الأسد: أفاطم لو شهدت ببطن جُبٍّ. اهـ

وفي كتاب: الصبح المُنبي عن حيثية المتنبي [ص 93] ليوسف البديعي المتوفى: 1073 هـ قوله: بشر بن عوانة العبدي سبقهما إلى هذه الطريقة في قصيدته الرائية...: أفاطُم لو شهدتِ ببْطن خَبْتٍ. اهـ

وفي تفسير: التحرير والتنوير، التحرير والتنوير [15 /224] لمحمد الطاهر بن عاشور التونسي، المتوفى: 1393هـ نسب القصيدة أيضا لبشر بن عوانة في موضعين الأول عند تفسير الآية 128 من سورة التوبة. والآية 100 من سورة الإسراء. حيث استشهد ببعض لغة تلك القصيدة، على أنها لشاعر جاهلي كما ظن.

وهي ليست إلا لبديع الزمان الهمذاني.

ومما يؤكد توهيم كل هؤلاء الأدباء والفضلاء، وأن (بشر بن عوانة) لا وجود له إلا في خيال بديع الزمان الهمذاني في مقامته البِشرية، أنّ أَقْدم الأدباء المذكورين وفاةً، متأخرٌ أكثر من مائتين وثلاثين سنة، عن وفاة بديع الزمان، الذي لم يذكر القصةَ أحد غيره.

فكلهم عالة عليه في نقل هذه الواقعة التي لم تقع، ولكنهم حملوا كلام الهمذاني على الحقيقة، وهو محض خيال، وفي هذا الخيال ما لا يُقبل عقلا أن يكون واقعا، في غير موضع من أحداث الرواية التي أنقلها لكم من كتاب: مقامات بديع الزمان، وهذا نصها:

ـــــــــــــــ

المَقَامَةُ البِشْرِيَّة

حَدَّثَنا عِيسَى بْنُ هِشَامٍ قَالَ: كَانَ بِشْرُ بْنُ عَوَانَةُ العَبْدِيُّ صُعْلُوكاً. فَأَغَارَ عَلَى رَكْبٍ فِيهِمُ امْرَأَةٌ جَمِيلَةٌ، فَتَزَوَّجَ بِهَا، وَقالَ: مَا رَأَيْتُ كَالْيَومِ. فَقالَتْ:

أَعْجَبَ بِشْراً حَوَرٌ في عَيْنِي وَسَاعِدٌ أَبْيَضُ كالُّلجَيْنِ

وَدُونَهُ مَسْرحَ طَرْفِ العَيْنِ خَمْصَانَةٌ تَرْفُلُ فَي حِجْلَينِ

أَحْسَنُ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْليَنِ لَوْ ضَمَّ بِشْرٌ بَيْنَهَا وَبَيْني

أَدَامَ هَجْرِي وَأَطَالَ بَيْنِي وَلَوْ يَقِيسُ زَيْنَهَا بِزَيْنِي

لأَسْفَرَ الصُّبْحُ لِذِي عَيْنَيْنِ.

قَالَ بِشْرٌ: وَيْحَكِ مَنْ عَنَيْتِ؟ فَقَالَتْ: بِنْتَ عَمِّكَ فَاطِمَةَ. فَقالَ: أَهِيَ مِنَ الحُسْنِ بِحَيْثُ وَصَفْتِ؟ قالَتْ: وَأَزْيَدُ وَأَكْثَرُ. فَأَنْشَأ يَقُولُ:

وَيْحَكِ يَا ذَاتَ الثَّنَايَا البِيضِ مَا خِلْتُنِي مِنْكِ بِمُسْتَعيضِ

فَالآنَ إِذْ لَوَّحْتِ بِالتَّعْرِيضِ خَلَوْتِ جَوّاً فَاصْفِري وَبِيِضي

لاَ ضُمَّ جَفْنَايَ عَلى تَغْمِيضِ مَا لَمْ أُشُلْ عِرْضِي مِنَ الحَضِيضِ

فَقَالَتْ:

كَمْ خَاطِبٍ فِي أَمْرِهَا أَلحَّا وَهْيَ إِلْيكَ ابْنَةُ عَمٍّ لَحَّا

ثُمَّ أَرْسَلَ إِلَى عَمِّهِ يَخْطُبُ ابْنَتَهُ، وَمَنَعَهُ العَمُّ أُمْنِيَّتَهُ، فَآلى أَلاَّ يُرْعِيَ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ إِنْ لَمْ يُزَوِّجَهُ ابْنَتَهُ، ثُمَّ كَثُرَتْ مَضَرَّاتُهُ فِيهِمْ، وَاتَّصَلَتْ مَعَرَّاتُهُ إِلَيْهِمْ؛ فَاجْتَمَعَ رِجَالُ الحَيِّ إِلَى عَمِّهِ، وَقَالُوا: كُفَّ عَنَّا مَجْنُونَكَ.

فَقَالَ: لاَ تُلْبِسُوني عَاراً، وَأَمْهِلُونِي حَتَّى أُهْلِكَهُ بِبَعْضِ الحِيَلِ.

فَقَالُوا: أَنْتَ وَذَاكَ.

ثُمَّ قَالَ لَهُ عَمُّهُ: إِنِّي آلَيْتُ أَنْ لاَ أُزَوِّجَ ابْنَتِي هَذِهِ إِلاَّ مِمَّنْ يَسُوقُ إِلَيْهَا أَلْفَ نَاقَةٍ مَهْراً، وَلا أَرْضَاهَا إِلاَّ مِنْ نُوقِ خُزَاعَةَ.

وَغَرَضُ العَمِّ كَانَ أَنْ يَسْلُكَ بِشْرٌ الطَّرِيقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ خُزَاعَةَ فَيَفْتَرِسَهُ الأَسَدُ؛ لأَنَّ العَرَبَ قَدْ كَانَتْ تَحَامَتْ عَنْ ذَلكَ الطَّريقِ، وَكَانَ فِيهِ أَسَدٌ يُسَمَّى دَاذاً، وَحَيَّةٌ تُدْعَى شُجَاعاً، يَقُولُ فِيِهِمَا قَائِلهُمْ:

أَفْتَكُ مِنْ دَاذٍ وَمِنْ شُجَاعٍ إِنْ يِكُ دَاذٌ سَيِّدَ السِّبَاعِ

فَإِنَّهَا سَيِّدَةُ الأَفَاعي.

ثُمَّ إِنَّ بِشْراً سَلَكَ ذَلِكَ الطَّرِيقَ، فَمَا نَصَفَهُ حَتَّى لَقِيَ الأَسَدَ، وَقَمَصَ مُهْرُهُ، فَنَزَلَ وَعَقَرَهُ، ثُمَّ اخْتَرَطَ سَيْفَهُ إِلَى الأَسَدِ وَاعْتَرَضَهُ، وَقَطَّهُ، ثُمَّ كَتَبَ بِدَمِ الأَسَدِ عَلى قَميصِهِ إِلَى ابْنَةِ عَمِّهِ:

أَفَاطِمُ لَوْ شَهِدْتِ بِبَطْنِ خَبْتٍ وَقَدْ لاَقى الهِزَبْرُ أَخَاكِ بِشْرَا

إِذاً لَرَأَيْتِ لَيْثاً زَارَ لَيْثاً هِزَبْرَاً أَغْلَباُ لاقى هِزَبْرَا

تَبَهْنَسَ إِذْ تَقاعَسَ عَنْهُ مُهْرِي مُحَاذَرَةً، فَقُلْتُ: عُقِرْتَ مُهْرَا

أَنِلْ قَدَمَيَّ ظَهْرَ الأَرْضِ؛ إِنِّي رَأَيْتُ الأَرْضَ أَثْبَتَ مِنْكَ ظَهْرَا

وَقُلْتُ لَهُ وَقَدْ أَبْدَى نِصالاَ مُحَدَّدَةً وَوَجْهاً مُكْفَهِراًّ

يُكَفْكِفُ غِيلَةً إِحْدَى يَدَيْهِ وَيَبْسُطُ للْوُثُوبِ عَلىَّ أُخْرَى

يُدِلُّ بِمِخْلَبٍ وَبِحَدِّ نَابٍ وَبِاللَّحَظاتِ تَحْسَبُهُنَّ جَمْرَا

وَفي يُمْنَايَ مَاضِي الحَدِّ أَبْقَى بِمَضْرِبهِ قِراعُ المْوتِ أُثْرَا

أَلَمْ يَبْلُغْكَ مَا فَعَلَتْ ظُباهُ بِكَاظِمَةٍ غَدَاةَ لَقِيتَ عَمْرَا

وَقَلْبِي مِثْلُ قَلْبِكَ لَيْسَ يَخْشَى مُصَاوَلةً فَكَيفَ يَخَافُ ذَعْرَا؟

وَأَنْتَ تَرُومُ للأَشْبَالِ قُوتاً وَأَطْلُبُ لابْنَةِ الأَعْمامِ مَهْرَا

فَفِيمَ تَسُومُ مِثْلي أَنْ يُوَلِّي وَيَجْعَلَ في يَدَيْكَ النَّفْسَ قَسْرَا؟

نَصَحْتُكَ فَالْتَمِسْ يا لَيْثُ غَيْرِي طَعَاماً؛ إِنَّ لَحْمِي كَانَ مُرَّا

فَلَمَّا ظَنَّ أَنَّ الغِشَّ نُصْحِي وَخالَفَنِي كَأَنِي قُلْتُ هُجْرَا

مَشَى وَمَشَيْتُ مِنْ أَسَدَيْنَ رَاما مَرَاماً كانَ إِذْ طَلَباهُ وَعْرَا

هَزَزْتُ لَهُ الحُسَامَ فَخِلْتُ أَنِّي سَلَلْتُ بِهِ لَدَى الظَّلْماءِ فَجْرَا

وَجُدْتُ لَهُ بِجَائِشَةٍ أَرَتْهُ بِأَنْ كَذَبَتْهُ مَا مَنَّتْهُ غَدْرَا

وَأَطْلَقْتُ المَهَّنَد مِنْ يَمِيِني فَقَدَّ لَهُ مِنَ الأَضْلاَعِ عَشْرَا

فَخَرَّ مُجَدَّلاً بِدَمٍ كَأنيَّ هَدَمْتُ بِهِ بِناءً مُشْمَخِرا

وَقُلْتُ لَهُ: يَعِزُّ عَلَّي أَنِّي قَتَلْتُ مُنَاسِبي جَلَداً وَفَخْرَا؟

وَلَكِنْ رُمْتَ شَيْئاً لمْ يَرُمْهُ سِوَاكَ، فَلمْ أُطِقْ يا لَيْثُ صَبْرَا

تُحاوِلُ أَنْ تُعَلِّمنِي فِرَاراً! لَعَمْرُ أَبِيكَ قَدْ حَاوَلْتَ نُكْرَا!

فَلاَ تَجْزَعْ؛ فَقَدْ لاقَيْتَ حُرًّا يُحَاذِرُ أَنْ يُعَابَ؛ فَمُتَّ حُرَّا

فَإِنْ تَكُ قَدْ قُتِلْتَ فَليْسَ عَاراً فَقَدْ لاَقَيْتَ ذا طَرَفَيْنِ حُرَّا

فَلمَّا بَلَغَتِ الأَبْيَاتُ عَمَّهُ نَدِمَ عَلَى ما مَنَعَهُ تَزْوِيجَهَا، وَخَشِيَ أَنْ تَغْتَالَهُ الحَيَّةُ، فَقَامَ في أَثرِهِ، وَبَلَغَهُ وَقَدْ مَلكَتَهُ سَوْرَةُ الحَيَّةِ، فَلمَّا رَأَى عَمَّهُ أَخَذَتْهُ حَمِيَّةُ الجَاهِلِيَّةِ، فَجَعلَ يَدَهُ فِي فَمِ الحَيَّةِ وَحَكَّمَ سَيْفَهُ فِيهَا، فَقَالَ:

بِشْرٌ إِلَى المَجْدِ بَعِيدٌ هَمُّهُ لَمَّا رآهُ بِالعَرَاءِ عَمُّهُ

قدْ ثَكِلَتْهُ نَفْسُهُ وَأُمُّهُ جَاشَتْ بِهِ جَائِشَةٌ تَهُمُّهُ

قَامَ إِلَى ابْنٍ للفَلاَ يَؤُمُّهُ فَغَابَ فِيهِ يَدُهُ وَكُمُّهُ

وَنَفْسُهُ نَفْسِي وَسَمِّي سَمُّهُ.

فَلَمَّا قَتَلَ الحَيَّةَ قَالَ عَمُّهُ: إِنيِّ عَرَّضْتُكَ طَمَعاً في أَمْرٍ قَدْ ثَنَى اللهُ عِنَانِي عَنْهُ، فارْجِعْ لأَزَوِّجَكَ ابْنَتِي، فَلَمَّا رَجَعَ جَعَلَ بِشرٌ يَمْلأُ فَمَهُ فَخْراً، حَتَّى طَلَعَ أَمْرَدُ كَشِقِّ القَمَرِ على فَرَسِهِ مُدَجَّجَاً في سِلاَحِهِ، فَقَالَ بِشْرٌ: يَا عَمُّ إِني أَسْمَعُ حِسَّ صَيْدٍ، وَخَرَجَ فَإِذَا بِغُلامٍ عَلى قَيْدٍ، فَقالَ: ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ يا بِشْرُ! أَنْ قَتَلْتَ دُودَةً وَبَهِيمَةً تمَلأُ ماضِغَيْكَ فَخْراً؟ أَنْتَ في أَمَانٍ إِنْ سلَّمْتَ عمَّكَ. فَقَالَ بِشْرٌ: مَنْ أَنْتَ لا ُأَّم لكَ؟ قَالَ: اليَوْمُ الأَسْوَدُ والمَوْتُ الأَحْمَرُ. فَقالَ بِشْرٌ: ثَكِلَتْكَ مَنْ سَلَحَتْكَ. فَقالَ: يَا بِشْرُ وَمَنْ سَلَحَتْكَ. وَكَرَّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا علَى صَاحِبِهِ، فَلَمْ يَتَمكَّنْ بِشْرٌ مِنْهُ، وَأَمكَنَ الغُلاَمَ عِشْرُونَ طَعْنَةً في كُلْيَةِ بِشْرٍ، كُلَّمَا مَسَّهُ شَبَا السِّنانِ حَمَاهُ عَنْ بَدَنِهِ إبِقْاَءً عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: يَا بِشْرُ كَيْفَ تَرَى؟ أَلَيْسَ لَوْ أَرَدْتُ لأَطْعَمْتُكَ أَنْيَابَ الرُّمْحِ؟

ثُمَّ أَلْقَى رُمْحَهُ واسْتَلَّ سَيْفَهُ فَضَربَ بِشْراً عِشْرينَ ضرْبةً بِعَرْضِ السَّيْفِ، وَلَمْ يَتَمَكَّنْ بِشْرٌ مِنْ وَاحِدَةٍ، ثُمَّ قَالَ: يَا بِشْرُ سَلِّمْ عَمَّكَ وَاذْهَبْ فِي أَمانٍ، قَالَ: نَعَمْ، وَلَكِنْ بِشَريطَةِ أَنْ تَقُولَ منْ أَنْتَ. فَقَالَ: أَنَا ابْنُكَ، فقالَ: يَا سُبْحَانَ اللهِ! مَا قَارَنْتُ عَقِيَلةً قَطُّ، فَأَنَّى لِي هَذِهِ المِنْحَةُ؟ فَقَالَ: أَنَا ابْنُ المَرْأَةِ التِّي دَلَّتْكَ عَلى ابْنَةِ عَمِّكَ. فَقالَ بِشْرٌ:

تِلْكَ العَصَا مِنْ هَذِهِ العُصَيَّةْ هَلْ تَلِدُ الحَيَّةَ إِلاَّ الحَيَّةْ!

وَحَلَفَ لاَ رَكِبَ حِصاناً، وَلا تَزَوَّجَ حَصَاناً. ثُمَّ زَوَّجَ ابْنَةَ عَمِهِ لابْنِهِ. انتهى.

 

وهذه ملاحظات حول المقامة، والقصيدة التي تضمنتها، تؤكد أن الأحداث والأشخاص المذكورين ليسوا إلا من نسج الخيال:

الأولى: أنني أرى أنّ عيسى بن هشام، الذي يروي عنه الهمذاني هذه الرواية، ويروي عنه أيضا في عشرات المقامات الأخرى، شخص وهمي أيضا، هو بمثابة قولهم: قال الراوي يا سادة يا كرام...

فقد بحثتُ عن هذا الاسم في كتب الرجال، وكتب التراجم والطبقات، فلم أر أحدا ممن يحمل هذا الاسم يصلح لأن يكون شيخا لبديع الزمان.

وجدت في الطبقات الكبرى لابن سعد [7 /351]: عيسى بن هشام النخاس، سمع سماعا كثيرا، وكان صاحب حديث، وتوفي قبل أن يحدِّث. اهـ

ووجدت في معجم المؤلفين [8 /35] لعمر رضا كحالة، قوله: عيسى بن هشام الناشري، الاسدي (أبو الفضل) محدث كثير الرواية. توفي سنة 220 هـ أو قبلها بسنة. اهـ يعني أن وفاته قبل ولادة بديع الزمان بمائة وثمان وثلاثين سنة.! فلا يمكن أن يكون شيخه.

الثانية: عَرَفنا من الرواية اسم فاطمة بنت عم بِشر، ولكن لم نعرف اسم العم نفسه، ولو كانت الواقعة حقيقية لكان اسم العم أولى بالذكر من اسم ابنته.

الثالثة: أن تسمية الأسد (داذًا) تسمية وهمية أيضا، لأنه لا ذكر لهذا الاسم في معاجم العربية، ولو كان حقيقيا لكان له ذكر فيها على أنه - مثلا - اسم أسد كانت العرب تضرب بفتكه المثل.

الرابعة: هب أن بشرا المذكور كان كاتبا، على فشوِّ الأمية في العرب، وهب أن قميصه اتسع لهذه القصيدة التي تبلغ أربعة وعشرين بيتا، فمن الذي حمل القميص بقصيدته إلى عمه بهذه السرعة؟!

لم يكن ثَمة بريد رسمي ولا سريع، ولم يكن طريقُه طريق القوافل حتى نقول: وصلت رسالته مع إحدى القوافل، كيف وفي نفس المقامة قوله: لأَنَّ العَرَبَ قَدْ كَانَتْ تَحَامَتْ عَنْ ذَلكَ الطَّريقِ.؟!!

فهو طريق مهجور، ليس فيه من يحمل من بِشر ولا إليه بريدا.

خامسا: ختمُ الرواية بعنصر جديد مثير تمثل في ظهور ذلك الغلام الأمرد بفروسيته الخارقة، ثم تزويج بنت عم بشر منه، دليل آخر على أن الإثارة هي المقصودة، بغض النظر عن واقعية أو حتى معقولية أحداث الرواية.

كل هذه الملاحظات ترشح ما ذهب إليه الأستاذ خير الدين الزركلي رحمه الله، من أن بشر بن عوانة، اسم بلا مسمى، وأن كل وقائع تلك الرواية مصنوعة، لم تقع إلا في خيال كاتبها بديع الزمان الهمذاني رحمه الله، وأنه هو صاحب القصيدة البليغة البديعة التي مطلعها:

أَفَاطِمُ لَوْ شَهِدْتِ بِبَطْنِ خَبْتٍ وَقَدْ لاَقى الهِزَبْرُ أَخَاكِ بِشْرَا

والله أعلم.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين