بشرى الفتح

بشرى الفتح

 

د. يوسف السند

وما زال الصهاينة في عتوهم وطغيانهم يعمهون تخريباً وتدنيساً وانتهاكاً للمسجد الأقصى المبارك ولعموم فلسطين المحتلة، وإن جيل النصر المنشود ليستمد عوامل ثباته وتثبيته من سيرة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في جهاده لليهود ناقضي المواثيق والعهود، حيث واجههم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وجاهدهم فأذلهم وأرغم أنوفهم؛ ففرّقهم بعد اجتماع، وأضعفهم بعد قوة، وأذلهم بعد عز ومنعة، ولا يزال اليهود والصهاينة يتذكرون خيبر وذلتهم وهزيمتهم واندحارهم.

«قال موسى بنُ عقبة: ولما قَدِمَ رسولُ صلى الله عليه وآله وسلم المدينةَ من الحُديبية، مَكَثَ بها عشرين ليلةً أو قريباً منها، ثم خرج غازياً إلى خيبر، وكان اللهُ عزَّ وجلَّ وعده إياها، وهو بالحُديبية.

وقال مالك: كان فتحُ خيبرَ في السنة السادسة، والجمهور: على أنها في السابعة.

وقال ابنُ إسحاق: حدثني الزُّهري، عن عُروة، عن مروانَ بن الحكم والمِسور بنِ مَخْرَمَة، أنهما حدثاه جميعاً، قالا: انصرف رسولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم عامَ الحُديبية، فنزلت عليه سورةُ الفتح فيما بينَ مكة والمدينة، فأعطاه اللهُ عزَّ وجلَّ فيها خيبرَ (وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ) (الفتح: 20)، فقدِم رسولُ صلى الله عليه وآله وسلم المدينة في ذي الحجة، فأقام بها حتى سار إلى خيبر في المحرَّم، فنزل رسولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم بالرَّجِيعِ (وادٍ بين خيبرَ وغَطَفَان)، فتخوَّف أن تمدهم غَطَفَانُ، فبات به حتى أصبح، فغدا إليهم».

وقال سلمةُ بنُ الأكوع: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى خيبر، فسِرْنا ليلاً، فقال رجلٌ مِن القَومِ لِعامر بنِ الأكوع: ألا تُسمِعُنَا مِن هُنَيْهَاتِك، وكان عامر رجلاً شاعراً؟ فنزل يحدُو بالقوم يقول:

اللَّهُمَّ لَوْلَا أَنْتَ مَا اهْتَدَيْنَا ** ولا تَصَدَّقْنَا وَلَا صَلَّيْنَا

فاغْفِر فِدَاءً لَكَ ما اقْتَفَيْنَا ** وَثَبِّتِ الأقْدَامَ إِنْ لَا قَيْنَا

وأَنْزِلَنْ سَكِينةً عَلَيْنَا ** إِنَّا إِذَا صِيح بِنَا أَتَيْنَا

وبِالصِّيَاحِ عَوَّلُوا عَلَيْنَا ** وإِنْ أَرَادُوا فِتْنَةً أَبَيْنا

فقال رسولُ صلى الله عليه وآله وسلم: «مَنْ هَذَا السّائِقُ؟»، قالوا: عامر، فقال: «رَحِمَهُ اللهُ»، فقال رجلٌ مِن القوم: وجبت يا رسولَ لولا أمتعتَنَا به.

قال: فأتينا خيبر، فحاصرناهم حتى أصابتنا مخمصةٌ شديدة، ثم إنَّ الله تعالى فتح عليهم، فلما أَمْسَوْا، أوقدوا نيراناً كثيرة، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «مَا هَذِهِ النِّيرانُ، عَلَى أَي شيءٍ تُوقِدُونَ؟»، قالوا: على لحم، قال: «عَلَى أيِّ لَحْمٍ؟»، قالوا: على لحم حمر إنسية، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «أهْريقُوها واكْسِرُوها»، فقال رجل: يا رسول الله، أو نُهْرِيقُها ونغسِلُها؟ فقال: «أو ذَاكَ»، فلما تصافّ القومُ، خرج مَرْحَب يخطُر بسيفه وهو يقول:

قَد عَلِمَتْ خَيْبَرُ أَنِّي مَرْحَبُ **

شَاكي السِّلاح بَطَلٌ مُجَرَّبُ **

إذا الحُرُوبُ أقْبَلَتْ تَلَهَّبُ **

فنزل إليه عامر وهو يقول:

قَدْ عَلِمَتْ خَيْبَرُ أَنِّي عَامِرُ ** شاكي السِّلاح بَطَلٌ مُغامِرُ

فاختلفا ضربتين، فوقع سيف مَرْحَب في ترس عامر، فذهب عامر يَسْفُلُ له، وكان سيفُ عامر فيه قِصر، فرجع عليه ذُباب سيفه، فأصابَ عينَ ركبته، فمات منه، فقال سلمة للنبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم: زعموا أن عامراً حَبِطَ عملُه، فقال: «كَذَبَ مَنْ قَالَهُ، إِنَّ لَهُ أَجْرَيْنِ»، وجمع بين أصبعيه «إنه لَجَاهِدٌ مُجاهِدٌ، قلَّ عربيٌ مشى بها مِثْلَه»(1).

وقد دعا مرحبُ المسلمين للقتال بعد استشهاد عامر بن الأكوع رضي الله عنه: "قد علمت خيبر أني مرحب.. إلخ، فبرز له علي بن أبي طالب، قال سلمة ابن الأكوع: فقال علي:

أنا الذي سمتني أمي حيدرة **

كليث غابات كريه المنظرة **

أوفِيهم بالصاع كَيل السندرة **

فضرب رأس مرحب فقتله، ثم كان الفتح على يديه، ولما دنا علي من حصونهم، اطلع يهودي من رأس الحصن، وقال: من أنت؟ فقال: أنا علي بن أبي طالب، فقال اليهودي: علوتم وما أنزل على موسى، ثم خرج ياسر أخو مرحب، وهو يقول: من يبارز؟ فبرز إليه الزبير، فقالت صفية أمه: يا رسول الله، يقتل ابني، قال: "بل ابنك يقتله"، فقتله الزبير(2).

 

الدروس والعبر:

- لقد كان المسلمون خلال غزوة خيبر حريصين كل الحرص على تنفيذ تعليمات الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، متسامين على تعبهم وجوعهم، وقد تمثل ذلك في امتناعهم عن أكل لحوم الحمر الإنسية لنهيه صلى الله عليه وآله وسلم.

- إن حياة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جهاد متواصل؛ يرجع من الحديبية إلى خيبر مجاهداً فاتحاً عليه الصلاة والسلام.

- كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حذراً يقظاً لتحرك عدوه؛ ففي سيره لخيبر كان يقظاً لتحرك غَطَفان!

- كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مدرَّبين مستعدين للنزال والقتال؛ من يُستشهد يخلفه أخوه مقاتلاً صنديداً عنيداً لا يترك مجالاً لعدو يفرح ويمرح على أشلاء المسلمين!

- المسلمون مع القرآن، والقرآن مع المسلمين، علاقة وطيدة قوية؛ فقد بشر القرآن المسلمين بفتح خيبر في سورة «الفتح»!

- إن للشعر والنشيد دوراً إعلامياً بارزاً في إذكاء الهمم والحماس في النفوس، وهذا كان دور عامر بن الأكوع رضي الله عنه.

ولنا وقفات قادمة في ظلال خيبر، والحمد لله رب العالمين.

 

هوامش:

(1) ابن القيم الجوزية، زاد المعاد.

(2) غزوة خيبر دروس وعبر، أمير المدري.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين