براءة أئمة التجديد والإصلاح من الدعوة الى تعدد سبل الخلاص أو جواز تعدد الأديان (2)ما يتعلق بالشيخ محمد عبده

ألصق المخالفون هذه الدعوة بالشيخ محمد عبده، وزعموا أنه كان من كبار دعاتها، فلننظر هل جاؤوا بما يصدق دعواهم؟

زعموا أنَّ مما يؤيد شبهتهم أولاً: أن الشيخ رحمه الله أنشأ جمعية في بيروت عقب رجوعه من فرنسا سنة ١٨٨٥، وهي (جمعية التقريب بين الأديان)، وزعموا أن من أهداف هذه الجمعية إلغاء الفوارق بين الأديان تمهيداً لتوحيدها!

والجواب: أننا إذا ما نظرنا إلى عنوان الجمعية فإننا لن نجد فيه ما زعمه القوم، بل سنجد فيه (التقريب بين الأديان) لا (توحيد الأديان)، والتقريب يحتوي في معناه على الحوار والسِّلم والتعاون في المشتركات، ولا يعني بأيَّة حال تغيير الأديان او تحريفها. 

وإذا نظرنا بعيون محايدة إلى أهداف تلك الجمعية فسنجد أنها :

١-التقريب بين الأديان السماوية وإزالة الشقاق بين أهلها.

٢-التعاون على إزالة ضغط أوروبا عن الشرقيين ولا سيما المسلمين منهم.

٣-تعريف الإفرنج بحقيقة الاسلام.

كما في تاريخ الأستاذ الإمام ١ /٨١٩.

ولا شك أن هذه الأهداف أهداف نبيلة مشروعة، وهي لا تشْكل إلا على من جعل الأصل في العلاقة مع الكفار هو الحرب والمناجزة، وهو ما يعني الدخول معهم في حروب لا ينطفئ أوارها. 

وقد ساهمت الجمعية في تخفيف الضغط عن مسلمي الهند الرازحين تحت الاحتلال الأنجليزي، فقد انضمَّ إليها مفتش المدارس الإنجليزي في الهند (جي لينتر)، ونشر مقالة في صحيفة (الديلي تلغراف) حضَّ فيها الإنجليزي على التسامح مع المسلمين في الهند، ووقف الإشاعات المغرضة ضد مدارسهم.

(انظر المقالة في تاريخ الأستاذ الإمام ١ /٨٢٠)

فإذا ما انتقلنا إلى الدليل الثاني الذي يذكره القوم لتعزيز دعواهم، فسنرى الرسالة التي أرسلها الشيخ إلى القس الإنجليزي إسحق تلر، والتي قال فيها : (وإنا نرى التوراة والإنجيل والقرآن ستصبح كتباً متوافقة، وصحفاً متصادقة، يدرسها أبناء الملتين، ويوقّرها أرباب الدينين)، كما في (أعمال محمد عبده الكاملة ٢ /٣٥٦).

والجواب : أننا يجب أن نعلم أولاً أن القس تلر كان من القساوسة البروتسنت المحبين للإسلام، وكان يلقي خطباً في لندن يحثُّ فيها على عدم تكفير المسلمين، وعدم النظر إليهم على أنهم أعداء، وكان هذا القس أيضاً يعتقد أن النصرانية قد غشيتها الأباطيل منذ أيام قسطنطين الأول، وكان ينكر عبادة التماثيل والصور، والغلو في القديسين.

وقد انضم هذا القس إلى جمعية التقريب بين الأديان.

فلا شك أن رجلاً بهذه المواصفات هو مكسب للإسلام، فلذلك كان يراسله الشيخ ويلين له الكلام.

أما وصف الشيخ الآنف للتوراة والإنجيل فيمكن قبوله على رأي من لا يرى في الكتابين-على تحريفهما- ما يؤيّد عقائد اليهود والنصارى الباطلة، وقد بيّن رحمة الله الهندي في كتابه (إظهار الحق) ص٧٥١ : أنه لا يوجد في الأناجيل أيُّ نص يدل على ألوهية المسيح عليه السلام، وفنَّد دلالة النصوص التي يذكرها النصارى على ذلك، فلينظر.

والغريب أن المخالفين لا يذكرون أن الشيخ في رسالة أخرى قد دعا تلر إلى الإسلام (لأنه يصدق الكل، ويعظّم الجميع، ويدعو إلى التوحيد المحض، والفردانية الصرفة، التي إليها مرجع الخلائق). 

ومن المؤسف، أن يلجأ المخالفون إلى هذه الحجج التي هي حمَّالة أوجه على أحسن حال، ويتركوا نصوص الشيخ محمد عبده البيّنة في أن الإسلام هو وحده المنجي يوم القيامة، وأن ما خلاه من الأديان باطل.

فقد صرح الشيخ أن الديانة النصرانية (انقلبت إلى وثنية من عهد قسطنطين بعد المسيح بثلاثة قرون، فقسطنطين كان ملكاً وثنياً، وادَّعى التدين بالنصرانية سياسة) كما في (تاريخ الأستاذ الإمام ١/ ٩٣٤).

وقد قال الشيخ في (تفسير جزء عم ص١٤١): (إن حسنات الكفار الجاحدين لا تصل بهم إلى أن تخلصهم من هذا الكفر، فهم به خالدون في الشقاء).

وقال في (الأعمال الكاملة ٣ /٤٦١): (جاء الإسلام يخاطب العقل... وبرهن على أن دين الله في جميع الأجيال واحد).

ومن هذا البيان يظهر أن الشيخ رحمه الله تعالى بريء من هذه الدعوة الباطلة، وأنه لم يدعُ إليها، بل هو على عقيدة المسلمين في أن سبيل النجاة واحد، وهو الإسلام.

الحلقة الأولى هنا 

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين