بَذْلُ المال والتَّصُدق به

أذعتها في صباح يوم الثلاثاء 12 من رمضان 1377، جعلها الله خالصة لوجهه الكريم بمنه وكرمه.

أيها المستمع الكريم، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد.

فعنوان حديثي اليوم: بَذْلُ المال والتَّصُدق به.

إنَّ الله جعل المال نعمة عظيمة، وجعل الإنسان مُستَخْلَفَا فيه، ورغَّبه في بذله وإنفاقه ليكون له وسيلة لنيل الحياة الطيبة في الدار الباقية، وحذَّرَه من طغيان المال واستيلائه على النفس بحيث يصبح الإنسان مملوكا للمال لا مالكا، فلا يَفْهَمُ ولا يَتَذوَّقُ مِنْ نَفْعِ المال إلا جمعه وكنزه، وتَعَهَدَ سبحانه بأن من أنفق منه في سبيله فهو يخلفه عليه وهو خير الرازقين، كما تعهد له أنه يبارك له في ثواب ما أنفق حتى يفوق العدَّ والحساب: ﴿ مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ الله كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِئَةُ حَبَّةٍ وَاللهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾ ﴿وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ الله وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ﴾.

ولقد جاء في سيرة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من أخبار البذل والسخاء والتصدق بما يجدون، ما يدفع بالبخيل أن يكون كريما، وبالشحيح أن يكون جواداً معطاء، وإليك شواهد ذلك:

لما كانت غزوة تبوك حثَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم الموسرين على تجهيز المعسرين، فأنفق عثمان رضي الله عشرة آلاف دينار، وأعطى ثلاثمئة بعيرٍ بأحلاسها وأقتابها وخمسين فرسا، وجاء أبو بكر رضي الله عنه بكل ماله، وهو أربعة آلاف درهم، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: هل أَبْقيتَ لأهلك شيئا؟ فقال: أبقيتُ لهم الله ورسوله. وجاء عمر بن الخطاب رضي الله عنه بنصف ماله، وجاء العباس وطلحة رضي الله عنهما بمال كثير، وأرسلت النساء رضي الله عنهن بكل ما يقدرن عليه من حليهن، وجاء عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه بأربعة آلاف درهم وقال: كان لي ثمانية آلاف درهم، فأقرضتُ ربي أربعة، وأمسكتُ لعيالي أربعة. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: بارك الله لك فيما أعطيتَ وفيما أمسكت. وتصدَّق عاصم بن عدي رضي الله عنه بمئة وَسْقٍ ـ أي حِمْلٍ ـ من تمر، وجاء أبو عَقِيل الأنصاري رضي الله عنه بصاع واحد من تمر، فقال يا رسول الله: هذا صاعُ تمر، بِتُّ ليلتي أجرُّ بالجرير – أي أخرج الماء بالحَبْلِ - حتى نِلتُ صاعين، فتركتُ صاعاً لعيالي، وأتيتك بالآخر. فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينثره على ذُروة ما تجمع من الصدقات إيذاناً بعِظَمِ قدره وإن كان في الظاهر يسيراً قليلاً.

وروى البخاري ومسلم عن عقبة بن عمرو الأنصاري رضي الله عنه، قال: لما نزلت آية الصدقة، يعني قوله تعالى: ﴿خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا﴾ كنا نحامِلُ على ظهورنا. أي يحمل أحدنا على ظهره بالأُجرة ثم يتصدق بها. وروى الإمام أحمد عن أبي السَّلِيل قال: وقف علينا رجل في مجلسنا بالبقيع فقال: حدثني أبي أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبقيع وهو يقول: من يتصدَّقُ بصَدَقةٍ أشهدُ له بها يوم القيامة؟ قال: فحللت من عمامتي لَوْثاً أو لَوْثين وأنا أريد أن أتصدق بها، فأدركني ما يدرك ابن آدم، فعقدتُ عليَّ عمامتي! فجاء رجلٌ لم أر بالبقيع رجلاً أشد منه سواداً ولا أصفرَ منه، جاء بناقةٍ ساقها لم أر بالبقيع ناقة أحسن منها، فقال: يا رسول الله، أصَدَقة؟ قال: نعم. قال: دونك هذه الناقة. فلَمَزَه رجلٌ من المنافقين فقال: هذا يتصدق بهذه! فو الله لهيَ خيرٌ منه. فسمعها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: كذبتَ بل هو خيرٌ منك ومنها. يكررها ثلاث مِرار، ثم قال: ويلٌ لأصحاب المئين من الإبل! ثلاثا، قالوا: إلا من يا رسول الله؟ قال: إلا من قال بالمال هكذا وهكذا. وجمع بين كفيه عن يمينه وعن شماله.

وروى البخاري ومسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما فرغ من خطبة صلاة العيد بين الرجال جاء إلى النساء وهو يتوكأ على يد بلال خادمه وجابي صدقته رضي الله عنه، وبلالٌ باسطٌ ثوبه، فوعَظَهُنَّ وذكَّرهُنَّ فقال: يا معشر النساء تصدَّقن. فجَعَلْنَ يتصدقن من حُلِيِّهِن، يلقين في ثوب بلال من أقراطهن وخواتمهن.

وروى الإمام أحمد وابن خزيمة عن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: كل امرئ في ظل صدقته يوم القيامة، حتى يُقْضَى بين الناس. قال يزيد بن أبي حبيب: فكان أبو الخير مَرْثَد بن عبد الله اليَزَنيِّ مفتي أهل مصر لا يخطئه يوم إلا تصدق فيه بشيء، ولو بكعكةٍ أو بَصَلةٍ، وكان أوَّلَ أهلِ مصر يأتي إلى المسجد، وما رأيته داخلاً المسجد قط إلا وفي كمه صدقة، إما فلوس وإما خبز وإما قمح، قال: حتى ربما رأيت البَصَلَ يحمله، فأقول له: يا أبا الخير إن هذا ينتن ثيابك. فيقول: يا ابن أبي حبيب، أما إني لم أجد في البيت شيئاً أتصدقُ به غير البَصَل، وإنه حدثني رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن رسول الله قال: ظِلُّ المؤمنِ يومَ القيامة؛ صَدَقتُه.

ويبدو جلياً من هذه الأخبار الرائعة الكريمة أن الصدقة فيها لا تعتمد على الكثرة والضخامة حتى تقع عند الله المَوْقعَ العظيم، بل قد تكون لقمة طعام أو حبة قمح، ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من تصدَّق بعَدْلِ تمرةٍ من كسب طيب - ولا يقبل الله إلا الطيب – فإن الله يتَقَبَّلُها بيمينه ثم يُربِّيها لصاحبها كما يُرَبِّي أحدُكم مُهْرَهُ أو فَصِيلَه، وإنَّ الرجل ليتصدق باللقمة فتربو في يد الله حتى تكون مثلَ الجبل، فتَصَدَّقوا. بل قد روى عديُّ بن حاتم الطائي رضي الله عنه أن رسول الله قال: من استطاع منكم أن يستتر من النار ولو بشق تمرة فليفعل.

ولقد بيَّنَ الرسول في حديث آخر أن القليل من المال إذا جاء به صاحبه قد يَفْضُل بموقفه عند الله الكثير ويزيد عليه، روى النسائي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: سبق درهمٌ مئةَ ألف درهم. قالوا: يا رسول الله، وكيف؟ فقال عليه السلام: رجل له درهمان، فأخذ أحدهما فتصدق به، ورجلٌ له مالٌ كثيرٌ، فأخَذَ من عُرْض ماله - أي من جانبه - مئة ألف درهم فتصدق بها.

على أن الصدقة قد يكون ثوابها مضاعفاً وكثيراً بحَسْبِ من تُعطى إليه، فإذا أعطيتها لقريبك الفقير فقد أحرزت في ذلك ثوابين، روى سلمان بن عامر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: الصدقةُ على المسكين صدقة، وعلى ذي الرحم اثنتان: صدقةٌ وصِلة.

ولما كان للصدقة منزلتها العظيمة عند الله تعالى سَمَحَ الإسلامُ للمرأة أن تتصدق من بيت زوجها بما يُعتادُ الصدقةُ به بدونِ إذن الزوج، وجعل لها ثواباً على ذلك مثل ثوابه، كما جعل مثل ذلك الثواب للخادم الذي يوصل الصدقة للفقير، وذلك تشجيعاً على الصدقة وبذل الخير للمحتاجين، روى البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إذا أنفقت المرأة من طعام بيتها غيرَ مُفْسِدةٍ كان لها أجرُها بما أنفقت، ولزوجها أجرُهُ بما اكتسب، وللخادم مثل ذلك، لا ينقص بعضُهم من أجر بعضٍ شيئا.

ولقد علَّم الرسول صلى الله عليه وسلم زوجته عائشة أن تكون كريمة سخية بأروع أسلوب وألطف عبارة، وأفْهَمَهَا أن ما يجود به الإنسانُ لله هو الباقي ثوابُه، الخالدُ نعيمُه، الجزيلُ أجرُه، روت عائشة رضي الله عنها أنهم ذبحوا شاة وجعلوا يفرِّقُون منها، ثم قال لها رسول الله مُستفْهِماً ومُعَلِّماً: ما بقي من الشاة يا عائشة؟ قالت: ما بَقِيَ منها إلا كَتِفُها. فقال لها عليه الصلاة والسلام: بَقِيَ كلُّها إلا كَتِفَها. نعم صدق رسول الله، ﴿مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ﴾، وقد روى مسلم عن أبي هريرة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يقول العبدُ: مالي مالي. وإنما له من ماله ثلاث: ما أكلَ فأفنى، أو لَبِسَ فأبلى، أو أعطى فأبقى، وما سوى ذلك فهو ذاهب وتارِكُه للناس.

ولقد كان من سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم في شهر رمضان الذي نحن فيه أنه كان يخصه بزيادة الإنفاق والبذل في سبيل الله، ويسميه شهر المواساة، ويبذل فيه أقصى ما يستطيع من البذل، حتى قال ابن عباس رضي الله عنهما: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل فيدارِسُهُ القرآن، وكان جبريل يلقاه كل ليلة من رمضان فيدارسُهُ القرآن، فلَرسُولُ الله صلى الله عليه وسلم حين يلقاه جبريل أجودُ بالخير من الريح المرسلة، ولا يُسأل عن شيءٍ إلا أعطاه.

وقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: أفضل الصدقة صدقة رمضان، قال العلماء: وإنما كان للصدقة في رمضان على الصدقة في غيره هذا التفضيل، لما يلابسها من شرف الزمان ومضاعفة أجر العمل في رمضان وإعانةِ الصائمين على طاعاتهم، فيكونُ لمن أعانهم مثلُ أجرهم، ولما في البذل في رمضان من الجمع بين الصيام والصدقة، فيكونُ ذلك أبلغَ في تكفير الخطايا والذنوب، ولأنه قد يقع في الصوم خلل أو نقص أو لُوثة، فتكونُ الصدقة جابراً لذلك، ولهذا قال الإمام الشافعي رضي الله عنه: أُحِبُّ للمسلم الزيادة بالجود في شهر رمضان اقتداءً برسول الله صلى الله عليه وسلم، ولحاجةِ الناس فيه إلى مصالحهم، ولتشاغل كثير منهم بالصوم والصلاة عن مكاسبهم.

فجودوا بالخير أيها الموسرون الموفقون، فإن الصدقة لتطفئ الخطيئة كما يطفئ الماءُ النار، وإنها لَتكونُ ظلاً لصاحبها فتقيه شر ذلك اليوم العبوس القمطرير، وإنها لتستجلب زيادة المال لمن فعلها، روى البخاري ومسلم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ما مِنْ يومٍ يُصْبِحُ العبادُ فيه إلا ومَلَكان ينزلان فيقول أحدهما: اللهم أعطِ مُنفِقا خَلَفا، ويقول الآخر: اللهم أعطِ مُمسِكاً تَلَفا.

فهذا موسم العطاء والبذل، وهذا أسبوع الجزائر المجاهدة، فدونكم ميادينَ الخير والسباقِ في مرضاة الله تعالى، فسابقوا فيها بإخراج الزكاة وبذل الصدقة، واعلموا أن إمدادكم هؤلاء المجاهدين زكواتكم وصدقاتكم يجعلكم مشاركين لهم في أجر الجهاد فوق أجر الصدقة.

وبَيَّنَ سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن المتصدق بماله في سبيله ينال أجر المجاهد المقاتل في سبيله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من جَهَّزَ غازياً في سبيل الله فله مثلُ أجره، ومن خَلَفَ غازياً في أهله بخيرٍ، أو أنفق على أهله، فله مثل أجره. على أن الله عز وجل قد تكفل لكل باذلِ خيرٍ بأفضل الخلف وخيرِ العِوض من لدنه سبحانه، فقال: ﴿وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ﴾، والسلام عيكم ورحمة الله.

من كتاب:" أيها المستمع الكريم" إعداد ومراجعة: محمد زاهد أبو غدة

جميع المواد المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين