بداية الوحي وحديث البخاري - وقفات مع حديث بدء الوحي
بداية الوحي وحديث البخاري
للشيخ: محمود مشوح
ملخص الخطبة:
1- أهمية دراسة سيرة النبي . 2- حديث عائشة رضي الله عنها الذي أخرجه البخاري في بدء الوحي. 3- وقفات مع هذا الحديث. 4- ما كان عليه رسول الله من الأخلاق والصفات قبل البعثة.
الخطبة الأولى : أما بعد:
أيها الأخوة المؤمنون,إن الحديث عن سيرة النبي ليس أمرًا هينًا, فنحن نملك في موضوع السيرة أقدم نص وأوثق نص هو النص الذي جاءنا عن طريق ابن هشام, والمعروف بسيرة ابن هشام, وسيرة ابن هشام هذه هي تلخيص لمغازي ابن إسحاق ـ رحمة الله عليه ـ وهذه المغازي ضاعت فيما ضاع أثناء النكبات التي حلت بالمسلمين على مدى تاريخهم الطويل.
ثم هناك ما هو أوثق من هذا ولكنه أضيق مدى وأقل شمولاً وهو ما يتناثر من وقائع السيرة في ثنايا مجاميع الحديث النبوي الشريف.
ثم بدأ الناس يكتبون في سيرة النبي واختلفت درجات الغلو في هذه الكتابة, ويكفيك أن تنظر في كتب المتأخرين لترى كم ترك الخيال الشعبي من آثار على هذه السيرة الإنسانية العالية، وكم ألحق في السيرة النبوية من خرافات وأباطيل مع أن النبي صلوات الله عليه وآله كان يحصر باستمرار وفي كل مناسبة على تأكيد بشريته ونفي أي صفة زائدة على هذه البشريَّة.
وفي منهجنا الذي نأخذ به أنفسنا إن شاء الله سوف نعني عناية خاصة بتجديد حياة صلى الله عليه وآله مما ينبغي أن لا يضاف إليها من الخرافات والأضاليل والأباطيل فحسبنا منه عليه الصلاة والسلام أنه البشر الكامل المكمل قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي.
اعرف تمامًا أن كثيرًا من العوام وأشباه العوام سيضيقون ذرعًا بهذا لأنهم يرون عن جهل أن أي مساس بجملة الأباطيل التي يروج لها ويسمعونها شيء لا يطاق, ولكننا نحترم العلم ونحترم الحقيقة البشرية المتمثلة في محمد , هذه ملاحظة.
وملاحظة أخرى: إن الميدان الذي نرده الآن ميدان بكر أو شبه بكر, أنا لا أهتم بالخبر من حيث هو خبر, لا أهتم له من حيث هو واقعة تاريخية, فالتاريخ معلومات لكني أهتم بالسيرة برمتها من حيث هي حركة, من حيث هي تحرير للإرادة البشرية, من حيث هي إغناء للمسيرة الإنسانية, من حيث هي رفع لسوية الإنسان, يهمني أن أعرف وأن تعرفوا كيف كان النبي صلوات الله عليه وآله وسلم يدعو ويتصرف, وتحت أية قوانين وقواعد كان يسير في هذه الدعوة؛ لأن اجتهادات المجتهدين في عمل المسلمين اختلفت ضرورة , لاختلافهم في فهم هذه القواعد, فالسيرة تهمنا من حيث هي صورة لتيار حركي استهدف تغيير الواقع البشري بالدعوة وبالقول وبالعمل، ثم هو لم يكن عملاً عشوائيًا غير مبني على قواعد ولا خاضع لقوانين ولا هو غير مقيد بمناهج, وإنما هو بالفعل كان يخضع لقوانين صارمة ودقيقة للغاية.
وواجب المسلمين أن يتعرفوا على هذه القوانين ليقيموا حركتهم وفقًا لها, لماذا؟ لأن الله جل وعلا اختصر لنبيه الطريقة التي توصل إلى الهدف المقصود من أقرب طريق, وبأقل التضحيات الممكنة على الإطلاق.
فنحن إذن سوف ندرس السيرة في هذا الإطار، وسوف نعاملها تبعًا لضعف أو قوة المصادر التي بين أيدينا على ضوء القرآن, لأن القرآن هو الوثيقة الأولى التي لا يمكن الطعن فيها وهو الوثيقة الوحيدة التي تحوي هذه الحركة بكل زخرفها وبكل إشعاعاتها, هذه ملاحظة ثانية.
نعود إلى ما كنا فيه منذ أسبوعين, رويت لكم الحديث الذي رواه الإمام البخاري رحمة الله عليه في أوائل كتابه الجامع الصحيح وفي باب كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله , واقتصرت من الحديث على ما دعت الحاجة إليه آنذاك, الآن سأروي لكم الحديث بتمامه إن شاء الله، وأرجو أن نمرن أنفسنا على قراءة ما بين السطور.
قال الإمام البخاري ـ رحمة الله عليه ـ: حدثنا محمد بن بكير قال: حدثنا الليث، عن عقيل، عن ابن شهاب عن عروة بن الزبير عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها قالت: "أول ما بُدِءَ به رسول الله من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح ثم حبب إليه الخلاء أي العزلة, وكان يخلو في غار حراء ويتحنث ـ وهو التعبد الليالي ـ ذوات العدد قبل أن ينزع إلى أهله ـ يعني يرجع ـ ويتزود لذلك, يعني: ينقطع أيامًا يأخذ أثناءها ما يلزمه من زاد ثم يعود إلى خديجة رضي الله عنها فيتزود لمثل ذلك أي أن تحنثه, كان يستمر على فترات كلما فني زاده وانتهت نفقته عاد إلى بيته فتزود ثم رجع إلى الغار يتحنث هناك.
قالت: جاءه المَلك وهو في حراء فقال له: اقرأ, فقال: ما أنا بقارئ, قال ـ يعني رسول الله  ـ فأخذني فغطني أي اعتصرني حتى بلغ مني الجهد أي أتعبني جدًا ثم أرسلني وقال: اقرأ. قلت: ما أنا بقارئ، فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال: اقرأ, قلت: ما أنا بقارئ، فأخذني فغطني الثالثة حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني فقال: اقرأ بسم ربك الذي خلقخلق الإنسان من علقاقرأ وربك الأكرم, قالت: فرجع بها ـ يعني بهؤلاء الآيات ـ رسول الله يرجف فؤاده أي داخله شيء كثير من الرعب, والتجربة جديدة على الإنسان تدخل الرعب إلى نفسه حقًا، فجاء إلى خديجة فقال: زملوني. فزملوه فلما ذهب عنه الروع أي زايله الخوف قال لخديجة وأخبرها الخبر، لقد خشيت على نفسي خشي أن يكون قد تلبسه شيطان أن يكون قد أصابه مس قالت خديجة: كلا والله ما يخزيك الله أبدًا, إنك لتصل الرحم, وتقري الضيف, وتحمل الكل, وتعين على نوائب الحق, ثم انطلقت به إلى ورقة بن نوفل بن عبد العزى وكان ابن عم خديجة رضي الله عنها وكان امرأ قد تنصر في الجاهلية أي دخل دين النصرانية وقرأ الكتاب العبراني وكان يكتب من الإنجيل بالعبرانية ما شاء الله أن يكتب فقالت له: يا ابن عم اسمع من ابن أخيك. قال ورقة: يا ابن أخي ـ يعني للنبي ـ ماذا ترى؟ فأخبره رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بخبر ما رأى فقال: لئن كنت صدقتني إنه الناموس الذي نزل الله على موسى وإنك لنبي هذه الأمة, وإن يدركني يومك أنصرك نصرًا مؤزرًا. قال له قبل ذلك: يا ليتني أكون حيًا إذا يخرجك قومك فدهش النبي قال: أومخرجي هم؟ قال: نعم لم يأت رجل قومه بمثل ما جئت به إلا عودي, وإن يدركني يوم أنصرك نصرًا مؤزرًا.
ثم لم ينشب ورقة أن توفي وفتر الوحي. قال ابن شهاب: وأخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن أن جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنه قال وهو يحدث عن فترة الوحي قال رسول الله بينما أنا في حراء إذ سمعت صوتًا فرفعت رأسي فإذا المَلك الذي جاءني في حراء جالس على كرسي بين الأرض والسماء فرعدت فرقًا ـ خوفًا ـ فرجعت فقلت: دثروني فأنزل الله تعالى: يا أيها المدثرقم فأنذرـ إلى قوله تعالى ـوالرجز فاهجر، ثم حميّ الوحي وتتابع".
قال ابن هشام قال ابن إسحاق في السيرة، ابتدأ رسول الله بالتنزيل في شهر رمضان أي أن بداية الوحي كانت في شهر رمضان, قال الله تعالى: شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان, وقال الله تعالى: إنا أنزلناه في ليلة القدروما أدراك ما ليلة القدرليلة القدر خير من ألف شهرتنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمرسلام هي حتى مطلع الفجر، وقال الله تعالى ـ بسم الله الرحمن الرحيم ـ: حموالكتاب المبينإنا أنزلناه في ليلة مباركة إنا كنا منذرينفيها يفرق كل أمر حكيمأمرًا من عندنا إنا كنا مرسلين, وقال الله تعالى: إن كنتم آمنتم بالله وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان يوم التقى الجمعان, وذلك ملتقى رسول الله والمشركين ببدر.
قال ابن إسحاق وأخبرني أبو جعفر محمد بن علي بن حسين: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم التقى هو والمشركون في بدر صبيحة الجمعة لسبع عشرة ليلة خلت من شهر رمضان فالمقطوع به أن التنزيل وأن الدعوة بُدأت في شهر رمضان المبارك.
نحاول الآن وأرجو أن تعيروني أسماعكم أن نتنبه إلى الحديث سآخذ منه موضوعات:
أولاً: الوقت الذي وصفت به خديجة رضوان الله عليها رسول الله .
ثانياً: الإنذار الذي أنذر به ورقة رسول الله

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين