بالهجرة تحررت البشرية من شرورها

 

باسم الله نفتتحُ عامَنا الهجري الجديد المبارك بعظة وعبرة وتذكرة لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.

ففي الهجرة عظاتٌ كثيرة، وآيات بَيِّنات يجب الاقتداء بها على كل مُصلح غيور على دينه وعلى وطنه وعلى أمته بل وعلى نفسه، فقد بعث اللهُ تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم على فترة من الرسل، بعد أن انطمست مَعَالم الحق، وانتشر الفسادُ والظلم وانحلَّت الأخلاق الفاضلة.

فكان في جزيرة العرب بل وفي غيرها من بقاع الأرض شركٌ ووثنيَّة وعبادة أوثان وعبادة أشخاص يخشاهم الناس والله أحق أن يُخشى، ويستخفى منهم الناس حين ارتكاب الخطايا والذنوب والله أحق أن يستخفى منه فهو الذي يعلم السرَّ والنجوى، ويعلم ما ظهر منها وما بطن.

فقام صلى الله عليه وسلم يدعو الناس سراً حقبة من الزمن حتى نزل عليه قوله تعالى: [فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ المُشْرِكِينَ] {الحجر:94} فصدع صلى الله عليه وسلم بأمر ربَّه حاملاً عِبْءَ رسالته مُدركاً لخطورتها، مُقدِّراً مبلغ ما تتطلبه من كَدٍّ ونَصَب، يتجلَّى ذلك في قوله صلى الله عليه وسلم لمن طلب منه الراحة والدَّعَة: (لقد انقضى زمن النوم). 

وما زال عليه الصلاة والسلام يجهرُ بدعوته فتندكُّ لها صروح الطغيان وتتصدَّع قوائم الشرك، وتنخلع قلوب الجبابرة وأعوان الشيطان إذ رأوا أنَّ سلطانهم قد آن لشمسه أن تغيب، وجبروتهم قد حان وقت أفوله فما تركوا حيلة إلا وقد حاكوا خيوطها، ولا مكيدة إلا وقد دبَّروها بليل، فهناك تعذيب للمؤمنين وإلقاء لهم في الشمس ووضع للأحجار على صدورهم وتعذيب بكل أنواع العذاب من تضييق في العيش وخنق للعقيدة الصحيحة.

ولم تزدْ كل هذه الشدائد محمداً صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم إلا ثباتاً وتفانياً في سبيل العقيدة ونصرة الحق وإعلاء كلمة الله.

ولم يمنعهم حين قال الناس لهم: إنَّ قريشاً قد عزمتْ على الوقوف لكم في كل طريق، ولم يوهن ذلك عزمَهم بل كانوا كما وصفهم الله تعالى في قوله: [الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الوَكِيلُ] {آل عمران:173}.

ولم يزلْ رسول الله صلى الله عليه وسلم يُفتِّش في جوانب الجزيرة العربية عن مكان يطمئنُّ إليه في القيام بواجبه، فربط الصلة بينه وبين أهل المدينة في مواسم الحج وبايعهم بيعة صادقة: بايعهم على السمع والطاعة، والإخلاص لله في كل حال من الأحوال؛ في حال الشدَّة والرخاء، والعُسْر واليُسْر.

ولما تهيَّأت المدينة المنورة وأسلم من أهلها من يمكن الاعتماد عليهم في نصرة الدعوة والتفاني في سبيلها هاجر عليه الصلاة والسلام مع صاحبه أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - تاركين بمكَّة المال والولد، مُستبدلين بكل ذلك نصرة الحق والقضاء على الظلم وإنقاذ الإنسانيَّة من شرورها وآثامها.

وفي المدينة يشرع الرسول صلى الله عليه وسلم في تهيئة الجو الصالح وإيجاد المجتمع المملوء بالفضائل: من المحبَّة والألفة والوفاء والإيثار؛ فيقوم بالمؤاخاة بين المهاجرين والأنصار أخوةً تجعل المالَ بينهم مُشتركاً يسدُّ كلٌّ منهم به حاجته، ويدفع جوعته، ويستعين به ليحفظ على نفسه الحياة وليعمل جاهداً في ابتغاء رضوان الله، فيصف القرآن الكريم الأنصار بأوصاف تُذهب عنهم الأنانيَّة وحبَّ الذات؛ إذ يقول جلَّ شأنه: [وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ] {الحشر:9}.

ويزيل العداوة المستحكمة بين الأوس والخزرج ويجعل الألفة بينهم نعمةً من الله تعالى فيصف القرآن الكريم ذلك في قوله تعالى: [وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا] {آل عمران:103}.

ثم يَشْرَعُ عليه الصلاة والسلام في وضع قواعد الحكم الصالح للأمَّة بعد أن استقرَّت عقيدة التوحيد في النفوس؛ فيؤسِّس للعدل قواعده ويبدأ بتنفيذها على نفسه وأهله، إذ يقول لمن أراد أن يشفعَ في حدٍّ من حدود الله: (إِنَّمَا أَهْلَكَ الَّذِينَ قَبْلَكُمْ، أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ، وَإِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الضَّعِيفُ أَقَامُوا عَلَيْهِ الحَدَّ، وَايْمُ اللَّهِ لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا) [أخرجه البخاري ومسلم].

ثم يضع القاعدة في الحكم وبيان واجب الحاكم؛ فيقول لمن ولاه على جمع الصدقات لما جاء بها إليه وحاسبه عليها (هذا لكم وهذه هدية أهديت لي)، فيقول صلى الله عليه وسلم: (هلا جلستَ في بيت أبيك وبيت أمك حتى تأتيك هديتك إن كنت صادقاً).

ولا يقنع الرسول صلى الله عليه وسلم بأن يترك الفساد بدون أن يحذِّر منه أمَّته، فجعل هذه الحادثة وسيلةً إلى تسجيل قاعدة في الحكم الصالح، فعَنْ أَبِي حُمَيْدٍ السَّاعِدِيِّ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَعْمَلَ ابْنَ الأُتَبِيَّةِ عَلَى صَدَقَاتِ بَنِي سُلَيْمٍ، فَلَمَّا جَاءَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَحَاسَبَهُ قَالَ: هَذَا الَّذِي لَكُمْ، وَهَذِهِ هَدِيَّةٌ أُهْدِيَتْ لِي، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَهَلَّا جَلَسْتَ فِي بَيْتِ أَبِيكَ، وَبَيْتِ أُمِّكَ حَتَّى تَأْتِيَكَ هَدِيَّتُكَ إِنْ كُنْتَ صَادِقًا». 

ثُمَّ قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَخَطَبَ النَّاسَ وَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: " أَمَّا بَعْدُ، فَإِنِّي أَسْتَعْمِلُ رِجَالًا مِنْكُمْ عَلَى أُمُورٍ مِمَّا وَلَّانِي اللَّهُ فَيَأْتِي أَحَدُكُمْ فَيَقُولُ: هَذَا لَكُمْ، وَهَذِهِ هَدِيَّةٌ أُهْدِيَتْ لِي، فَهَلَّا جَلَسَ فِي بَيْتِ أَبِيهِ، وَبَيْتِ أُمِّهِ حَتَّى تَأْتِيَهُ هَدِيَّتُهُ إِنْ كَانَ صَادِقًا، فَوَاللَّهِ لاَ يَأْخُذُ أَحَدُكُمْ مِنْهَا شَيْئًا - قَالَ هِشَامٌ بِغَيْرِ حَقِّهِ - إِلَّا جَاءَ اللَّهَ يَحْمِلُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ، أَلاَ فَلَأَعْرِفَنَّ مَا جَاءَ اللَّهَ رَجُلٌ بِبَعِيرٍ لَهُ رُغَاءٌ، أَوْ بِبَقَرَةٍ لَهَا خُوَارٌ، أَوْ شَاةٍ تَيْعَرُ «، ثُمَّ رَفَعَ يَدَيْهِ حَتَّى رَأَيْتُ بَيَاضَ إِبْطَيْهِ» أَلاَ هَلْ بَلَّغْتُ". [أخرجه البخاري].

لله أنت يا سيدي رسول الله وفي سبيل ربك ما جاهدت، قد وضعت قاعدة العدل والإخاء والمساواة على أساس الفطرة السليمة، وناديت بها قبل أن تشرق الحضارات التي ادَّعت لنفسها فضل ابتكار هذه القاعدة، فأنت الذي قلت: (لا فضل لعربي على عجمي، ولا لأبيض على أسود إلا بالتقوى، كلكم لآدم وآدم من تراب الناس سواسية كأسنان المشط) [قال الهيثمي في (المجمع): رواه أحمد، ورجاله رجال الصحيح].

ولله أنت يا سيدي يا رسول الله وفي سبيل الله ما أتيت به من نفع للإنسانية ومن خير للبشرية، وفي قواعد الحياة العادلة المستقرَّة بين جميع أمم الأرض فلم تكن مُشرِّعاً إلا للبشرية كافَّة، فأنت خاتم الأنبياء والمرسلين أرسلك الله للناس كافة بشيراً ونذيراً وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، أنزل عليك ربك في محكم كتابه: [يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا] {الحجرات:13}.

هذه هي الأخوَّة الإنسانيَّة بأجلِّ معانيها، أخوة تهدف إلى الخير وتعمل للصالح العام فلا تنابذ ولا تخاصم ولا استعباد ولا استعمار ولا استنزاف للدماء ولا استرقاق للفقراء والضعفاء، بل هناك رحمة وتعاطف وأخلاق سامية وتعاون على بر وتقوى، لا على إثم وعدوان ولا على تكبُّرٍ واستعلاء.

تعاون على الإصلاح والقضاء على الفساد، وتعاون على النظام والقضاء على الفوضى.

سيدي يا رسولَ الله: سلامٌ عليك يوم أن ناديتَ بالقضاء على الفساد، وأشهرت سيف الحقِّ في وجه الظلم والطغيان، سلام عليك يوم أن طهَّرت العقيدة من الزور والبهتان، سلام عليك يوم أن أسَّستَ للإصلاح قواعده وللحكم الصالح أركانه، سلام عليك وعلى من اتبعك من خلفائك الراشدين، وأئمة الهدى الصالحين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أيها المسلمون: هذه بعض عظات الهجرة، وهذا بعض جهاد صاحبها صلى الله عليه وسلم وما إحياؤها والاقتداء بصاحبها إلا باتباع طريقه وسلوك نهجه: [لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللهَ وَاليَوْمَ الآَخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيرًا] {الأحزاب:21}.

أيها المسلمون نحن الآن في عهد جديد يتطلَّب منا جهاداً شاقاً مريراً، وعليه لنا حقوق يجب علينا أن نبرَّ بها ونؤديها كاملة غير منقوصة إذا ما أردنا لأنفسنا عزاً وكرامة وجلالاً ومهابة.

وإني من هذا المكان الطاهر أبعث بتهنئتي لإخواني المسلمين في جميع مشارق الأرض ومغاربها مُبتهلاً إلى الله العليِّ القدير أن يُهيِّئَ للمسلمين ما يُعيد لهم مجدَهم ويصونُ كرامتَهم. وأرجو لولاة أمورنا ولحكوماتنا التوفيق والسداد إلى ما فيه خير الوطن وإسعاد المواطنين. وهو نعم المولى ونعم النصير. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم. 

 

المصدر: (مجلة منبر الإسلام)، السنة التاسعة: محرم 1372 - العدد 1 . 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين