بأي الإرادتين تعلَّق قلبك؟


سُئِلَ الجُنَيد عمن لم يَبْقَ من تعلقه بالدنيا إلا مقدار مص نواة، فأجاب في مقارنة نادرة:

" المكاتبُ عبدٌ مَا بَقِيَ عليهِ درهم " !

والمعنى: إذا كاتب العبدُ سَيِّدَهُ على مبلغٍ مالي مقابل حريته، ثم دفعه إليه ولم يَبْقَ إلا درهم، فلا يزال أسيرًا لعبوديته حتى يؤدِيَه، وكذا صاحب الدنيا، فلو تَخَلَّصَ من كل هَمٍّ دُنيوي، إلا واحدًا جعله إمامًا على هم الدِّينِ والمَعَاد، كَمَالٍ أو زوجةٍ، فإنه لا يزال عبد ماله وزوجته، ولا خلاص إلا بِرَدِّ الإمامة القلبية لدين الله؛ لتكون دنياك في يدك لا في قلبك !

 

لا بواكي على الدنيا:

يَحدثُ أن يبتليَ الله صفوتَهُ من عباده بِفَواتِ الدنيا؛ ليُظهِرَ من يَصلُحَ لموالاته ومن لا يَصلُح، فليس المُراد أن تُعذب، إنما المراد أن تُهَذَّب، فليس المال دلالة على الكرامة، ولا منعه دليل الحرمان أو الإهانة، بل إنَّ نيل الدنيا كلِّها أهو:

إهانة أم كرامة؟!

وهاك الإجابة:

كانت حُجرةُ إمام النبيين محمد صلى الله عليه وسلم لا تَتَّسِع لقائمٍ وَنَائمٍ في آنٍ وَاحد، فكان إذا أراد السجودَ غَمَزَ قَدَم عائشة ل فَضَمَّت جسدها، فيسجد، فإن قام بَسطتهُ ونَامت !، وهكذا تمضي الليالي، فلا هو صلى بارتياح، ولا هي نامت بارتياح !

 تأمل هذا المشهد أحدُ الصالحين، فأصابته عَبْرَةٌ تَخللهَا كلامٌ ذهبي، أَبُثُّهُ إليك كميزانٍ حَيَاتِي:

فَلْيَنظُر نَاظِرٌ بِعَقلِهِ أَأَكْرَمَ اللهُ مُحَمَّدًا أَم أَهَانهُ لَمَّا أزالَ عنهُ الدُّنيا؟!، من قال إنَّ اللهَ أهانَهُ فقَد كَذَب،

ومن قَالَ إِنَّ اللهَ أكرمَهُ فَقَد أَهَانَ غيرَهُ لمَّا أَعطَاهُ الدُّنيَا !

ترجمة المشهد:

أصحاب الدعوة والرسالة دومًا فرحون، رَاضون مُطمئنون، أَدمَنُوا ذَمَّ الدنيا فتقربت إليهم، أعلنوا إذلالها في كل ميدان، فأكثرت من زيارتهم، أما عُشَّاقها فأعلنوا الحرب بينهم من أجلها، فَسَقَتْهُم سُمًا، وأبدلتهم بِفَرَحِهِم هَمًّا، وأثابتهم على مَدحِهم لَها ذمًّا، وقطعت أكبادهم فَماتوا عَليها غَمًّا، فيَا مَشغُولاً بها تَوقَّع خَطْبًا مُلِمًّا.

وما هي إلا جيفـة مستحيلـة              عليها كلاب همُّهن اجتذابها

فإن تجتنبها كنت سِلْماً لأهلها              وإن تجتذبها نازعتك كلابها

أخي:

والله إنَّ الدنيا أهون في ميزان الله وأحقر من أن تكون جائزةً لطائعٍ مُحسِن، أو عقابًا لعاصٍ مسيء !

فلو كانت الدنيا جزاءً لِمُحسنٍ         إذًا لم يكن فيها مَعاشٌ لظالـمِ

  لقد جاع فيهـا الأنبياء كرامة         وقد شبعت فيها بطون البهائم

القرطبي / الجامع لأحكام القرآن (16/88)

 

صبغ ابن عمر  هذا المعنى بلغته الخاصة فقال:

لا ينالُ أحدٌ مِنَ الدُّنيَا شَيئًا إلا نَقَصَ مِن دَرَجَاتِهِ عندَ اللهِ، وإن كَانَ عندَهُ كَريمًا !

فَقِهَ ابن الجوزي لُغةَ ابن عمر  م فراح يُقَرِّرُ:

بِقَدَرِ صُعودك في الدُّنيا تَقِلُّ رُتبتكَ فِي الآخرةِ !

  أيها المُتْعِبُ جَهْدًا نفسَهُ            يطلب الدنيا حريصًا جاهدًا

 لا لك الدنيا ولا أنت لَها            فاجعلِ الهمّين  هَمَّا واحدًا

 

اليقين بأن الرزق آت:

أستفتح بِشَهادةِ فارسٍ تَخَرَّجَ من مدرسة محمد صلى الله عليه وسلم إنه عبد الله بن مسعود رضي الله عنه جاء في شهادته:

إنَّ اليقين ألَّا تحسد أحدًا على رزق الله، ولا تَلُمْ أحدًا على ما لم يُؤتِكَ الله، فَإِنَّ رزقَ الله لا يسوقه حرصُ حَريص، ولا يرده كراهيةُ كاره، وإن الله جعل الفرح في اليقين والرضا، وجعل الهَمَّ والحَزَنَ فِي السَّخَطِ والشَّك !

ولهذه الشهادة ترجمة عند علي رضي الله عنه، وبذكر علي رضي الله عنه تطيب المجالس فقال:

إنَّ أَرجَي مَا يَكُونُ الرِّزْقُ إذا قالوا: لَيسَ في الدنيا دقيقٌ !

ومن نفس المشكاة المحمدية ما نطق به مسروق:

إنَّ أَحْسنَ مَا أَكُونُ ظنًا حِينَ يقولُ الخَادِمُ: ليس في البيت قَفِيزٌ من قمحٍ وَلا درهمٍ !

وهو ما ظهر من كلام الإمام أحمد:

أَسَرُّ أَيَّامِي إليَّ يومٌ أُصْبِحُ وَلَيسَ عندِي شَيءٌ.

تشرب هذه الثقافة أحد السلف فقال في يقين:

واللهِ لَو كَانَ أهلُ مِصر كُلُّهُم عِيَالِي مَا خَشِيتُ الفَقْر !

 

أهديك ثلاث نصائح:

1- الزمْ ميراث النبوة:

أورد أبو حنيفة في مسنده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " مَنْ تَفَقَّهَ فِي دِينِ اللهِ كَفَاهُ اللهُ عزَّ وجلّ، وَرَزَقَهُ مِن حَيثُ لَا يَحْتَسِب " ! مسند أبي حنيفة (1/25).

ذلك أنَّ الفَقِيه حاملُ الأمانة، وَحَارسُ الشَّرِيعةِ، كُلمَا تَسَلَّقَ إلى سماءِ الشَّرع كَاذب، أَحرَقَهُ بِشِهابٍ ثَاقِبٍ، وَصَبَّ عليه العذاب الواصب، فتوى في صحيفة، أقوى من قذيفة، تَكَفَّلَ بحفظ الدين، وَدَلَّ الناسَ على رب العالمين، ومن كان هذا شأنه جُوزِي من جنس عمله، فتكفل الله أمره !

وإذا شعر طالب العلم بضيقٍ وفقر، فهذا في حياته كَالبَرد وَالحَرِّ، والعافية والضُر، والأمر كما قال قتادة: " إِنَّ اللَّهَ يُعْطِي الدُّنْيَا عَلَى نِيَّةِ الآخِرَةِ، وَأَبَى أَنْ يُعْطِيَ الآخِرَةَ عَلَى نِيَّةِ الدُّنْيَا " !

 

2- عليك بالقناعة والكفاف:

أخرج مسلم في صحيحه من حديث عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ م أنَّ رَجُلًا سَأَلَهُ فَقَالَ: أَلَسْنَا مِنْ فُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ؟! فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ: أَلَكَ امْرَأَةٌ تَأْوِي إِلَيْهَا؟ قَالَ نَعَمْ، قَالَ: أَلَكَ مَسْكَنٌ تَسْكُنُهُ؟ قَالَ نَعَمْ، قَالَ: فَأَنْتَ مِنْ الْأَغْنِيَاءِ ! قَالَ: فَإِنَّ لِي خَادِمًا، قَالَ: فَأَنْتَ مِنْ الْمُلُوكِ ! صحيح مسلم، رقم الحديث: (7653)، (8/220).

رسالة الحديث:

إن دخولك لِقَامُوسِ الأغنياء مُتَوَقِّفٌ على حُجْرَةٍ وزَوجةٍ، وإذا وجدت من يُهَيِّأ مَطعَمَك، ويَغسِل ثَوبك، ويُعينك عند مرضك، فأنت في دِيوانِ المُلوكِ، وإن لم تكن لك رعية تَحكُمُهَا، أو مُستندات تَختِمُهَا..

وإذا لم تَرْضَ بحياة الملوك، وأردت الدنيا بما فيها، فثمةَ شروطٌ ثلاثة، إليكَهَا:

أخرج الترمذي وابن ماجه في سننيهما من حديث عبيد الله بن محصن الأنصاري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ مُعَافًى فِي جَسَدِهِ، آمِنًا فِي سِرْبِهِ، عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ، فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا " سنن الترمذي رقم الحديث: (2346)، ص (529)، سنن ابن ماجه، رقم الحديث: (4141)، ص (689).

وكأني بالصحابي الجليل ابن عتبة رضي الله عنه تعلم الدرس جيدًا من نبيه صلى الله عليه وسلم فراح يبكي، وإليك سر َّالبكاء :

أخرج ابن ماجه في سننه عن سَمُرَة بْنِ سَهْمٍ قَالَ: " نَزَلْتُ عَلَى أَبِي هَاشِمِ بْنِ عُتْبَةَ وَهُوَ طَعِينٌ فَأَتَاهُ مُعَاوِيَةُ يَعُودُهُ، فَبَكَى أَبُو هَاشِمٍ، فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: مَا يُبْكِيكَ أَيْ خَالِ؟ أَوَجَعٌ يُشْئِزُكَ [أي يقلقك] أَمْ عَلَى الدُّنْيَا فَقَدْ ذَهَبَ صَفْوُهَا؟ قَالَ: عَلَى كُلٍّ لَا، وَلَكِنْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَهِدَ إِلَيَّ عَهْدًا وَدِدْتُ أَنِّي كُنْتُ تَبِعْتُهُ قَالَ: إِنَّكَ لَعَلَّكَ تُدْرِكُ أَمْوَالًا تُقْسَمُ بَيْنَ أَقْوَامٍ، وَإِنَّمَا يَكْفِيكَ مِنْ ذَلِكَ خَادِمٌ وَمَرْكَبٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ.. فَأَدْرَكْتُ فَجَمَعْتُ "! سنن ابن ماجه، رقم الحديث: (4103)، ص (683).

فَرَحِمَ اللهُ عبدًا جعل الهموم همًا واحدًا، فَقَنِعَ بما كتبه الله له، وغض طَرْفَهُ عما لم يُؤتِهِ، واليقين يملأ قلبه أن الله متكفل بدنياه، فَاشتَغَلَ بما يُسعِدُهُ في آخرته ومُنتَهَاه، وَبَشِّرِ المُؤمنين !

 

يُذكر أنَّ جابر بن عبد الله م كان بيده لحمٌ يأكله، فرآه عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: ما هذا يا جابر؟ قال: اشتهيت لحمًا فاشتريته، فقرع عمر رضي الله عنه قلبه بِعِتَابٍ ناري، قرر فيه أُسَّ التعامل مع المتاع الدنيوي فقال غضبًا:

" أَوَ كُلَّما اشتهيتَ اشتريتَ؟! "

أولا تخشى يا جابر أن تُحْرَمهُ في الآخرة، ويقال لك {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا} [الأحقاف: 20]

 

3- عِشْ في الدنيا كأنك غريب:

أتمنى عليك إطالة التأمل هنا، فكلمتنا هذه.. خلاصة الوعظ في الإسلام !

إذا كنت خارج بلدتك في أداء مهمة ألا تشعر بِغُربَةٍ شديدة؟، ثم تهرع لإنجاز مرادك في أسرع وقتٍ، وأجود حالٍ، ولا تستقر الطمأنينة بقلبك إلا عند رؤيتك مشارف بلدتك؟؛ ذلك أن المرء مَجبُولٌ على الحنين لوطنه الأول، ولما كانت الجَنَّةُ أرضنا الأولى فإنا على أرض الدنيا نزلاء، والنزيل مُرتَحِلٌ غير مُقيمٍ فِي قاموس الغرباء !

وتأمل صاحب القلم السيال، والقول العذب الزلال.. فقد أتحفك ابن القيم بوصية أخوية إليك نصَّهَا:

" وينبغي للعبد أن يرتحل عن الدنيا حتى ينزل بالآخرة، ويحل فيها حتى يبقى كأنه من أهلها وأبنائها، جاء إلى هذه الدار غريبًا يأخذ منها حاجته، ويعود سريعًا إلى وطنه " ابن القيم / إغاثة اللهفان ص (1/70)!

وفي سياق متصل استنكر ابن القيم على المتعجب من وصيته السالفة فقال:

كيف لا يكون العبد في هذه الدار غريبًا وهو على جناح سفر، لا يَحُلُّ عن راحلته إلا بين أهل القبور، فهو مسافر في صورة قاعد وقد قيل:

وما هذه الأيام إلا مراحـل     يحث بها داع إلى الموت قاصد

وأعجب شيء لو تأملت أنها     منازل تطوى والمسافر قاعد

[ابن القيم / مدارج السالكين (3/201)]

لكن الغرباء عملة الزمان الصعبة يا أخي، فلا يُعطَى هذا الشرف لكُسَالى ولا بَطَّالِين؛ يَصِلُونَ الليلَ بالنَّهار شربًا وأكلًا، ويَربِطُون الصباحَ بالمَساء لهوًا ولعبًا، إنما يعطى لمن صَاحَبَ المصباح حتى الصباح، وأمضى ليله ونهاره في العلم والعمل والدعوة والإصلاح.. حتى يلقي الله على ذلك، وطوبى للغرباء !

فاسأل الله أن يزيدك اغترابًا؛ فإنها وصية النبي صلى الله عليه وسلم لابن عمر م: عشْ في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل، صبغها ابن عمر م بلغته، وأخرجها في ثوب عملي:

إذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وإذا أمسيت فلا تنتظر الصباح !

وقد عرفت مسلك الوصول فَالْزَم !

 

قال الشوكاني: ما من هم يجتاح القلب كَمَأْكَلٍ وَمَشْرَبٍ، أو مَنْكَحٍ وَمَسْكَنٍ؛ إلا حُجِبَ صاحبَهُ عن الله بِحَسَبِ قوته وضعفه، ولا خلاص إلا بتفريغ القلب من الشواغل، ولو كان ذلك بالتدرج، وكلما صفى قلبه دفع همًا من هموم الدنيا، وأنزل هَمَّ الآخرة مكانه! الشوكاني / فيض القدير (3/343).

 

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين