انهيار المعيار الأمريكي

إن الأمريكان لهم أحلام حلوة وأمان معسولة، لا يعيشون إلا لتحقيقها وإبرازها من العدم إلى حيز الوجود، وتدور حول أمرين:

الأول تكسُّب المال، وتضخيم الثروة، وجمع أسباب الدعة والراحة، والتمتع بوسائل الترفيه والتسلية.

والثاني التطلع إلى حياة فاضلة، تبنِّي المثل البشرية والقيم الإنسانية من مساعدة الآخرين وتجنب الإضرار بهم.

تقتنع الأغلبية الساحقة من الأمريكان بالأول لا تتخطاه ولا تبغي عنه حولا، والذين يسعون للأمر الثاني ثباتهم عليه ضئيل وعددهم قليل، وهم مع ذلك لا يرعونه حق رعايته.

وصدَّر الأمريكان حلمهم المسمى بالحلم الأمريكي إلى العالم كله، ومما يؤسف له أن عامة المسلمين المثقفين منهم وغير المثقفين يعيشون لتحقيق ذلك الحلم.

 

فلنعلم أن الحياة الدنيوية الناجحة كما يقدرها الحلم الأمريكي لا تحقق دخولا آمنا في رحمة الله تعالى في اليوم الآخر، ولنعلم أيضًا أن الحياة الحسنة أو الحياة الفاضلة كما تقدر في هذه الدنيا لا تحقق دخولا آمنا في رحمة الله تعالى في اليوم الآخر. لا يمكن الدخول الآمن في رحمة الله تعالى إلا بصلة مستقرة، أي الوعي الثابت، بالله وحده. لا بد لنا أن نبني صلة مستقرة على الصعيد الفردي والشخصي بالله وحده، لا يكفي شيء مختلف عن هذا أو أقل من هذا في هذه الحياة إذا كنا متطلعين لذلك الدخول الآمن في رحمة الله ورجاء ثوابه بكل ثقة وطمأنينة.

 

لعلكم تسألون: ما سبب ذلك؟ لماذا لا يكفي العمل الشاق؟ لماذا لا يكفي النجاح المكتسب بأمانة؟ لماذا لا يكفي عدم الإضرار بالآخرين، ولماذا لا يكفي رعايتهم حتى على حساب أنفسنا؟

 

لماذا يأمرنا الله أن نعبده عبادة مخلصة؟ وأي جاجة لله إلى العبادة وهو خالق الكون ورازقه، وهو رب الحياة في جميع صورها وأشكالها المختلفة الواسعة الممتدة في أرجاء هذا الكون الواسع الرهيب؟ الجواب: لا حاجة له إلى العبادة، فالاستغناء معنى لازم للألوهية، إنما تهم الحاجةُ إلى العبادة الكائناتِ الحيةَ المتواجدة على أنواعها وأجناسها، وما العبادة إلا في مصلحتها ومنفعتها.

 

إننا نقتصر بصورة نمطية على ملامح العبادة الظاهرة: الحمد والتسبيح والدعاء من أجل مطالبنا وحاجاتنا الكثيرة لا سيما تلك التي تتعلق بالرزق والمغفرة، قد نص القرآن الكريم في غير موضع على أن الله يسبح له كل ما نعلمه وما لا نعلمه من خلق في السماوات وفي الأرض، وفي الظاهر والباطن، وفي النور وفي الظلمات، ويمكننا أن نفهم من ذلك أن العبادة في أبسط صورها وأقربها إلى الطبيعة هي اعتراف الكون وتقييمه نفسه فيما يدين لربه الخالق له والموجد والمصور والمقدِّر إياه تقديرا، ومن خلال هذا الاعتراف يعرب كل موجود وكل كائن حي عن اعتماده على ربه وشكره له، ولا يحول بيننا وبين هذه العبادة الطبيعية والاقتناع الطبيعي بالحياة وبهذا المسلك الطبيعي للتسبيح والحمد إلا طبيعتنا البشرية المتميزة.

 

إن درجة الدقة في صلاحية البشر للحساب، وللتعليل، وللتصور، ولحفظ عالمنا العقلي بأسره في اللغة وإعرابه عنه بالكلمات والرموز لأعظم مما تحظى به المخلوقات الأخرى، حتى إن الفرق بيننا وبينها عمليا ليس فرق درجة ودرجة بل هي فرق نوع ونوع، إن الإنسان وحده يقدر على أن يكيف بيئته وفق حاجاته ورغباته، وهذا ما يوهمنا أننا نملك قوة إبداعية، وأننا نقدر على أن نضيف شيئا جديدا إلى العالم، على سبيل المثال: ليس في حدود علمي مخلوق غير الإنسان يطبخ الطعام، القدرة التي تؤدي إلى الزيادة في أنواع المأكولات التي نتناولها، ونظن أننا نمارس هذه القدرة كإبداع مستقل، والظاهر أنها منحصرة في حدود صعيد القوة، والتصور، والمهارة التقنية، المتوافرة لنا في أي وضع متاح، وهنا في هذا الشعور بالانفراد والاستغناء عن الله يحتل بنو آدم موضعا خطيرا، يزعمون به أنهم يتمتعون باستقلال أو شبه استقلال، ويوقنون بأنهم أعلم أفرادا وجماعات بما هو أفضل لهم، ومن جراء هذا الإيقان الكاذب فإن الإعراب الطبيعي للعبادة وتقدير ما أنعم الله به عليهم وأنهم مدينون لربهم يضعف ويتضاءل.

 

إن من أصعب الأمور على المعتنقين الجدد للإسلام، والذين يجلُّون قبل أن يهتدوا إلى الإسلام وبعده آباءهم وإخوانهم وأخواتهم ويعرفونهم كأكرم الناس وأحسنهم أخلاقا، ولا يتذكرون من نواياهم وأفعالهم إلا ما هو صالح، إنه لمن أصعب الأمور على هؤلاء المعتنقين الجدد أن يتخيلوا أن هؤلاء الصالحين من آبائهم وأمهاتهم وأقاربهم لن يدخلوا في دار السلام في اليوم الآخر لمجرد أنهم لا يعبدون الله، وخطر مثل ذلك ببال الصحابة رضي الله عنهم أفضل هذه الأمة بل وجرى للنبي صلى الله عليه وسلم أيضًا، إذ أحبه عمه وحماه، ولكنه لم يستطع أن يتلقى أي ضمان لعمه أن يسلم من إبعاد الله إياه من رحمته، إن القرآن يؤكد بلغة قوية وأسلوب حي أن المودات والقرابات التي يتمتع بها الناس في هذه الحياة ستقطع حبالها قطعا ولن يلقوا ربهم إلا فرادى، لا شك إنه صعب جدا وإنه لفظيع، وقد يحمل أناسا على الكفر بالله وبدينه، بل ويتجرأ بعضهم هداهم الله وغفر لهم على أن يقول: إن كان الله يطالب بأن يُعبَد فإنه لحقيق بأن لا يُعبد.

 

إن حياة فاضلة حياة يعيشها أصحابها في ممارسة الفضائل وتجنب ما يسبب ضررا لأحد لا تكفي لتحقيق الفلاح في الآخرة، إن الجهد البشري لعمل الصالحات لا بد أن يكون موجها إلى يوم البعث، يوم يقوم الناس لرب العالمين ويوم لا يهمهم إلا حكم الله فيهم، ويوم لا يسمع صوت إلا بإذنه، لا يكفي أن نجزم بأن هذا العمل أو ذاك حسن أو نافع أو فيه رحمة، حتى تتحقق عملية التعليل والشعور التي تمخضت عن ذلك الجزم، في وعي حي منتبه بأن قدراتنا للتعليل والشعور مدينة لله وحده ومعتمدة على رحمته وربوبيته، إن كل سلوك لسنا فيه مجبورين، ونحظى بنوع من الاختيار بين فعله وتركه، لا بد أن يكون الدافع وراءه نية واعية صادقة للحاجة إلى نيل مرضاة الله ورحمته، إن لم يكن الدافع لسلوكنا هذه النية، وإن كنا بدلا منها لا يهمنا إلا إرضاء أنفسنا أو موافقة من دون الله، فإن هذا السلوك لن يسهم في فوزنا في الآخرة إسهاما مباشرا، وإن أي أمنية تخالف تلك النية الصادقة لن تكون إلا كمثل من رجا أجر سعيه لا من مولاه، بل من غيره ممن لم يعمل له ولم يبذل جهده له.

 

إن مشكلتنا نحن البشر تتمركز في إيماننا بأننا نقرر ما هو صواب بممارسة تعليلاتنا المبنية على خبراتنا لنتائج الاختيارات أو الأفعال المماثلة في الماضي، الحق إن تقرير ما هو صواب في نفسه أو في عواقبه لن يتأتى إلا في مرتبة الظن والتخمين..

 

إننا نعلم من تجاربنا أن ما رأينا حسنا قد يؤدي إلى ما قبيح، وما رأيناه قبيحا يتحول حسنا نافعا في المستقبل، إن التقرير المحتوم وإن الحساب النهائي لحياة فاضلة وحياة ناجحة أو غير فاضلة وناجحة متوقف تماما على قدر الله وقضائه، فلا بد لنا أن نعرف أن الفوز موكول إلى حكم الله لا حكمنا نحن، وإن قبول ذلك بقناعة هو المسمى "الإسلام".

 

إن الاستقامة على مثل هذا الإسلام لصعبة غاية الصعوبة، نلتجئ في كثير من الأحيان إلى كلمات معلومة: بسم الله الرحمن الرحيم، وإن شاء الله، وما شاء الله، والحمد لله وأمثالها، إننا نستعوض أداء مثل هذه الكلمات من غياب الإسلام الواعي والذي نبتلى به في متقلبات الحياة، وسلسلة معقدة من الأحوال، لا تعطينا إلا لحظات قصيرة للتأمل في الرجوع إلى وعينا بالاعتماد على الله، ومن ثم كانت بداية أفضل العبادات ونهايتها الصبر، والاستغفار لأننا لا نعلم بيقين هل ستؤدي أعمالنا إلى ما نتوخاه من العواقب، ولا نتحكم في نوايانا تحكما دقيقا ولا نستشعر دوافعنا استشعارا تاما.

 

مما يساعدنا على أن نتذكر ما وعد به ربنا أنه يحب العفو ويرضى أن يغفر عباده وأن رحمته أعلى صفاته، وهل نتصور حياة في الكون أو بقاء على وجه الأرض إن لم تكن الرحمة والمغفرة من الصفات السابقة، فالحياة الناجحة هي التي تسعى إلى مغفرة الله ورحمته بإخلاص وكأنها إن جاز أن نقول ذلك استحقت مغفرة الله ورحمته.


جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين