انقلاب جمعية الاتحاد والترقي وأثره على مستقبل الدولة العثمانية

 

حدث في الخامس عشر من صفر1331

 

في الخامس عشر من صفر من عام 1331، الموافق 23 كانون الثاني/يناير 1913، قامت مجموعة من الضباط الأتراك الشبان يترأسهم أنور بك، وينتمون إلى جمعية الاتحاد والترقي بعمل انقلاب عسكري دموي على حكومة محمد كامل باشا المنتخبة، كان له أثر وبيل على مستقبل الدولة العثمانية، فقد انتقلت من الشورى إلى الاستبداد والطغيان، وتسبب الانقلاب بخوضها خاسرة الحرب العالمية الأولى إلى جانب ألمانيا.

 

وللوصول إلى قصة الانقلاب، لابد لنا أن نعود إلى خلع السلطان عبد الحميد وتنصيب السلطان محمد رشاد، والذي جرى قبل قرابة أربع سنوات في سنة 1327=1909، فقد جرى خلع السلطان بتدخل الفيلق الثالث من الجيش العثماني الذي كان يقوده الفريق محمود شوكت العمري، المولود في بغداد سنة 1275=1858، وصار الحكم في يد جمعية الاتحاد والترقي، ويقال لأعضائها: الاتحاديون.

 

وارتكب الاتحاديون سلسلة من الأخطاء في السياسة الخارجية، أدت إلى كوارث كادت أن تطيح بالدولة من أساسها، وألبت عليهم الرأي العام، فقد خسرت الدولة ليبيا بعد أن غزتها إيطاليا في أيلول/سبتمبر 1911، ورغم محاولات الاتحاديين مقاومة الغزو بإرسال بعض القوات وعدد من ألمع الضباط، إلا أن عبأ المقاومة وقع على المجاهدين الليبيين بقيادة السنوسي، ولم يكن هؤلاء ليستطيعوا مقاومة جيش منظم مدرب حديث كالجيش الإيطالي آنذاك،  ولم تكن تلك الخسارة الوحيدة بل كانت الطامة الكبرى خسارة المقاطعات البلقانية.

 

ذلك إنه في آخر أيام السلطان عبد الحميد استغلت النمسا فرصة الاضطرابات التي سبقت خلعه، فأعلنت في أكتوبر 1908 ضم البوسنة والهرسك إليها نهائيا، وكانت من قبل تديرها مع تبعيتها الصورية للدولة العثمانية، وتبعتها بلغاريا فأعلن أميرها فرديناند استقلالها وتسمى بالقيصر فرديناند الأول، واستغل الاتحاديون هذه الأحداث، وأججوا بها مشاعر الرأي العام العثماني، حتى استطاعوا أن يخلعوا السلطان عبد الحميد بعد 40 سنة من الحكم، وبعد أن تولى الاتحاديون الحكم في سنة 1909 كان الرأي العام يتطلع إليهم ليقرنوا القول بالفعل، ويستعيدوا بعض ما فقدته الدولة في البلقان.

 

وفي ربيع 1912 أنشأت دول البلقان؛ بلغاريا وصربيا واليونان والجبل الأسود، العصبة البلقانية بتشجيع ورعاية من روسيا، وكان هدفها انتزاع مقدونيا من تركيا المشغولة بحرب إيطاليا في ليبيا، وفي تلك الفترة أجريت الانتخابات في تركيا في نيسان/أبريل 1912، وفاز فيها الاتحاديون بالأغلبية، وذلك بسلوكهم كل الحيل المعوجة التي تضمن لهم الفوز، وشكلوا حكومة ترأسها كُجُك سعيد باشا، والذي كان في هذه المنصب ثمانية مرات من قبل، ولكنه كان عديم الفائدة متردداً في اتخاذ القرارات، فاستقال في منتصف سنة 1912، مما أتاح الفرصة لتدخل زعماء جمعية الاتحاد والترقي في الدولة وعمل ما يريدون.

 

وكان ارتباط زعماء الاتحاد والترقي بضباط الجيش، وتحريضهم الضباط على التدخل في السياسة من أعظم الأخطار التي هددت كيان الدولة الجديد والذي قام على الانتخابات والشورى، ونفر منه العقلاء حتى كبار الضباط في الجيش، ونشأ عنه توتر شديد في أوساط الضباط كاد أن يتطور إلى تنازع مكشوف، وفي مقابل الضباط الاتحاديين قامت مجموعة من الضباط أسمت نفسها ضباط الخلاص، كان منهم ناظم باشا الذي قُتِل في الانقلاب، والذي كاد أن يسرح كبار الضباط الاتحاديين لولا أن أقسم له أنور بك وجمال بك أنهما لن يشتغلا بالسياسة.

 

وانقسم الاتحاديون على الصعيد الداخلي إلى قسمين: قسم دستوري، يرى عودة الجيش إلى ثكناته ومهماته العسكرية، وأن يترك السياسة للسياسيين، وقسم يريد أن يدير البلاد دون معارض أو حسيب، وكان زعيم القسم الأول أحد أكبر أعضائهم وأكثرهم احتراماً، وهو أمير الألاي صادق بك، أي أمير لواء، والذي كان عسكرياً مخلصاً لوطنه، راجح العقل حي الضمير متواضع النفس، حتى إنه رفض أن يمنح وساماً لما قام به في خلع السلطان عبد الحميد والإتيان بحكم دستوري.

 

كان من رأي صادق بك بعد أن استقر أمر الدستور وتألف مجلس الأمة؛ أن تترك جمعية الاتحاد والترقي للحكومة الحرية في عملها، وتكتفي بالمراقبة عليها، فلا تتعرض لشيء إلا إذا رأت الدستور مهدداً بالزوال، وفي الطرف الآخر كانت هناك عصبة من الضباط الشباب قد تواطأت على أن تسيطر على زعامة الجمعية وتستبد بالحكم أو تسيّره في أضعف الأحوال، واستمال هؤلاء كثيرا من زملائهم من الضباط بضروب الترقيات والإغراءات، وأدخلوهم في وظائف الدولة الإدارية، ونفخوا في روعهم الاستخفاف بكبار رجال الدولة من عسكريين وسياسيين وموظفين.

 

وتصور صادق بك أن لديه من القوة والشعبية ما يمكنه من تغيير اتجاه الأمور، فقدم استقالته من الجيش ومن جمعية الاتحاد والترقي، وكتب مذكرة لهيئتها المركزية اشترط فيها لبقائه عاملاً في الجمعية شروطا منها: أن يترك طلعت بك نظارة الداخلية، وجاويد بك نظارة المالية، وأحمد رضا بك رئاسة المجلس؛ لأنه لا ينبغي لزعماء الجمعية أن يكونوا رؤساً في الحكومة لما لهم من القوة التي تمكنهم من الاستبداد.

 

وكبر ذلك على هؤلاء الزعماء بعد أن مكنوا لأنفسهم في الدولة وصاروا هم أئمتها الوارثين، ولكنهم كانوا في أمر مريج لما تمتع به صادق بك من القبول والطاعة في أوساط الجيش، وخشوا أن يقود هو حركة عسكرية تطيح بهم، وهو أمر كان في مقدوره دون كبير عناء، فبدأوا في الاحتياط لأنفسهم من ذلك، ولكن صادق بك صاحب الضمير المخلص أشعر أحد الوسطاء أنه لن يريق الدماء ويجعل الجيش يقاتل بعضه بعضاً، فاستقال من الجمعية ورجع عن استقالته من الجيش.

 

وأفسحت استقالة صادق بك من جمعية الاتحاد والترقي الطريق لهؤلاء الضباط الشباب للسيطرة عليها، وكان من وسائلهم الفعالة أن جعلوا التصويت على القرارات علنياً ليتسنى لهم الترهيب والترغيب، وشكلوا من وراء الستار تحالفات ذات منافع مادية، وبثوا الفُرقة بين أعضائها حتى يسهل التحكم بهم، وبدأ هؤلاء الضباط في اتخاذ سياسات متطرفة تتعارض مع مصلحة دولة الخلافة العثمانية، أولها الدعوة القومية الطورانية التي تنفر من العرب والإسلام، ولذا قامت حكومات الاتحاد والترقي بتتريك الوظائف، ومحاربة التعليم العربي حتى في البلدان العربية، ومنعت الألبان والأكراد من تدوين لغتهم، وجرت هذه التطورات في وجود مجلس الأمة المنتخب، وتفاقم الاستياء من تصرفات زعماء الاتحاد والترقي، فقد كانت البلاد تحكم من خلال جمعية سرية لا وزارة مسؤولة كما يقتضي الدستور، وضج مجلس الأمة بالشكوى، وبلغت المعارضة حداً اضطر معه طلعت بك إلى الاستقالة من نظارة الداخلية، وتبين في هذه الأحداث أن الاتحاديين لم يكونوا بالقوة أوالشعبية التي كانوا يتصورون أو يُصوِرون.

 

وكانت هناك قضية أخرى دقت بسببها أجراس الخطر لدى المخلصين من سياسيين وغيرهم، فقد كان الفساد الإداري الذي استعمله الاتحاديون لوضع ضباطهم وأنصارهم في مفاصل الدولة، يواكبه فساد يستهدف المقومات التاريخية للأمة العثمانية من دين وآداب وأخلاق، فقد جعل الاتحاديون الصلاة في مدارس الحكومة ولا سيما الحربية أمراً اختيارياً، وجاهر بعض زعمائهم  بأن علينا: أن نمشي وراء فرنسا في كل خطوة في الأمور المادية والمعنوية جميعًا، وأن نعصر رجال الدين عصرا!

 

وكان صادق بك يراقب هذا التطورات بصمت فلما رأى قوة المعارضين للاتحاديين ووزارتهم من أحزاب المجلس قد عظمت، ورأى أن المنصفين من الاتحاديين قد انفضوا من حول أولئك الزعماء، بدأ يتحرك في تجميع المعارضة وتشجيعها على مواجهة المستبدين من الاتحاديين، فاشتدت عزائم المعارضين، وشكلوا ائتلافاً حزبياً سموه حزب الحرية والائتلاف، ويقال لأعضائه الائتلافيين، وأسقطوا في تموز/يوليو 1912 وزارة سعيد باشا الاتحادية، وشكلوا وزارة من أهل التجارب والثقة برئاسة أحمد مختار باشا الغازي، ولكن ليس قبل أن يوعز الاتحاديون إلى محمود شوكت باشا وزير الحربية بإقالة صادق بك من الجيش بحجة تدخله في السياسة، وفكر صادق بك في رفض القرار ثم قبله، فقد كان ضابطاً مثالياً في الطاعة والانضباط.

 

واستقال أحمد مختار باشا من رئاسة الوزارة بعد 3 أشهر، وجاء بعده محمد كامل باشا، ، المولود في قبرص سنة 1247=1832، وفي تشرين الأول/أكتوبر 1912 أعلنت دول العصبة البلقانية الحرب على الدولة العثمانية، واستطاعت جيوشها في 8 أشهر أن تنزل  هزائم متتالية بالجيش التركي وتحتل كل المقاطعات الغربية بما فيها مدينة أدرنة عاصمة الخلافة السابقة، ففقدت الدولة العثمانية جناحها الغربي بعد أن بقي في جسمها 550 سنة، وبسبب الوضع في البلقان وقعت الحكومة معاهدة لوزان مع إيطاليا، تخلت فيها عملياً عن ليبيا مع بقاء بعض المناصب العثمانية الرمزية فيها.

 

ومهد الاتحاديون للانقلاب في أوساط الرأي العام بتحميلهم الحكومة مسؤولية خسارات أراضيها في البلقان وليبيا، وكان للانقلابيين ما يكفي من الأنصار وسط الضباط في القوات الموجودة في استانبول ليضمن لهم أنها لن تتدخل عند وقوع الانقلاب أو أن تدخلها سيكون ضعيفاً مشتتاً.

 

وجرى الانقلاب على نحو فيه كثير من الجرأة والمغامرة، وكان قطبه أنور بك يحمل رتبة مقدم أركان حرب ويبلغ من العمر 31 سنة، ومعه العقيد الركن جمال باشا ويبلغ من العمر 41 سنة، وحدد الانقلابيون وقت الانقلاب في الثانية بعد الظهر ليتم أثناء اجتماع الوزارة، وجاءوا بنحو مئتي شخص من أنصارهم ووزعوهم في المقاهي الواقعة أمام الباب العالي، وفي الوقت المعين تجمع هؤلاء أمام الباب العالي، وجاء أنور بك على جواده يحيط به أربعة من أنصاره قد وضعوا مسدساتهم تحت ستراتهم إلا أنها كانت ظاهرة لكبر حجمها، وقام شيخان من أنصارهم يصيحان في المتجمهرين وفي جند حراسة الباب العالي: أيها المسلمون! استغفروا الله، أيها المسلمون! استغفروا الله. الله أكبر، الله أكبر. فيجيبهما الجميع: أستغفر الله، أستغفر الله.

 

وكان الانقلابيون يهدفون من ذلك أن يستثيروا العواطف الدينية في الحراس من غير أنصارهم فيترددون في قمع المتجمهرين أو إطلاق النار عليهم، أما أنصارهم في الحراس فكانوا على ترتيب معهم ليظهروا شيئاً من الممانعة ثم يسمحون لهم بالدخول، وهكذا كان فبعد أن دخل أنور بك ومرافقيه الباب الخارجي الكبير أقفلوا الباب وراءهم ومنعوا غيرهم من الدخول.

 

وبلغ خبر هذا التجمع للوزارة المجتمعة، فترك الاجتماع وزير الحربية ناظم باشا وأعطى أوامره لمرافقه نافذ بك أن يأمر الجنود بتفريق المجتمعين، ولما وصل أنور بك وأعوانه إلى داخل مبنى الباب العالي وأرادوا الدخول إلى غرفة مجلس الوزراء منعهم نافذ بك، فأطلق عليه أحد الضباط من مرافقي أنور بك النار فأرداه، ثم أردى الانقلابيون مرافق الصدر الأعظم ومرافق شيخ الإسلام لما تصدبا لهم، ولما سمع ناظم باشا إطلاق النار خرج ليرى الأمر فلما رأى أنور قال له: ألست أنت الذي أقسمت ألا تتدخل في السياسة؟! أنذال غشاشون! فعاجله أحدهم برصاصتين أودتا بحياته.

 

ودخل الانقلابيون غرفة مجلس الوزراء وفي يد أنور بك عريضة استقالة باسم الصدر الأعظم كامل باشا، فقبض على المسدس بيد وبسط العريضة بالأخرى لكامل باشا قائلاً: وقِّع على هذه العريضة حالاً، فالأمة لا ترضى بوزارتكم. فما كان من الشيخ الثمانيني إلا أن وقع الورقة، فغادر أنور بك على الفور، وترك بعض رجاله وأمرهم ألا يسمحوا لأحد بالخروج  من المبنى أو الدخول إليه.

 

وركب أنور بك سيارة كانت في انتظاره واتجه بها نحو السراي السلطانية في دولمه بقجه، وكان مئات من أنصار الاتحاديين قد تظاهروا كذلك عندها، فدخل إليها ثم خرج بأمر سلطاني موقع بقبول استقالة كامل باشا وتعيين محمود شوكت باشا في منصب الصدر الأعظم، وتعيين طلعت بك وكيلاً لوزارة الداخلية إلى أن تتألف الوزارة الجديدة، وكان هذان ينتظرانه مع آخرين عند السراي فعاد بهم أنور بك إلى الباب العالي، وتلي الفرمان السلطاني على المتجمهرين، وبعد ذلك خطب محمود شوكت باشا فقال: إني قبلت هذا المنصب وأنا على علم بحرج الموقف، وإني واثق بالله أن يوفقني إلى خدمة الوطن. ثم طلب من المتظاهرين أن يتفرقوا، فذهبوا من الباب العالي إلى حزب الحرية والائتلاف فنهبوه، وأخذوا أوراقه ودفاتره، وحطموا زجاج نوافذه.

 

وكان الانقلابيون قد خططوا لما يريدون تنفيذه في حالة نجاحهم من تعيينات في مفاصل الحكم والدولة، فتكونت الوزارة الجديدة من محمود شوكت باشا في منصب الصدر الأعظم ووزارة الحربية، وتولى محمد أسعد أفندي، أمين الفتوى، منصب شيخ الإسلام، وعادل بك الحاج في وزارة الداخلية ولكن أُسند منصب الوكيل لطلعت بك الاتحادي المتنفذ، وضمت الوزارة 3 من اليهود هم بساريا أفندي في وزارة الأشغال، وهو من والاشيا في رومانيا والتي يسميها الأتراك الفلاخ، ونسيم مازلياح وزير التجارة والزراعة، ومندوب أزمير سابقاً في مجلس الأمة، وجاويد بك وزير المالية وأصله من الدونمة. وتهكمت مجلة المنار عندما أوردت خبر الوزارة فقالت في حديثها عن بساريا أفندي: ذهب كل الفلاخ من يد الدولة وإنما بقي لنا منهم بحمد الله هذا الناظر، ثم علقت على خلو الوزارة من العرب فقالت: في الوزارة 3 وكلاء من قبل الجمعية الصهيونية: نسيم مازلياح، وجاويد بك، وبساريا أفندي؛ أما العرب فلا يوجد لهم فيها ولا رجل واحد، وهذا معقول مفهوم؛ لأنه لا يوجد عرب في البلاد العثمانية!

 

وحدد الانقلابيون كذلك من يريدون توقيفه وسجنه ممن يتوقعون منهم المعارضة، فقبضوا على مدير عام البوليس، وعلى عدد من الصحافيين وأصحاب الصحف التي كانت تنتقد الاتحاديين وأغلقوها، وعزلوا عدداً من محافظي الولايات بينهم محافظ الآستانة إلى جانب عدد من كبار الموظفين، وأصدر طلعت بك بياناً عن وزارة الداخلية يحمل الرواية الرسمية لخبر الانقلاب: لما كانت وزارة كامل باشا قد تجاوزت على حقوق الأمة فتركت للأعداء ولاية أدرنة كلها، وجمعت في السراي السلطانية مجلس مشورة من أعضاء مجلس شورى الدولة ورؤساء الموظفين دعته المجلس الملي، ثار الشعب وأصبح في حال الغليان، فقام بمظاهرة أمام الباب العالي أدت إلى استعفاء الوزارة، فصدرت إليَّ الإدارة السنية بإدارة أمور نظارة الداخلية بالوكالة إلى أن تعين الوزارة، وباشرت الأمر مستعينًا بقوته تعالى...

 

وشكل الصدر الأعظم الجديد عقبة أمام الاتحاديين، فلم يكن محمود شوكت الشركسي الأصل، العربي المنبت، والمولود في بغداد سنة 1275=1858 عضواً في جمعية الاتحاد والترقي، ولكنهم أتوا به لخلو صفوفهم ممن يصلح لتولي هذا المنصب، من حيث الوجاهة أمام الشعب، ومن حيث الخبرة بالحكومة، وبالرغم من أخطائه السابقة وتأييده للاتحاد والترقي، فقد أحسن محمود شوكت العمل في وزارته، وكانت خطته لم شعث الدولة وإعادة بنائها بعنصريها العربي والتركي، بعد أن تركتها العناصر البلقانية واليونانية، ولم يكن محمود شوكت من أنصار أن يعمل العسكريون في السياسة، وسبق له أن صرح: بعد... تأسيس الدستور لم يبق محل لاشتغال الجيش بالسياسة، وأنا... أوصيت... بكل عزم وإخلاص أن يحصر الجيش همته في وظيفته العسكرية المقدسة. ولكن ما لبث محمود شوكت أن لقي مصرعه غيلة أمام نظارة الحربية في 11 حزيران/يونيو 1913، وهكذا رحل آخر شخص كان في مقدوره الوقوف في وجه الاتحاديين.

 

وانتهز الاتحاديون مصرعه للتنكيل بكل خصومهم السياسيين الذين اتهموهم باغتياله، فأحالوا إلى التقاعد عدداً كبيراً من الضباط ورجال الدولة المخضرمين الذين شكوا في ولائهم أو خافوا من استقامتهم أو معارضتهم، وأنشأ الاتحاديون مجلس قضاء عُرفي ترأسه محافظ العاصمة جمال باشا، الذي سيعرفه العرب بالسفاح فيما بعد، وأصدر أحكامه بالإعدام والسجن والنفي على مئات من المعارضين، وجرى إعدام عدد منهم وهرب من لم يدركوه إلى خارج البلاد، وخلا بذلك للاتحاديين وجه البلاد والعباد.

 

أجبر الاتحاديون السلطان رشاد على تعيين الأمير سعيد حليم باشا في منصب الصدر الأعظم، وهو أمير من أسرة محمد علي التي كانت تحكم مصر، ولكن السلطة بأكملها كانت للباشوات الثلاثة؛ طلعت بك وزير الداخلية، وأنور باشا في الجيش، وجمال باشا في البحرية ثم المقاطعات العربية، وطَرَدَ الثلاثي الحاكم رئيسَ الحركة السابق أحمد رضا بك، وجاءوا بضياء الدين كوك ألب ليكون منظِّراً للحركة ويتولى الجوانب الفكرية والثقافية فيها.

 

وتنازعت دول العصبة البقانية على تقسيم ما استولت عليه من أراض، فقامت الحرب بينها، فانتهز الأتراك الفرصة واسترجعوا بعض أراضيهم في شرق ووسط تراقيا، ودخل أنور بك أدرنه على رأس القوات التركية، فأعاد ذلك شيئاً من القوة المعنوية للعثمانيين، وانتهت حرب البلقان الثانية بمعاهدة بوخارست في آب/أغسطس 1913، والتي وزعت الأسلاب بين دول البلقان وتركت لتركيا الفتات، واستاء منها الرأي العام التركي استياء كان له أثره في الابتعاد عن بريطانيا والميل للألمان.

 

ونشبت الحرب العالمية الأولى في 28 تموز/يوليو من عام 1914، وقامت الحكومة الاتحادية بعدة تصرفات خرقت فيها الاتفاقات الدولية المتعلقة بالمضايق والبحر الأسود، وفي 28 تشرين الأول/أكتوبر شنت البحرية العثمانية هجوما على مرافئ روسيا على البحر الأسود، مما دفع بروسيا وفرنسا وبريطانيا إلى إعلان الحرب على الدولة العثمانية التي أعلنت رسمياً دخولها الحرب مع الجاتب الألماني.

 

ودخلت الحكومة الحرب لهوى في نفوس زعمائها أنور باشا وطلعت بك وجمال باشا، رغم أن كثيراً من كبار الضباط الأتراك كانوا قد حذروا أنور بك من دخول الحرب، وذلك في اجتماعات القيادة العسكرية التركية، وكذلك في تقارير رفعوها إليه مباشرة، ومن هؤلاء كمال أتاتورك وعصمت أينونو وكاظم قرا بكر.

 

وأعلن السلطان محمد رشاد الجهاد الأكبر بصفته خليفة المسلمين، ولكن ذلك النداء لم يكن له صدى يذكر في العالم الإسلامي، فشتان ما بين السلطان عبد الحميد الذي اعتبره ملايين المسلمين سلطانهم الشرعي وما بين السلطان محمد رشاد الذي عرف العالم كله أنه دمية بيد جمعية الاتحاد والترقي، والجدير بالذكر أن السلطان عبد الحميد عندما علم بإعلان الجهاد قال: كان هذا سلاحاً كبيراً، وتأثيره يكون أكبر في حالة عدم استعماله، ما كان ينبغي استعماله أبدا.

 

قدمت الأمة العثمانية من أتراك وعرب تضحيات هائلة في الحرب العالمية الأولى، فقد سيق أبناؤها شباباً وشيباً لساحات القتال، ليكونوا 9 جيوش مشكلة من 63 فرقة، وخاضوا أغلب المعارك ببسالة واستماتة رغم التدريب المتواضع والتجهيزات الهزيلة، واستغرق المجهود الحربي أموال الأمة وأرزاقها وزراعتها، وانجلت الحرب عن وصول القوات البريطانية إلى استانبول، ونزول القوات اليونانية في الأناضول وهي تطمع أن تضم إليها المنطقة المحيطة بأزمير، وخسرت الدولة العثمانية الشام وفلسطين والعراق والحجاز، وكان للشريف الحسين بن علي وقواته دور هام في قتال الأتراك وتتبع فلولهم، وعلى الجبهة مع روسيا في الشمال الشرقي من الأناضول، هلك الجيش الثالث التركي الذي قاده أنور باشا بنفسه في المعارك، وكان يظن نفسه قائداً عسكرياً عظيماً ولكن الجنرال الألماني العظيم ليمان فون ساندرز كان يعتبره متبجحاً غير كفؤ!

 

وانحاز الأرمن في تلك المناطق وفي شرقي الأناضول إلى الروس، وقتلوا السكان الأتراك المسلمين في تلك المناطق، فلما عادت تلك المناطق إلى أيدي الأتراك كالوا لهم الصاع صاعين، وقرروا تهجير هذا الخطر الذي اندلع بين ظهرانيهم، وبخاصة أن تاريخ الدولة العثمانية مع الأرمن كان متميزاً في الاعتماد عليهم ومنحهم أعلى المناصب وأرقاها في الدولة، وهكذا جرى تهجير حوالي نصف مليون أرمني في ربيع سنة 1915 من شرقي الأناضول إلى بلاد الرافدين وسوريا ولبنان، وهي مآساة لا تزال أشباحها تحول بين تحسن العلاقات بين الأتراك وبين الأرمن، وهما الشعبين الذين تجاورا قروناً طويلة، ولعل الأرمن هم أكثر عنصر مسيحي اختلطت تاريخه وعاداته وثقافته بتلك لدى الأتراك، فترك بصماته الكثيرة عليها وتأثر بها في كافة مناحي حياته.

 

ولئن استاء الأتراك من أن يطعنهم الشريف حسين في ثورته من الحجاز، فقد كان من نتائج الحرب أن استاء العرب كذلك من الأتراك وحكومة الاتحاد والترقي، ففي إبان الحرب وفي سنة 1916 قام جمال باشا قائد الجيش الرابع الذي مقره دمشق بإعدام 20 من الشخصيات العربية كان كثير منهم أعضاء سابقين في جمعية تركيا الفتاة، وكانت جريرتهم الاتصال مع القنصلين البريطاني والفرنسي، وهي تهمة قد تكون صحيحة في ذاتها وخاطئة في استنتاجهها أن هؤلاء، أو أن بعضهم على الأقل، خونة ومتآمرون، فقد كان هؤلاء من كبار المفكرين والسياسيين العرب يدعون إلى اللامركزية، أو الحكم المحلي، ومن مهمة قناصل بريطانيا أو فرنسا سبر الرأي العام في البلدان التي يعملون فيها والتأثير عليه، ولعل الذنب الحقيقي لكثير منهم هو تأييدهم لحزب الحرية والائتلاف بعد أن تبينت سياسات التتريك في جمعية الاتحاد والترقي.

 

وكانت هناك في وسط هذه الغيوم المتلبدة أشعة شمس برزت ساطعة، وهي الانتصار الحاسم الذي حققته الجيوش العثمانية في معارك جناق قلعة والهزيمة المنكرة التي حلت بالحلفاء في شبه جزيرة غاليبولي، ورد هذا الانتصار الاعتبار لشرف الجندي العثماني، ذلك إن الهزيمة السريعة والكاملة التي حلت بالدولة العثمانية في الحرب البلقانية الأولى، واحتلال بلغاريا أدرنة، جعل الدول الأوربية تستصغر الجيش العثماني وتستخف به، وساورت الشكوك حول قدرات هذا الجيش حتى حلفاءه الألمان الذين دربوه وسلحوه، فلما ثبتت الجيوش العثمانية 11 شهراً أمام موجات الإنزال الحليف المتتالية، والتي تفوقت عليها في العدد والعدة، حتى أفشلتها وردتها خائبة، وكبدتها قرابة 220.000 قتيل، أثبت المقاتل العثماني أنه حقاً لا يقهر إذا توفرت لدى قواده إرادة القتال والتخطيط السليم.

 

ولنتصور ما الذي يمكن أن يحدث لو بقي الحكم في إطار الشورى وكانت قرارات الحكومة مبنية على آراء الخبراء لا أهواء المستبدين وخاضعة للمسائلة والتدقيق؟ ما من شك أن الحكومة العثمانية كانت ستلتزم الحياد ولن تدخل الحرب العالمية الأولى، وأن ثروتها البشرية والاقتصادية في تركيا والمقاطعات العربية ستبقى مزدهرة نامية، وسيبقى جيشها قوياً مهاباً يقوده آلاف الضباط المدربين خير تدريب، وستكون لها الكلمة الأقوى في الشرق الأوسط والبحر المتوسط، ولما كان المستعمر البريطاني والفرنسي يستطيع أن يبسط يده على العراق والشام وفلسطين، وربما...وربما... 

 

ولنختم حديثنا باستعراض حياة ومآل الباشوات الثلاثة أبطال هذا الانقلاب، أو جُنْاتِه إن شئت.

 

ولد إسماعيل أنور باشا في استانبول في سنة 1298=1881، وكان أحد مؤسسي جمعية تركيا الفتاة، وبرزت شهرته عندما شارك سنة 1911 في جيش الخلاص الذي قاده محمود شوكت باشا من سلانيك إلى استانبول ليقوم بإجبار السلطان عبد الحميد على الاستقالة، ثم لمع نجمه أكثر عندما ذهب إلى ليبيا بعد الغزو الإيطالي لتنظيم الدفاع عنها ومقاومة إيطاليا، كان أنور بك مسلماً متديناً، مختالاً فخوراً، جسوراً إلى حد المغامرة، مستهتراً لا يبالي بالعواقب، ولا يقيم وزناً لكبير ولا لقانون أو نظام، قام بالانقلاب ورقى نفسه من مقدم ركن إلى لواء دون أن يصبح عقيداً، وصار وزيرا للحربية وعمره 33 سنة، تزوج ابنة أخت السلطان محمد رشاد، فصار يلقب بالداماد؛ صهر السلطان، وكان لزوجته أثر محمود في كبح جماحه الذي لا يعرف الحدود. كان أنور ملحقاً عسكرياً في برلين برتبة رائد لفترة من الزمن وكان محل عطف من القيصر وليم الثاني فاقم في غروره وزاد من إعجابه بألمانيا التي كان يعتقد أنه ليست هناك قوة أخرى تستطيع هزيمة جيشها.

 

وبعد استسلام تركيا في نوفمبر 1918 واحتلال الحلفاء استانبول، هرب أنور إلى ألمانيا، وذهب بعد 6 أشهر في سنة 1919 إلى روسيا التي كان الشيوعيون يحكمونها منذ الثورة البلشفية في سنة 1917، وحاول هناك دون جدوى أن يحصل على مساعدة روسية لتغيير حكومة كمال أتاتورك بالقوة، ومن موسكو سافر إلى تركستان التي اندلعت فيها ثورة على الشيوعيين في سنة 1921 فما كان منه إلا انضم إلى الثوار ولقي حتفه  في سنة 1340=1922 وهو يقاتل الجيش الأحمر الروسي.

 

أما محمد طلعت باشا فولد في أدرنه سنة 1291= 1874، وعمل موظفاً في شركة البرقيات، ولكنه انخرط في العمل السياسي في جمعية تركيا الفتاة، ولما قامت حركة تركيا الفتاة في سنة 1908 صار مندوباً عن أدرنة في مجلس النواب، وبعدها في سنة 1909 وزيراً للداخلية، ثم أصبح الأمين العام لجمعية الاتحاد والترقي، وصار بعد الانقلاب وزير الداخلية والمسؤول عن كثير من المآسي التي حصلت في تلك الفترة ومنها تهجير الأرمن، وفي سنة 1917 تسنم طلعت باشا منصب رئيس الوزراء، ومع اقتراب نهاية الحرب العالمية الأولى هرب إلى ألمانيا قبل استسلام تركيا بقليل، ولقى حتفه في برلين في سنة 1921 على يد أحد الأرمن. كان طلعت ضعيف التدين قليل الثقافة قومي النزعة، وكان يتمتع بذكاء ومكر لا حدود له، خشن الطباع له قسوة لا تعرف الرحمة.

 

أما جمال باشا فولد في استانبول سنة 1289=1872 ودخل في سلك العسكرية وانضم وهو ضابط إلى جمعية الاتحاد والترقي، وأصبح من كبار قادة الجيش بعد حركة 1908، وصار والياً على بلاد الشام بعد اندلاع الحرب، ولم يفلح في هجماته في غزو مصر والاستيلاء على قناة السويس، ولقبّه العرب بالسفاح لأعدامه عدداً من الشخصيات العربية بتهمة الخيانة، وبعد انتهاء الحرب بقي جمال باشا في تركيا يعمل مع الحكومة الجديدة، ولقي مصرعه في تبليسي في جورجيا في سنة 1922 على يد أحد الأرمن. كان جمال باشا معجباً بفرنسا يود لو أمكن التفاهم معها، ومن ثم مع بريطانيا، فلا تدخل تركيا الحرب العالمية بجانب ألمانيا، ولكن لندن وباريس المتحالفتين لم تظهرا اهتماماً بعقد اتفاق كهذا.

 

نشر السيد محمد رشيد رضا في مجلة المنار أنباء الانقلاب ثم نشر هذه الكلمات لكاتب شهد الانقلاب بنفسه، ولعله الأمير شكيب أرسلان:

 

 أكتب إليكم، وأنا أشهد بعيني وأسمع بأذني كيف تكون مصارع الدول، وكيف تُخط مضاجع الأمم، وكيف يفتِك العلمُ بالجهل، وتستولي النباهة على الخمول، وكيف تنشب القوة مخالبها في الضعف فتمزق أشلاءه، وكيف يتضاءل المقصرون أمام السابقين، ويتصاغر المهملون لصولة العاملين، أشهد كيف يحتفر الجاهل قبره بيده، ويهدم قصره بفأسه ومعوله، حتى لا يترك للعدو سبيلاً إلى العناء.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين