انطباعاتي عن رواية يسمعون حسيسها لأيمن العتوم

 

كتب الكثيرون عن رواية( يسمعون حسيسها ) للكاتب المبدع أيمن العتوم… وسيكتبون… ومن حقي أن أكتب… وأصف مشاعري... وأسطر انطباعي عن هذه الراوية التي عايشتها خمسة أيام بلياليها… وقرأتها على فترات متقطعة فيها بحكم انشغالاتي الكثيرة… 

وبرغم انصرافي عنها مرغماً لساعات في تلك الأيام إلا أن الأحداث وتلاحقها وبراعة تصويرها وبيان كاتبها العالي أشياءٌ كانت تستدعيني للعودة إليها بسرعة وتقليب صفحاتها كمُشاهد تسمّر أمام شاشة كبيرة يتابع فيلماً مثيراً يلهب الأحاسيس، ويبعث مشاعر الإنسانية من رقدتها، ويفيض عليها لمسة حنان، وينفحها بنفحة سعادة فتسعد. 

لقد امتازت هذه الرواية بتصوير دقيق، وتحليل عميق لأحداث الإجرام ووسائل التعذيب التي كان يمارسها المجرمون وأولاد الحرام على المعتقلين الذين كان جلهم برآء مما نسب إليهم من تهمة الأخونة، ولكنهم اقتيدوا إلى السجن على مبدأ الأخذ بالتهمة حتى تصلح الأمة – حسب ما كان يزعم المجرمون-  .

لقد كانت أدوات التعذيب في سجن تدمر مريعة، ووسائل القتل والقهر لا تخطر على بال الجن والإنس ولو اجتمعوا لها… فمن الحرمان من الطعام والشراب إلى المنع من النوم لأيام… ومن قطع الشمس والهواء والكهرباء عن الإنسان… والدفع إلى الأمراض والأوبئة ، والتخلية بينها وبين المعذبين… ومن حشر الأعداد الكبيرة في مساحات ضيقة ومهاجع صغيرة… إلى الإعدامات العشوائية ... ثم دفن الجثث في مقابر جماعية... أو رميهم الى السباع والوحوش للاغتذاء بها حيناً من الدهر بانتظار قدوم دفعة جديدة من لحوم البشر… وفوق كل هذا وذاك ضرب وشتم ، وسب وقذف ، وإهانة ، وكفر بالله ، وتأليه للزعيم… 

هذه رؤوس أقلام وعناوين عريضة ذكر تحتها الكاتب صنوفاً من العذاب وألواناً من الأذى، يندى لها جبين الإنسانية وتقشعر أبدان البشر ..

ما قرأها قارئ إلا ثار سؤال في داخله : أهؤلاء بشر !!?? أهؤلاء مسلمون ??!!  

كيف كانت تطيب أنفسهم بتعذيب أبناء جلدتهم… وكيف كان يلذ لهم طعام أو يغمض لهم جفن بعد كل هذا العذاب… 

كيفَ يرضيكَ على الضّيم المقامُ  *    ويُواتيكَ على الذلِّ المنامُ

كيفَ أَغضَيتَ وفي العين قَذيً    *  كيفَ يغذوك شَرابٌ وطَعامُ

أيُّ نَفْسٍ حُرّةٍ أذلَلْتَها    *  لحُطامٍ إنّما الدّنيا حُطامُ

كم نفوسٍ قد أهانوا حُرّةٍ  *    هُنّ تبرٌ وسواهنّ رغامُ

 

وهل فكروا يوماً فيما اذا استوقفهم الله تعالى في القيامة لينتصف لضحاياهم منهم… ماذا سيقولون لامرأة أخذوا زوجها فما رجع…أو رجع وقد تزوجت غيره…  وبماذا يردون على ابن كان يدور في أرجاء البيت يصيح ( بابا ) فلا يرد عليه إلا الصدى… كيف سينظرون في وجه أم ثكلى رحلت الى الآخرة بعد أن يأست من رجوع ابنها إليها... أين سيخبؤون وجوههم من أب سلبوه فلذة كبده وتركوه نهب الحزن وضجيع الأسى… 

ألا ويل للظالم من المظلوم ...

ماذا تقول إذا سُئِلْتَ مُحاسباً  *    والظالمونُ على شفا سجِّين

بعد قراءتي الرواية طرحت على نفسي الأسيلة التالية : 

ترى كم سجين ابتلعته صحراء تدمر… وتغذت على لحمه سباعها الضواري…

ترى كم من نزيل في أقبية المخابرات وحبيس في سجون متفرقة لا تقل عن سجن تدمر فظاعة وبشاعة ورهبة وألماً.

كم من شيخ مضى الى الخلود ومعه صور من أهوال ذاقها ... ما قدر على حكايتها للأجيال ليعلموا أي ظلم كان يقع عليهم …

كم من طليق خرج الى فضاء الحرية بعد أن اعتذروا له وامتنوا عليه بعفو متأخر لا يستطيع أن ينبس ببنت شفة خشية أن يرجعوه الى حيث أتى. 

ثمة في زوايا السرد وبين تلافيف أحداث الرواية شخصيات تجبرك على أن تحترمها وترفع لها القبعة تقديراً… رجال حولوا دائرة السجن الضيقة إلى ميدان للمعرفة ... وساحة رحبة للعلوم والثقافات المتنوعة ..حفظوا القرآن ونهلوا من آداب العرب وعلومها، ونقلوا معارفهم إلى الآخرين… لقد كان السجن بمثابة جامعة لهم… لكن شتان بين خِرِّيج وخريج. 

ثمة أناس دخلوا السجن فاسدين…  وخرجوا منه دعاة مصلحين مخلصين…فكان سجنهم مصيبة على أعدائهم من حيث ظنوا أنهم مانعوهم من دينهم ... وقد قيل : من مأمنه يؤتى الحذر ... 

وأناس عرفوا ربهم حق المعرفة… فدنوا منه أكثر… وتعلقوا به إلى أن أدناهم منه واصطفاهم لحظيرة قدسه… فورثوا المرتبة اليوسفية… ولسان حالهم يقول:  

إنّما الدنيا منامٌ والمنُى  *    حلمٌ والنّاسُ في الدنيا نيامُ

في ذاك السجن كان للإسلاميين قسط وافر من العذاب ، وحظ كبير لا يفارقهم ليلهم ونهارهم… في حين أن الشيوعيين والاشتراكيين كانوا مدللين… يأتيهم رزقهم بكرة وعشياً… بل أكثر من ذلك… لقد كانوا مرفهين… فهم يقرؤون ويكتبون ويؤلفون… وكأنهم في سجون أوروبا… 

في النهاية يحسب للكاتب أسلوبه الآسر وطريقته المؤثرة في جلب متابعة القارئ واستدعاء تركيزه واسترعاء انتباهه… ويقدر له حضور المعجم القرآني والديني في كتاباته وعرضه للأحداث…  ناهيك عن تفاعله هو بما جرى هناك وكأنه كان السجينَ والنعذب والمقتول والطليق… 

 

لكن لي سؤال لا أظنني سأجد له جواباً … لماذا يا ترى لم تترك داعش ذلك السجن الرهيب على قيد البقاء فجعلته حصيداً كأن لم يغن بالأمس… ماذا لو تركوه لتدخله المنظمات الحقوقية بكاميراتها وصحفييها… فتنتج عنه أفلاماً… وتخرج فيه كتباً وروايات… أم أن وراء الأكمة من وراءها !!!

ختاما أسأل الله ألا يسلم جسد مؤمن لظالم يفعل به ما فعل أبو نذير بضحاياه… إنه سميع قريب.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين