انتصار السلمية أم غلبة السلاح

بقلم الشيخ : نور الدين قرة علي

عندما لمعت سيوف القادسية ، فإنها لا تزال حتى الآن تلمع فوق رؤوس المتغلبين مجدا ، وفوق رؤوس المغلوبين قهرا ، وهكذا عندما يتدخل السيف لفصل الأمور بين حق وباطل ، وظالم ومظلوم ،
إن أمر السيف عندما يُستدعى لهذا الفصل ، يحتاج إلى دقة معايير ، وتداخل ضوابط ، يجتمع بعضها إلى بعض ، فهناك الضوابط الواقعية ، والتقادير الشرعية ، والمشاعر الإنسانية ، هناك واقع وشريعة ، ومصالح ومفاسد ، ومشاعر ونوازع ، وعلاقات وروابط ، ومن هذه كلها توازنات لا بد من مراعاة نسبها بكل دقة ، وترابطات لا بد من عقد أواصرها بأعلى درجات المسئولية ،
ولهذا فإن ديننا العظيم من خلال تكريمه للنوع الإنساني في الوجود ، باعتباره الكائن الوحيد الذي تتمركز فيه تجليات أسماء الله الحسنى ، قوة وعلما ، ورحمة وحلما ، وجبروتا وعزا ، وعطاءً ومنعاً ، وإرادة وقوة .. وإلى غير ذلك مما لا مجال لحصره ، فإن تشريع رب العالمين قد سطر من الأحكام - في مجالات فصل الخصومات ، وفض المنازعات ، والدفاع عن الحقوق الأساسية والفرعية – ما يُلزم أتباعه أن يتحروا في مواقفهم وقت تطبيقها ، بما يحقق الحفاظ على أعظم الخصائص الإنسانية التي منحهم الله إياها ، تكريما لشأنهم ، وتنظيما لدورهم في في هذه الحياة ،
 بل جعل هذه التشريعات مهما اشتدت في تطبيقها ، ألا تكون ضربتها إلا لبناء الحياة الإنسانية الكريمة وتدعيم أركانها ، وألا يكون جَلدُها إلا لإيقاظ أكرم المعاني في نفوس مخالفيها ، وأن لا يكون قطعها إلا من أجل شد وتقوية اللُّحمة الإنسانية فيما بينها ، وألا يقوم قصاص إلا من أجل حياة ، وألا تُعلن حرب إلا من أجل كرامة وحرية ، وألا يُرفع سوط أو سيف إلا من أجل حماية أعظم الحقوق الإنسانية ، وفتح السُّبُل لسير القافلة البشرية ، وإزالة كل العوائق أمام موكب المحبة والعدالة ، الذي يضم الخلق جميعا على صراط السواء ، ولهذا جاء التشريع الإسلامي العظيم ،
ولكن .. كانت مثالية الإسلام تؤكد دائماعلى دفع الإساءات بالمصابرات ، وأعلنت عدم التساوي بين الحسنة والسيئة ، وأمرت بأن ندفع بالتي هي أحسن ، وضمنت بذلك تبشيرا بأن هذا السبيل يقلب العدو إلى صديق حميم وولي كريم ، وأن هذا هو الحظ العظيم الذي ينبغي أن يصابر المسلم مشاعره لأجل الوصول إليه ونيله في كل مواقفه مع خصومه ،
كما قررت الشريعة بأن التنازع فشل ، وأن الصلح خير ، وأن الجنوح إلى السلم دائما مطلوب ، طالما توفر الصدق في ذلك لدى الآخرين ، وأن الحدود تُدفع بالشبهات ، وأن إساءة الظن حركة سلبية في النفوس يجب أن تُدفع بالتماس الأعذار ، وأن التربية الربانية تقوم على توسيع آماد التوبة بالتذكير والتربية ، وأن الله يبسط يديه بالليل ليتوب مسيء النهار ، ويبسط يديه بالنهار ليتوب مسيء الليل ، أي أن الفرصة لا يُغلق بابها ، ولا يُردّ خيرها عن طلابها ، وأنه لا يُقام حد إلا بعد البحث عن ألف شبهة تدفعه ، وإعطاء ألف فرصة للهروب منه ، إلى أن يفتح باب الهروب ليلا ونهارا .. فهلا تركتموه فعسى أن يتوب ..
ولقد كا ن السيف يُطلب امتشاقه من قبل المسيء ، والحاكم يدفعه إلى جرابه مؤجلا موعد البث في مسألة العقوبة ، إلى زمن الوضع من بعد حمل ، والرضاع من بعد وضع ، وإلى الفطام من بعد رضاع ، والمتهم بين هذا وذاك يطلب السيف ان ينال الحياة ، والإسلام يدفع السيف إلى غمده ليعطي الحياة ،
وها هو الدين يتمكن من القصاص من مخالفيه والمعتدين على شرعه ، والمستكبرين على أتباعه ، وبعد أن ألحقوا أشد الأذى ، وبكل أنواع الأذى ، ليقول لهم في لحظة التمكن والظفر – بعد أن استنطق رأيهم في مصيرهم وقالوا أخ كريم ، أي شرع كريم ودين قويم – فقال : اذهبوا فأنتم الطلقاء ...                         ولو كان أخ قوم لقتل القوم بسيف القرابة ، ولكن كان رسول قوم فأطلق الإنسان إلى ساحة الكرامة ،
أيها الأحبة ، نقول هذا ولا نريد أن نسهب فيه ، لنذكر بأن بوارق سيوف القادسية لا تزال تحرك خصوم القادسية بذكراها ، لأن للسيف مع إقامة العدل بريقا يشوّش رؤية هذه العدالة ، ويُذكر بمرارات الهزيمة أمام هتاف الآخر بالتفوق ، ويتحول نصر المبادئ في النفوس أحيانا إلى الشعور بالغلبة ،
وفرق بين المبادئ تعلو نصرا ، وبين الجموع تتغلب قوة وعددا ، وها هي شعوب تمثل قارة في شرق آسيا عندما دخلت الشريعة من باب الدعوة ، فإنها تتلألأ في نفوس المؤمنين هناك بكل أنوارها .. نعيما وحمدا ، وتزداد بالشكر تقدما ومجدا ،
وإننا نطلب اليوم من شبابنا أن يثبتوا وبعزم في ساحات مطالباتهم السلمية ، يرفعون هامات عزتهم دون أن يتلمظوا لرفع بريق سيوفهم ، فدعوتهم للحق والمطالبة بالكرامة والحرية ستحقق لهم نصرا ، ويكونون به للعالمين قدوة ، وأن لا يستجيبوا للمحرضات التي تريد أن تدفعهم لحمل السلاح في هذه المعركة ليكون الأمر غلبة لا نصرا ،
فإن الغالب في ساحة السيف قد لا يكون المنتصر ، بل وكم مرة كان المغلوب في التاريخ هو سيد المنتصرين،
نعم فكروا وتدبروا وتأملوا وافقهوا ، فالفرق كبير بين الغلبة والنصر ، ففي النصر قد يكون المقتول هو المنتصر ، وفي ميدان المبادئ قد يكون الغالب هو القاتل ، واسمعوا ما سطره قرآنكم عن غلام مثلكم من شباب الانتفاضة على الظلم ، والذود عن الحرية والمبادئ ، كيف تحير الطاغية في عملية مجابهته ، فاستخدم الجند والشبيحة لتلقي بالثورة من أعلى الجبال الشاهقة ، فهوت قائمة على أقدام مصابرتها ، ثم القاها في بحار الدعاية والإعلام ليمزق شأنها ، فخرجت من الأمواج قائمة البنيان ،
ثم نادته بصوت قيادتها الثابتة على المقاومة السلمية ، أتريد هزيمتنا ، أتريد قتلنا بسلاحك أيها الجبان ، نحن ندلك على ذلك ، احمل سهمك ، اي أشرع سلاحك ، نعم .. إنها الحنكة وإنها روعة الإدارة للمعركة ،
أشهر سيفك ، وأخرج الدبابات من جحورها ، وأرسل طائراتك في سماء عزتنا ، وادفع بكتائب المُستَعبدين تطاردنا ، في حمص ، والرستن ، وحماه ، ودرعا ، وإدلب ، و...... ،
ووَجِّه الأمر إلى المفتي الأعظم ، والبوق المعمم ، والنائب صغير العقل واللحية ، وليقرؤوا لك تعاويذ المعركة المخزية ، وليوجهوا كل النداءات حتى تتراجع إلى الخلف باسم رب الغلام ،
 فإن تحققت حياتنا باستشهادنا ، ولئن اجتمعت لقيام كمالنا في الجنة أشلاؤنا ، ولئن حُفرت الأخاديد قبورا جماعية لدفن جموعنا المتراصة ، رجالا ونساء واطفالا ، شيبا وشبانا ، ولئن وقفت مزهوا بجندك وشيوخك وحزبك وجموعك ، فإننا نسمع من ربنا أنك أنت القاتل وأنك أنت الظالم ، ونحن الأحياء لأننا الأحرار ،
وإذا ما أراد شيوخك أن يقرؤوا علينا فإنهم سيرددون " قُتل أصحاب الأخدود.... " أي سيرتد دعاء بلعام بن باعوراء - حسون الزمان - في حلقه ، ليُعلن على العالمين بأن الذي مات هو النظام ، وأن الذي سقط هو النظام ، وأن القاتل هو النظام ، وأن المغلوب هو المنتصر ، وأن الهزيمة لمن ظن نفسه بأنه دمر المدن ، وملأ السجون ، ومزق الزيانب ، وقطع أعضاء الشباب ، وأغلق المساجد ، وضرب رؤوس العلماء ، وأجبر الشيخ الصياصنة الشيخ المهيب على الاعتذار ، وأخرج طالب ابراهيم ليتحدى الله ، وحرك علماء السوء لتمجد حزب السفهاء ،
أيها الشباب .. ليكن ما ينقموه منا أننا آمنا بالله وطالبنا بالحرية وأردناها حياة كريمة ، لينقموا منا صدورنا المكشوفة وهتافاتنا الصادقة وحناجرنا التي تشق الفضاء ،
لينقموا منا خروج أطفالنا وفتياننا وفتياتنا وحرائر نسائنا يهتفن للمجد ، للبطولة ، للعزة ، للكرامة ، وليكن أمضى سلاح نجابه به هو أن نترك كل سلاح خلف ظهورنا ، ونستقبل انهزام سلاحهم وهو يدك مدينتنا ،فسقوط الملك والسلطان والقوة والعتاد هو عندما تحتل كل حي ، وكل مسجد ، وكل قرية في البلاد وبين العباد ،
      " وهم على ما يفعلون بالمؤمنين شهود ، وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد "

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين