اليرموك والروم الجدد

 
د. أحمد نوفل

1- في التاريخ فكرة ومنهاج
تحت العنوان الفرعي هذا قال الأستاذ سيد قطب في الكتيب الذي يحمل العنوان ذاته قال: "التاريخ ليس هو الحوادث، إنما هو تفسير هذه الحوادث، واهتداء إلى الروابط الظاهرة والخفية التي تجمع بين شتاتها، وتجعل منها وحدة متماسكة الحلقات، متفاعلة الجزئيات، ممتدة مع الزمن والبيئة امتداد الكائن الحي في الزمان والمكان.
ولكي يفهم الإنسان الحادثة ويفسرها، ويربطها بما قبلها وما تلاها، ينبغي أن يكون لديه الاستعداد لإدراك مقومات النفس البشرية جميعها: روحية وفكرية وحيوية. ومقومات الحياة البشرية جميعها: معنوية ومادية. وأن يفتح روحه وفكره وحسه للحادثة ويستجيب لوقوعها في مداركه، ولا يرفض شيئاً من استجاباته لها إلا بعد تحرج وتمحيص ونقد".
افتتحت الحلقة بهذه الكلمة من سيد سادات الكلمة لنعرف ما المعجزة التي صنعها القرآن المعجز في نفوس هؤلاء، إذ حولهم طاقة لا يقف لها شيء وكأنما هم أقدار تعصف بالأشجار الهرمة المسوسة والحضارات المنخورة، فإذا هي "أعجاز نخل خاوية" من صنع من هذه القلة ذات الإمكانات المادية المحدودة تجتاح كالسيل حضارات عريقة عتيقة مدججة بالسلاح، مجهزة بالعتاد، معدة للأمر أهبته من جند وقلاع، وإذ بها تتهاوى تحت ضرباتهم التي لا يصمد لها بإذن الله شيء. هذه بعض عبرتنا من.. اليرموك.
2- اليرموك وصراع الحضارات
لسنا نبالغ إن قلنا إن معركة اليرموك ليست حاسمة فحسب، وإنما هي معركة أزاحت حضارة وأحلت محلها حضارة إنسانية أصلح للحياة وللإنسانية.. هي الحضارة الإسلامية. لقد تحررت بلاد الشام من نير استعمار روماني أدخل المنطقة في دين تلك الحضارة، بعد أن تولت الحضارة الرومانية "توثين" الدين المسيحي وتحويله من دين توحيد إلى دين وثني. يعظم عبادة الشمس ويومها الأحد "سن داي". وما يوم مولد المسيح إلا يوم من أيام الأعياد الرومانية الوثنية يوم الخصوبة أو أي شيء من هذا القبيل. ألبسوه ثوباً دينياً وزعموه يوم المسيح وهكذا توثنت الديانة، وما "تمسّحت" الحضارة..
فجاء الإسلام في حركته التاريخية الحضارية الاجتماعية الثقافية الفكرية الأخلاقية القيمية فأحل قيماً محل قيم، وأمماً محل أمم. والأرض لله يورثها من يشاء. وصاحب الأمر يولي من هو الأصلح لإدارة أمور الخلق. فاليرموك إذاً ليست مجرد معركة، إنها معركة غيرت مجرى نهر التاريخ عند نهر صغير اسمه نهر اليرموك هو فرع من فروع نهر صغير هو نهر الأردن.
العجيب أن تاريخ العالم وتوقف مدّ حضارات أو انطلاق مدّ حضارات أخرى كل ذلك كان يحدث أو يصنع في هذه المنطقة.. التي أصبحت الآن مجرد منفعل بما يدور في المحيط.. ولا تملك أي فعل أو رد فعل.. "وتلك الأيام" إنها معركة اليرموك.. إن صوت صهيل خيل خالد ما يزال صداه في أودية اليرموك يتردد وفي سمع الزمان أغنية تغنى وتغرّد، ونشيداً ينشد. عسى تعود أيام لنا كانت.. وتتجدد. فنحن الذين في اليرموك نحينا جانباً وأنهينا حضارة عريقة معمرة هي الحضارة الرومانية.
3- الروم في القرآن
توقفت ملياً وطويلاً عند وجود سورة للروم في القرآن. (ما من سورة عن الفرس مثلاً وهم حضارة ند لحضارة الروم، والأمور بينهم كانت سجالاً. وتفسيري الضعيف لهذا أن الروم كانوا هم الأقوى. ثم إن الروم يمكن أن تفهم على أنها كل من سوى الأمة المسلمة. وثالثاً: بقي الروم على ديانتهم النصرانية في الظاهر ووثنيتهم في الباطن ولم يدخلوا كأمة في الإسلام. رابعاً: إن الفرس كأمه قد دخلوا في مظلة أو تحت مظلة الأمة الإسلامية، بقطع النظر عن مدى التطبيق والالتزام أو الانحراف والتآمر. وخامساً: إن الحضارة الرومانية هي التي نسلت وأنجبت الحضارة المادية الغربية التي واصلت حكم العالم والهيمنة على مقدراته.. واستمر الصراع بين الأمة المسلمة والروم الجدد. وما الصهيونية ودولتها إسرائيل إلا فرع خبيث من شجرة خبيثة.) وقد حاولت تفسير هذه المسألة لنفسي ثم لأنقل هذا لغيري.. فإن وافق صواباً فيها، وإن كانت الأخرى فليس مستغرباً الشيء من معدنه.
وإني ببساطة أرى أن مواصفات الحضارة الغربية قد جلّتها سورة الروم. وفي الإشارت القرآنية تتضح هذه السمات. فقد أبرزت سورة الروم سمات مشتركة بين الروم القدامى والروم الجدد (أعني حضارة الغرب) ويمكن أن ألخصها في النقاط والمعطيات التالية:
1- الشرك والوثنية؛ فحضارتهم القديمة والحديثة روحها -إن جاز التعبير- الوثنية والشرك والصنمية والمادية: "ولم يكن لهم من شركائهم شفعاء وكانوا بشركائهم كافرين" 13 "هل من شركائكم من يفعل من ذلكم من شيء سبحانه وتعالى عما يشركون" 40 والآيات 28، 35.. الخ. فالسورة ركزت على التوحيد، والنقيض وهو الشرك وبينت أن لا أسس له.. وأنه منهار في الدنيا والآخرة.
2- نسيان الآخرة أو جحدها: "وهم عن الآخرة هم غافلون" 7 "وإن كثيراً من الناس بلقاء ربهم لكافرون" 8 ثم آية 11، 12، 14.. الخ ونسيان الآخرة مصدر أعظم الشرور في حضارة الشر المعاصرة. والمظالم والمادية وروح الاستعمار والاستغلال والغرور وسفك الدماء كلها ثمرات مرة لنسيان الآخرة والغفلة عنها.
3- الإعراض عن آيات الله "ثم كان عاقبة الذين أساءوا السوءى أن كذبوا بآيات الله وكانوا بها يستهزئون" 10 ولذا فإن أكثر سورة فيها "ومن آياته" هذه السورة فقد وردت هذه الصيغة 7مرات وأما "الآيات" بتصريفاتها المختلفة فقد وردت (15) مرة. والعجيب أن "الروم" الجدد هم الذين يكشفون الآيات وهم أبعد الناس عن الانتفاع بها. وأعني بالآيات آيات الكون. إنهم لا يرون يد الله وقدرة الله وحكمة الله ورحمته وراء الآيات. فيقفون عند الظاهر والجانب النفعي البراجماتي.
4- الاغترار ربما عندهم من العلم: "يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون" 7 "بل اتبع الذين ظلموا أهواءهم بغير علم" 29 "فسوف تعلمون" 34 "وقال الذين أوتوا العلم والإيمان"56 "كذلك يطبع الله على قلوب الذين لا يعلمون" 59. والعلم الحق أعظم ركائز الحضارة الراشدة، والعلم بمعنى المعرفة دون قيم وراء شرور الحضارة الفاسدة المعاصرة والغابرة.
5- مقاومة الفطرة ومعاندتها: ما من سورة ذكرت الفطرة بهذا اللفظ الصريح إلا هذه السورة. وما من سورة تكرر فيها "فأقم وجهك.." إلا هي. وما معنى أن ترد الفطرة في سورة الروم وإذا تأملت حضارة الروم الجدد تجد من أبرز سماتها معاكسة اتجاه الفطرة. فالفطرة إيمان وحضارتهم إلحاد. والفطرة ستر وحضارتهم عري. والفطرة رحمة وحضارتهم عنف، والفطرة نظام الزوجية وحضارتهم شذوذ..الخ.
6- ظهور الفساد في البر والبحر. جاء في السورة: "ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون"41 ما من زمان تجلى فيه أثر الإنسان في تدمير النظام البيئي الكوني كما تجلى في هذا الزمان. والجديد أن الإنسان بدأ يعي المخاطر التي تحيط وتحيق به. وإن نمط الحضارة هو المتسبب في هذا الفساد، وهم يحذرون العالم من ظاهرة الاحتباس الحراري وهم سببها وصناعها. ووراء كل ذلك ماديتهم التي أنتجت حضارة الاستهلاك التي استهلكت موارد الطبيعة وتسببت في الاستعمار ودمار البيئات وفساد البر والبحر.
7- حضارة عماد اقتصادها على الربا. فما من سورة مكية ذكرت الربا عدا هذه السورة: "وما آتيتم من ربا ليربوا في أموال الناس فلا يربوا عند الله" 39
8- سرعة التقلب النفسي أو الانقلاب والتحول من حال إلى حال، أو ما أسميه: الهشاشة النفسية. "فإذا أصاب به من يشاء من عباده إذا هم يستبشرون. وإن كانوا من قبل أن ينزل عليهم من قبله لمبلسين" 48- 49 "ولئن أرسلنا ريحاً فرأوه مصفراً لظلوا من بعده يكفرون"51. وإن من سمات العصر وحضارتهم هذه الأمراض النفسية التي تضرب أفرادهم ومجتمعاتهم فلا يكاد ينجو منها إلا قلة قليلة. وأغلى الطب الطب النفسي وأكثر العيادات ازدحاماً في الحجوزات عيادات الطب النفسي. إن المرض النفسي ثمرة طبيعية لهذه الحضارة التي فصلت الإنسان عن مصدر القوة والأمن والطمأنينة، "ألا بذكر الله تطمئن القلوب" فأنى يهدؤون؟!
9- سرعة نهوضهم من عثراتهم كما يذكر ابن خلدون في المقدمة، ولعله يوافق ما أشارت إليه السورة: "غلبت الروم في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون في بضع سنين".
ولاحظ أولاً أن السورة مكية والأمة الإسلامية ما زالت جنيناً في رحم المجتمع الجاهلي، ومع هذا تعلمهم السورة أن يكون لهم موقف من الأحداث الدائرة في العالم ولا يكونوا في موقف ولا في موقع المتفرج وإن كانوا مستضعفين الآن.
وثانياً: إن السورة تعلمنا الاستشراف المستقبلي والنظرة المستقبلية، لأن الارتهان للحظة الضعف الواقعية الحالية أساس البلاء والاستسلام لموازين القوى المختلة.
وثالثاً: بينما السورة تحدثنا عن نصر للروم في أول السورة لم تذكره صريحاً لهم وتركته يفهم تلميحاً وتلويحاً وتضميناً، لكنها كلمتنا في أواخر السورة عن نصر صريح للمؤمنين: "وكان حقاً علينا نصر المؤمنين"47
ورابعاً: "أدنى الأرض" هي منطقتنا. وسواء كانت الكلمة تقصد القرب أو النزول عن سطح البحر كما يقال فهي منطقتنا. والأدنى الأقرب والقرب مقصده أي من مكان قياس الأحداث وهو مكة، لقد أصبحت مكة بنزول القرآن فيها مركز الحساب والقياس ونقطة الارتكاز في المساحة. فالأدنى أو "الأقصى" نسبي كما هو معلوم. والمنسوب إليه هو مكة ومسجدها.
وخامساً: "في بضع سنين" هي تسع سنين كما كان الواقع، وكما هي كلمة بضع في اللغة من 3-9، وكما في بعض الأحاديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للصدّيق أن يأخذ أعلى الأجلين في كلمة "بضع" (النص بمعناه)
ولاحظ هذه الإشارات القرآنية وسمها لطائف إن شئت، ولا تأخذ بها إن شئت فما عليك ولا علينا من بأس: "في بضع سنين" 9 حروف. "سورة الروم" 9 حروف، "غلبت الروم" 9 حروف، "أدنى الأرض" 9 حروف، علماً بأن رقم سورة الروم 30 وعدد آياتها 60 والمجموع 90. فتأمل.
ولاحظ كذلك أن السورة السابقة لسورة الروم هي سورة العنكبوت، كأنه يقول لك: إن حضارة الروم هي بيت العنكبوت "وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت.. لو كانوا يعلمون" وسورة العنكبوت تزيد على سورة الروم 9 آيات.
ولاحظ أيضاً أن الجزء الحادي والعشرين الذي يضم سورة الروم يبتدئ من قوله تعالى في سورة العنكبوت: "ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي أحسن". وأهل الكتاب مبدئياً وأساساً هم الروم، سواء كانوا الروم الكاثوليك أو الروم الأرثوذكس أو الروم العلمانيين أو الروم القدامى أو الروم الجدد. ثم تكلم السياق بعد ذلك عن هذا القرآن وإنه الآيات لمن سأل عن الآيات.
والعجيب أيضاً وأيضاً موقع السورة في الجزء الحادي والعشرين، وإني لا أقول أتنبأ، معاذ الله، وإنما أستشرف أن يكون في القرن الحادي والعشرين نهاية هذه الحضارة كتفوق وسيطرة وتبقى كوجود في حالة همود.. إن الجذوة آيلة إلى الانطفاء والشعلة صائرة إلى خمود.
وأعتقد أن جزءاً كبيراً من ذلك الانطفاء بسبب سيطرة اليهود، ودفعهم الحضارة الغربية إلى الاصطدام بالحضارة الإسلامية صراع الحضارات لصموئيل هنتنغتون نموذجاً وتنظيراً. والعراق وأفغانستان عملاً، وهي أي الحضارة الإسلامية في القرن العشرين والحادي والعشرين وحتى ما قبلهما هي الرجل المريض، ولكن هذا الرجل المريض يشاء الله أن يسقط هذه الحضارة الغربية لا في حالة عافيته، ولكن في حالة مرضه ليقول لك إنك في عافيتك لا يليق بك أن تكون عامل سقوط حضارات، ولكن أن تكون عامل بناء حضارة بديلة ترث هذه الحضارة الهزيلة. حضارة رحمة وإنسانية بدل هذه الحضارة المتبلدة المتجمدة المتحجرة المشاعر العارية من القيم والفضائل.
هذه بعض إيحاءات معركة اليرموك. والمدهش أن المنازلة مع "الدجال" الذي هو فيما يعتقد كثيرون سليل هذه الحضارة ورمزها، وهو يهودي المعتقد كما تقول الأحاديث والآثار الكثيرة.. وهم الذين يسيطرون على الحضارة الغربية على كل حال.. أقول: العجيب أن المنازلة الكبرى ستكون عند "فيق" في الجولان وهي قريبة جداً من اليرموك في إشارة إلى أن التاريخ يعيد نفسه.. وإلى أن هذه الأمة حية لن تموت.. ولعلها تكون إحدى البشارات بأن هذه الأمة ماضية في تحقيق الغايات، لا تحدها ولا تعوقها العقبات.. وكم في اليرموك من العبر والدروس والدلالات!
ففي اليرموك نهاية الحضارة الرومانية وبدء الأمة الإسلامية العالمية، وفي اليرموك نهاية الحضارة الغربية وارثة الحضارة الرومانية.
المصدر: السبيل

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين