اليأس من الناس

 

 

(ما بسَقَت أغصان ذُل إلا على بذور طَمع)

الإنسانُ يكون في أشرف أحواله عندما يتبتَّل إلى الله تعالى، فلا يرجو إلا جداه ولا يؤمِّل فيما سواه.  هذه الحالة تقوم على إدراك عقلي سديد لطبائع الأمور، فماذا يرجو الفقير من فقير مثله، وماذا يبغي العاجز من عاجز مثله.

إنَّ المسلك الرشيد الوحيد أن لا يقف المرء سائلاً إلا بباب الله القوي الغني، أما أن يتولَّد في نفسه رجاء عند ذي جاه من الخلق، فهذا هو الحُمق، وما أحسنَ قول الشاعر: 

ولي بالله إيمان وثيق       فعن لكم بإيمان وثيق؟ 

قويت به فما أعيا بعبء   ولا أشكو عثارا في طريق 

ولا أخشى المضرة من عدو       ولا أرجو المبرة من صديق 

وما طمعك في بشر لو اعتَدَتْ عليه ذبابةٌ لم يستطع الانتصار منها؟ إنَّ جرثومة مرض ما - وهي أقل وأضأل من الذبابة - تسلب الجبَّار من الخلق صِحَّته، فيحارُ كيف يستردها منها؟. 

وصدق الله العظيم إذ يقول: [يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالمَطْلُوبُ] {الحج:73}.

والغريب أنَّ الطمع في العبيد خالطَ ألوف القلوب فأفسدها. هذا عالم يتكلم بصوت خفيض وطرف كسير مع الحكام الجائرين، ولو شاء لرفع صوته كالرعد، ولكنه يهمس حيناً ويخرس أحياناً؛ لأن بذور الطمع نَمَت في نفسه فأذلته.

إنَّ تطلعه إلى ما يملك فلان من مال، وإلى ما يهب فلان من جاه جعله يَلين وينكسر وينكمش، ولو أنَّه يئس من عطاء الخلق، وأَنِسَ بعطاء الخالق، لكان أعزَّ نفساً وأعلى رأساً، وكم من أناس أزرى بهم طمع في هذا وأمل في ذاك. وكم من حقوق طُمست، ومَصَالح عُطِّلت؟ وأوضاع اعوجَّت بسبب أطماع نفسيَّة محقورة.

واليأس من الناس يحتاج إلى تدريب النفس على العفَّة والأنَفَة، وعلى اكتفاء ذاتي يصدها عن التطلع إلى ما بأيدي الآخرين، والاستغناء بالقليل الموجود عن الكثير المشتهي.

قال محمد بن بشير: 

لأن أُزَجِّىَ عند العُرْى بالخلَقِ = وأجْتَزي من كثير الزَّاد بالعُلَق

خَيْرٌ وأَكْرَمُ لِي مِنْ أنْ أرَى مِننًا = مَعْقُودَة للئامِ النَّاسِ في عُنُقي

إني وإن قصرت عن همتِي جِدَتِي = وكان ماليَ لا يقوى على خلق

لَتَارِكٌ كُلَّ أمر كان يلزِمُني عَارا = ويُشرِعُنِي في المَنهلِ الرَّنِق

 

نقص القادرين على التمام: 

(ربما كنت مسيئاً فأراك الإحسان منك صحبتك لمن هو أسوأ حالاً منك)

الأعور أحسن حالاً من العميان، ولكن العَوَر ليس كمالاً في الأجسام أو صحَّة في الحواس. ومن الناس من يُقارن جُهده المحدود بأعمال أهل البلادة، أو عِلْمه القليل بأفكار أهل الجهالة فيظن نفسه على شيء طائل، وهو في الحقيقة فقيرٌ إلى ما يُكمِّل مَواهبه ولكنه مخدوع.

إن النظر إلى أدنى حجاب قاطع، أو هو عائق عن الرفعة المنشودة.

وإذا أحببتَ أن تُقارن نفسك بغيرك فلا تنظر إلى الدهماء ثم تقول: أنا أفضلُ حالاً، بل انظرْ إلى العلية ثم قل: لماذا أقَصِّر عنهم؟ يجب أن أمضي في الطريق، ومن سار على الدرب وصل.

كثيرٌ من الأذكياء وقفهم في مُنتصف الطريق أو في مبادئه أنَّهم صحبوا نفراً من القَاصرين والعَجَزة، فغرَّهم ذلك بأنفسهم وستر عنهم ما كمن فيهم من نقص أو أخفى عنهم ما يُطيقونه من درجات الكمال لو نشطوا.

وهذه الصحبة وبالٌ على الإنسان؛ لأنها قيَّدت الهمَّة وشلَّت الطموح، ولذلك ينصح ابن عطاء الله قبل ذلك فيقول: (لا تصاحبْ من لا يَنهضك حالُه ولا يدلُّك على الله مقاله).

 

أحذِّرك نفسك: 

(أصل كل معصية وغفلة وشهوة الرضا عن النفس، وأصل كل طاعة ويقظة وعفَّة عدم الرضا عنها، لأن تصحب جاهلا لا يرضى عن نفسه خير لك من أن تصحبَ عالما يرضى عن نفسه، فأي علم لعالم يرضى عن نفسه! وأي جهل لجاهل لا يرضى عن نفسه!).

لا يبحث عن الشفاء إلا من أحسَّ المرض، أما من أصيب بعلَّة فلم يشعر بها ولم يستشفِ منها؛ فإنَّ جراثيمها تستشري في أوصاله حتى تأتي عليه. وكذلك النفس الإنسانيَّة لا يُطلب لها العافية إلا من أدرك ما بها من أدواء والشعور بالنقص أول مراحل الكمال.

وقد قال الله تعالى على لسان أحد أنبيائه المطهَّرين: [وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ] {يوسف:53}، فإذا وجدت امرءاً راضياً عن نفسه فافقد فيه الأمل؛ لأنَّه ينطوي على ركام من العيوب والنقائص وهو لا يلتمس الخلاص منها، بل إنَّه فاقد الشعور بوضاعتها، وهيهات لمثل هذا اكتمال أو نجاة.

والعلم النظري لا يرفع قَدْر أصحابه، فأي قيمة لشخص يختزن في رأسه قدراً من المعلومات ولكن نفسه طافحة بآثام لم تُعَالج وخشونة لم تُهذَّب، ثم هو مع ما يختزن من معرفة، لا يدري أنَّه عليل.

مثل هؤلاء يكون علمهم آفة؛ لأنَّه يقوي جهالاتهم ولا يُزيلها، ويغرُّهم بما أوتوا بدلاً من أن يُزيل من أنفسهم ما يسوءها.

وأفضل من هؤلاء رجل قليل المعرفة، عميق الإخلاص، كثير التفتيش عن عيوبه، مجتهد في تزكية نفسه وترقية أحواله، هذا أرجى عاقبة وأرقى عاجلة من العلماء الكبار إذا رضوا عن أنفسهم، وغفلوا عن إصلاحها.

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم

المصدر كتاب: (الجانب العاطفي من الإسلام، محمد الغزالي)

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين