الومَضَاتْ في عَدَدِ وأوّلِ الغَزَواتْ (2)

فصل

ومعلوم أن معرفة سيرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأخباره وأيامه، وما مرَّ به عليه السلام من الحوادث والوقائع، هو من علوم التاريخ، بل هو أشرف مباحثه وعلومه؛ إذ شرف العلم بشرف المعلوم.

وقد اشتملت السير على أحكام وفوائد لايسع التخلف عن علمها، ولاسيما للفقهاء والمفتين، وقد حكى أبو حيان التوحيدي في (البصائر) {2/11} عن القاضي أبي حامد المروروذي رحمه الله وكان أبو حيان من أصحابه خصيصاً به، وكان يقول عنه: (هذا الرجل أنبلُ من رأيتُه فى عمري، كان بـحراً يتدفقُ حفظاً للسير، وقياماً بالأخبار، واستنباطاً للمعاني، وثباتاً على الجدل، وصبراً فى الخصام). 

قال: وكان القاضي أبو حامد يقول: (السّيرَ بحرُ الفتيا، وخزانة القضاء، وعلى قدْر اطلاع الفقيه عليها يكون استنباطه) ذكره ابن السبكي في (الطبقات) {3/13}.

ومن فوائد هذا الفن التمييز بين الصحيح والمعتل، والحق والباطل، فضلاً عن فهم حوادث الدهور، ووقائع الأيام والعصور.

وقد وقع على عهد الحافظ أبي بكر الخطيب البغدادي أن اليهود الخيابرة ادعوا عند الوزير أبي القاسم بن مسلمة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أسقط عنهم الجزية عام خيبر، فطالبهم الوزير بدليل، فأخرجوا له كتاباً يدّعون أنه عَهْدُ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إليهم، وعليه خاتمه، وفيه شهادة جماعة من الصحابة منهم: معاوية بن أبي سفيان وسعد بن معاذ، وأنه بـخط أمير المؤمنين علي بن أبي طالب.! 

فتحيّر الوزيرُ وما درى ما يصنع، حتى استدعى الخطيبَ البغداديَّ وأطلعه على ذلك الكتاب، فنظر الخطيبُ فيه نظرة، ثم قال: هذا الكتاب مزور كذب؛ لأن فيه شهادةَ معاوية، ولم يكن أسلم يومَ خيبر، وقد كانت خيبر سنة سبع من الهجرة، وإنما أسلم معاويةُ عامَ الفتح، وفيه شهادةُ سعد بن معاذ، وقد مات قبل خيبر عام الخندق سنة خمس، فافتضح اليهود، واستحسن الناس هذا من الخطيب، وشكروا له واعترفوا بفضله وعلمه.

ذكر هذه الحكاية الذهبيُّ في (تاريخه){29/101} وذكرها غيره أيضاً، وقد وقع نظيرها قبل ذلك لأبي جعفر الطبري فسلك في إبطال الكتاب مسلك الخطيب، وتكرر حصول هذه الواقعة على عهد الحافظ أبي طاهر السلفي، فذكر نحواً من ذلك، ونبّه على وضع الكتاب. 

ثم تكررت على عهد أبي العباس ابن تيمية، فتكلّم على إبطال الكتاب من عشرة وجوه لخصها ابنُ القيم في (المنار المنيف) {193} غالبها مستند إلى معرفة التاريخ والاستبحار في علم السير، وقيل إنه رحمه الله أبان عن كذب الكتاب بدلائلَ يرجع بعضها إلى نوع الخط والكتابة والورق، وقد أفرد الحافظ ابنُ كثير جُزءاً في الكلام على هذه الواقعة وشرح حالها.

وهذه الحكاية ظاهرة الدلالة على فضل علم التاريخ، وحاجة المشتغل بالعلوم إليه، ولاسيما تاريخه صلى الله عليه وآله وسلم.

وأيضاً فإن العلم به شرط في تعيين الناسخ من المنسوخ، فإن المقرر في «أصول الفقه» أن النسخ لا يثبت إلا بعد العلم بالتاريخ، فيعلم المتأخر من المتقدم من أحد الخبرين حتى يصح أن يقال إن المتأخر نسخ المتقدم، ولا سبيل إلى تيقن العلم بذلك إلا بعد معرفة السير والتاريخ.

ومن فوائد علم التاريخ أنه يعين على فهم الوقائع والحوادث السياسية، وإدراك وجه تصرفات الساسة وبُعد غورها، فإن التاريخ يتكرر والحوادث تتعد، ولا يعقل معرفة السياسة وإدراك غوامضها على وجهها، دون معرفة التاريخ والاطلاع عليه، وقد عُلم بـهذا فضله وشرفه والحاجة إليه.

فصل

والمقصود هنا إنما هو الكلام والبحث في مسألتين تتلعقان بالسيرة النبوية على صاحبها أزكى الصلاة والسلام.

أولاهما: عدد مغازي النبي صلى الله عليه وآله وسلم التي غزاها بنفسه. ثانيهما: تعيين أول غزوة منها. 

وقد رأيتُ العلماء مختلفين في ذلك تبعاً لاختلاف النصوص الواردة في هذا الباب، والمسألتان في الأصل واحدة يجمعها نص واحد. 

واعلم أن أصل الغزو القصد، يقال: مغزى الكلام، أي: مقصده والغرض منه، وسمي الغزو غزواً لأنه يقصد به حرب من يراد حربه.

قال الحافظ ابن حجر في (الفتح): «والمراد بالمغازي ما وقع من قصد النبي صلى الله عليه وآله وسلم الكفارَ بنفسه، أو بجيش من قبَله، وقصدهم أعمُّ من أن يكون إلى بلادهم أو إلى الأماكن التي حلّوها حتى دخل مثل أحد والخندق» اهـ. 

وقد ينعكس الأمر كأحد والخندق، فإن الكفار هم من قصد المسلمين فيهما، ولا يشترط في تسمية وقائع وحروب النبي صلى الله عليه وآله وسلم غزوات، أن يكون هو القاصد فيها لحرب الكفار، بل يكفي في ذلك وقوع قصد الحرب من أحد الطرفين.

ووهم من يظن أن الغزوة لا بد كي تسمى بذلك أن يحصل فيها قتال، بل مجرّد القصد للحرب يكفي لعدّها من الغزوات، وبـهذا اصطلح علماء السير والمغازي على تسمية مثل الأبواء وتبوك غزوة، مع أنه لم يقع فيهما قتال كما هو معروف.

وقد اختلف في عدد مغازي النبي صلى الله عليه وآله وسلم التي غزاها بنفسه وأيتهن كانت الأولى.؟

والأصل في هذا ما رواه البخاري{3949} ومسلم{3/143} من حديث أبي إسحاق السبيعي قال: «كنتُ إلى جنب زيد بن أرقم، فقيل له: كم غزا النبي صلى الله عليه وآله وسلم من غزوة؟ قال: تسع عشرة، قيل: كم غزوت أنت معه؟ قال: سبع عشرة، قلت: فأيهم كانت أول؟ قال العشير أو العسيرة. قال شعبة: فذكرت لقتادة فقال: «العشيرة».

والعشيرة والعشير والعسيرة والعشيراء: أسماء لمسمى واحد وهو الموضع الذي انتهى إليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لما خرج غازياً يريد عيرَ قريش التي صدرت من مكة إلى الشام للتجارة، فسُميت الغزوةُ بذلك الموضع، ولم يلقَ عليه السلام فيها حرباً، وفاتته عيرُ قريش، وكان ذلك في سلخ جمادى الأولى ومستهل جمادى الآخرة من السنة الثانية للهجرة، ووادع فيها بني مدلج وحلفائهم من بني ضمرة، واستعمل على المدينة أبا سلمة بن عبد الله الأسدي فيما قال ابن هشام في « السيرة » [2/240].

قال الحافظ في « الفتح » [7/350]: « وقول قتادة هو الذي اتفق عليه أهل السير وهو الصواب، وأما غزوة العسيرة بالمهملة فهي غزوة تبوك، قال تعالى ﴿الذين اتبعوه في ساعة العسرة﴾ وسُميت بذلك لما كان فيها من المشقة.. وأما هذه فنُسبت إلى المكان الذي وصلوا إليه، واسمه العشير أو العشيرة، يذكر ويؤنث، وهو موضع». اهـ.

والعشيرة: موضع بين مكة والمدينة من ناحية ينبع، وسمي بذلك نسبة إلى شجرة فيه كما قاله ياقوت في «المعجم» [4/143 – 144] وهي شجرة صمغية تسمى العشيرة، كما في «اللسان» [4/575].

وقد نص الحافظ ابن كثير وغيره على أنـها بالشين (العشيرة والعشيراء) وبالسين المهملة: (العَسير والعُسير والعُسيراء) كما في «تاريخه» [3/246] وسيرته المختصرة المسماة «الفصول» [ص: 123].

فغاية ما يفيده كلام قتادة أن المشهور في لغتها بالشين المثلثة لا بالسين المهملة، وهذا لا ينافي أن يكون فيها لغة أخرى بالسين المهملة، لا سيما أن قتادة لم ينكر كلام زيد بن أرقم، ويبعد أن يكون زيد رضي الله عنه قد اشتبه عليه اسم هذه الغزوة باسم غزوة تبوك، وهو الذي شهدها، وقد تقرر في اللغة أن الحروف المتقاربة في مخرجها تتعاقب كالسين والشين والدال والذال وغيرها، فالصحيح في اسمها العشيرة أو العشير أو العشيراء وهو الأشهر، وورد في اسمها بالسين المهملة، ولو لم يكن إلا قول زيد بن أرقم في إثبات ذلك لكفى.

ويقوي هذا أن غزوة تبوك إنما تسمى العُسرة بلا ياء نسبة إلى ما أصاب المسلمين فيها من الإعسار في النفقة والحر، كما أوضحناه في الجزء الذي أفردناه في الكلام على فوائد ومعاني غزوة تبوك، وأما العسيرة فهي بالياء التحتية، فالجزم بغلط الراوي عن الصواب بمعزل والله أعلم.

وقد أفاد هذا الخبر أمرين: 

الأول: أن أول غزوة غزاها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بنفسه هي غزوة العشيرة.

الثاني: أن عدد مغازيه صلى الله عليه وآله وسلم التي خرج فيها بنفسه تسع عشرة غزوة على ما حكاه زيد بن أرقم رضي الله عنه.

وقد خولف زيدٌ في المسألتين..

فأخرج الطبراني كما في (المجمع){6/68} وابن سعد{2/8} وابن عدي{1599} من طريق إسماعيل بن أبي أويس أخبرنا كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف المزني عن أبيه عن جده قال: «غزوتُ مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أول غزوة غزاها الأبواء» ( ).

فتمسك بظاهر هذا الخبر الجمهور ومنهم أهل العلم بالمغازي والسير فأطبقوا على ذكر الأبواء على رأس غزواته صلى الله عليه وآله وسلم، ونصوا في مصنفاتـهم على عدّها أول غزوة له عليه السلام. 

واحتجوا بإجماع أهل السير والمغازي عليه، وهم أهل الشأن والمرجع فيه إليهم، وقد تقرر في الأصول اعتبار إجماع أهل الفن، ولا يُلتفتُ إلى خلاف من خالفهم إذا لم يكن من المختصين في ذلك العلم المدعى الإجماع فيه على مسألة من مسائله.

وأيضاً: فإن خبر كثير بن عبد الله المزني عن أبيه عن جده صريح في أن الأبواء أول غزوات النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وجده عمرو بن عوف صحابي أدرك الغزوة، وهو أكبر من زيد بن أرقم، فلا يعارض خبرُ زيدٍ خبَرَه.

وأيضاً: فإن خبر زيد بن أرقم لا يفيد عدم اعتبار الأبواء أول غزوة إلا بالمفهوم، في حين إن خبر عمرو بن عوف يفيد ذلك بالمنطوق، وقد تقرر في الأصول أن المنطوق أرجح.

وأيضاً: فإن في خبر عمرو بن عوف زيادة علم فيجب قبولها، ثم خبره مُثبت، وخبر زيد لو كان نافياً لوجب تقديم خبر عمرو عليه؛ لأن المثبت مقدّم على النافي، كيف وحديث زيد ليس فيه نفي كون الأبواء أول غزوة إلا بالمفهوم، وقد مرَّ عدم انتهاضه لمقابلة منطوق خبر عمرو.

وتأوّلَ الجمهورُ حديث زيد على أنه إنما عدّ العشيرةَ أولَ غزوة لأنه لم يشهد ما قبلها، وأنه عنى بقوله هذا، أن العشيرة أول غزوة شهدها هو مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، كما قاله ابن التين وغيره، وهذا لا ينافي أن يكون قبلها غزوات لم يشهدها كما هو ظاهر.

وأبدى الحافظ في (الفتح) {7/280} احتمال أن يكون إنما خفي على زيد ما قبل العشيرة من الغزوات لصغر سنّه، بدليل ظاهر رواية مسلم التي وقع فيها جزم زيد بأن العشيرة أول غزواته عليه السلام مطلقاً.

وتوجيه ابن التين أجود لما رواه أبو يعلى الموصلي {2242} عن أبي إسحاق سمعت زيد بن أرقم يقول «غزوتُ مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بضع عشرة غزوة».

وتصرّف البخاري في «كتابه» {3949} يقتضي أنه يختار هذا القول، فإنه صدّر أول باب من «المغازي» فيه بقول ابن إسحاق: «أول ما غزا النبي صلى الله عليه وآله وسلم الأبواء ثم بواط ثم العشيرة».

ويقويه أنه اعتمد هو والترمذي روايةَ كثير بن عبد الله المزني ومشّاها كما قال الحافظ {7/384} مع أن كثيراً ضعيف عند الأكثر كما يأتي.

وأما مسلم فإن تصرّفه في «الصحيح» {3/143} يخالف البخاريَّ، وكأنه يميل إلى قول زيد بن أرقم. 

وقد ذكر البخاريُّ كُثيراً المزني هذا في التاريخ المطبوع على أنه (الصغير) {2/152} وسكت عنه، وقال فيه الشافعي وأبو داود «ركن من أركان الكذب» وضرب أحمد على حديثه، وتركه الدارقطني وغيره، وقال أبو حاتم «ليس بالمتين». وقال النسائي «ليس بثقة». وقال ابن حبان «له عن أبيه عن جده نسخة موضوعة». وقال مطرّف وهو أعلمُ به «رأيته وكان كثير الخصومة ولم يكن أحد من أصحابنا يأخذ عنه». انتهى من «الميزان» [3/6943].

فالحديث على هذا ضعيف، لكنَّ الترمذيَّ حسَّن حديثه كما ذكر الهيثمي في «المجمع» [6/68] والوجه في تحسينه له والله أعلم أن عمل أهل السير والأخبار والمغازي عليه، وقد عُلم من تصرّف الترمذي في كتابه أنه يـُحسّن الحديث الذي جرى عليه عمل الناس وتلقوه بالقبول، وإن كان في إسناده مقال، وهذا المعنى أصل حسن، قد أطبق عليه أهل العلم، فالاعتراض على أدلة الجمهور بضعف خبر كثير هذا، غير متّجه. 

فحديث كثير المزني هذا وإن كان معلولاً إلا أن له من الشواهد ما يقوي معناه ويعضد كونه أصلاً في ترجيح قول أهل السير في أول الغزوات.

فمن الشواهد والقرائن تواطؤ أهل السير والمغازي والأخبار على أن أول غزوات النبي صلى الله عليه وآله وسلم الأبواء (ودّان).

وهذا التواطؤ يجري مجرى عمل أهل المدينة النقلي الذي هو حجة عند كافة العلماء، وإن كان ليس هو الإجماع القطعي الذي يلزم اتباعه ويحرم مخالفته، إلا أنه مرجح ولا أقل من الاحتجاج به. 

يقويه ما قرره الأصوليون من أن إجماع أهل علم ما، على مسألة من مسائله، مع وجود مخالف لهم من غيرهم، فإن هذا الإجماع قوي معتبر، وفي الغالب يكون المخالف لهم مجانباً للصواب، ولا يُعلم مصنف من أهل السير والمغازي إلا وهو يعدّ الأبواء أول غزوة.

وهذا هو معنى ما ذُكر من إجماع أهل السير والمغازي في هذا المعنى، وليس مراد من أطلقه الإجماع المعروف عند أهل الأصول، وهو إجماع الكافة الذي هو حجة قاطعة لاتجوز مخالفتها، وإنما أراد إجماع أهل الفن وتتابعهم على نقل ذلك في تصانيفهم.

وأيضاً فإن خبر زيد هذا متروك الظاهر ولم يقل به أحد من أهل السير والمغازي، فإنـهم تتابعوا في كتبهم على خلافه، ومن قال به قديـماً من السلف فقد درس خلافه ولم يعد له أثر، لاستقرار إجماع أهل المغازي على خلافه، وقد تقرر أن الإجماع المنعقد بعد انقراض المخالف وزواله حجة.

وأيضاً فإنه خلاف نادر، وقول الكافة على خلافه، ولأهل الأصول قولان معروفان في الاحتجاج بقول الكافة وعدم الاعتداد بالخلاف الشاذ النادر، والتحقيق اعتباره مرجحاً وهو اختيار الشيخ أبي محمد الجويني ومال إليه شيخ الإسلام ابن تيمية في (نقد إجماعات ابن حزم) ويتقوى القول بحجيته إذا جرى العمل عليه، كهذا الخبر في عدّ الأبواء أول غزاة، فقد جرى عليه عمل المصنفين في المغازي والسير فيتقوى معناه بذلك وإن كان ضعيف المخرج، ويكون مخالفه وهو خبر زيد ضعيفاً مطّرحاً وإن صح مخرجه.

فإذا ضم هذا الإجماع النقلي لأهل المغازي على عدّ الأبواء أول غزوة، إلى خبر كثير بن عبد الله المزني الصريح في عدّها أول غزوة، وجمع ذلك مع ما ذكره الحافظ ابن حجر عن أبي الأسود أنه ذكر في «مغازيه» عن عروة ووصله ابن عائذ كما قال الحافظ رحمه الله من حديث ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: «إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما وصل الأبواء بعث عبيدة بن الحارث في ستين رجلاً، فلقوا جمعاً من قريش، فتراموا بالنبل، فرمى سعد بن أبي وقاص بسهم، وكان أول من رُميَ بسهم في سبيل الله».

وقد حسنه الحافظ بسكوته عليه كما هو شرطه في كتابه، ثم هو مرسل صحابي وهو حجة إذا صح الإسناد إلى الصحابي.

فهذا الخبر صريح في خروجه صلى الله عليه وآله وسلم غازياً إلى الأبواء، وهي بالاتفاق قبل غزوة العشيرة، فإن هذه الأخيرة كانت في السنة الثانية من الهجرة، ووقعت الأبواء في أول الهجرة، أول مقدم الرسول صلى الله عليه وآله وسلم المدينة.

فنقل أهل المغازي مع حديث ابن عباس هذا مما يقوي خبر كثير المزني، ولعله لأجل ذلك مشى البخاريُّ حديثَ كثير المزني، وتبعه الترمذي.

ومما يحسن التنبيه عليه هنا أن علماء الرواية لا يشددون في تناقلهم لأخبار المغازي تشددهم في نقل أحاديث الأحكام، فينقلون من أخبار المغازي والسير ما قامت الشواهد والدلائل على صدقه وصحته، وإن كان الخبر في نفسه ليس صحيحاً لتهمة في راويه أو لضعف ناقله، ولكنهم يقبلونه إذا قامت الشواهد على صحته من خارج ولم يخالف شرعاً ثابتاً أو واقعاً محسوساً.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في طليعة (الرد على ابن المطهر) {1/56} عند كلامه عن خبر الشعبي في وصف الرافضة ومشابـهتهم لليهود، الذي نقله عنه عبد الرحمن بن مالك بن مِغْوَل، قال: «وكثير من الناس لا يحتج بروايته –ابن مغول- المفردة، إما لسوء حفظه، وإما لتهمة في تحسين الحديث، وإن كان له علم ومعرفة بأنواع العلوم، ولكن يصلحون للاعتضاد والمتابعة، كمقاتل بن سليمان ومحمد بن عمر الواقدي وأمثالهما، فإن كثرة الشهادات والأخبار قد توجب العلمَ، وإن لم يكن كل من المخبرين ثقة حافظاً، حتى يحصل العلم بـمخبر الأخبار المتواترة، وإن كان المخبرون من أهل الفسوق، إذا لم يحصل بينهم تشاعر وتواطؤ، والقول الحق الذي يقوم عليه الدليل يقبل من كل من قاله، وإن لم يقبل بمجرد إخبار المخبر به».

وهذا يقوله ابن تيمية مع أن ابن مغول هذا قد تركه أحمد والدارقطني، وكذّبه أبو داود.!

والحق أن أول غزواته صلى الله عليه وآله وسلم هي الأبواء كما نقله الواقدي وتبعه ابن سعد، ونقله ابن إسحق وموسى بن عقبة وغيرهم من أهل العلم بالسير والمغازي.

والمتعين هنا تأويل حديث زيد رضي الله عنه وحمله على أنه أراد أول غزوة شهدها هو مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا أن العشيرة هي أول غزواته مطلقا، كما قاله ابن التين، أو خفيت عليه لصغر سنّه كما هو توجيه الحافظ ابن حجر.

ويحتمل أن زيد بن أرقم رضي الله عنه لم يكن يعدُّ الأبواء وبواط من الغزوات، فلهذا لم يذكرها لما سأله أبو إسحاق السبيعي، إما لقلّة عدد من خرج فيها من الجيش، أو لأنـها لم يقع فيها كبير قتال، أو لأنـها لم تطل مُدَّتـها ونحو ذلك، فأشبهت البعوث والسرايا دون الغزوات. والله أعلم

وقال الحافظ ابن كثير في (تاريخه) {3/264} «وهذا الحديث -حديث زيد- ظاهر في أن أول الغزوات العشيرة... اللهم إلا أن يكون المراد غزاةً شهدها مع النبي الله صلى الله عليه وآله وسلم زيدُ بن أرقم العشيرةَ، وحينئذ لا ينفي أن يكون قبلها غيرها لم يشهدها زيد بن أرقم، وبـهذا يحصل الجمع بين ما ذكره محمد بن إسحاق وبين هذا الحديث» اهـ

الحلقة الأولى هنا

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين