الولاء والبراء - حقيقة المفهوم وكيفية الإسقاط

 

 

إذا أراد الباحث أن يجمع ما كتب حول موضوع الولاء والبراء فإنه لن يقع تحت يديه –غالباً- إلا كتابات ذات لون واحد، وتوجه واحد، وهو كمصطلح لا يستعمل تقريباً إلا في بيئة معينة، لكن البعض يستحضره عند كل أزمة ولا سيما عند عقد التحالفات والتفاهمات، بين تيارات مختلفة التوجهات.

لا شك أن المسلم يعيش في بيئته، ويحتك بمن حوله، فمنهم المسلمون ومنهم غير ذلك، والمسلمون ليسوا على حال واحدة فمنهم الملتزمون، ومنهم العصاة والفسقة، ولا بد لهذا المسلم أن يميز بين الأعمال، والسلوكيات، والأفكار، والمعتقدات، التي يمكن أن يواليها ويرتضيها من تلك التي يجب أن يتبرأ منها، وفي كل الأحول فإن المسلم إن والى فإنما هو يستجيب لنصوص كثيرة في نصرة الحق، وإن تبرأ فهذا يجعل في عنقه واجب القيام بالدعوة والإصلاح، وليس له الحق في محاسبة الناس {نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ}..

الولاء: حُبُّ الله تعالى ورسوله ودين الإسلام وأتباعِه المسلمين، ونُصْرةُ الله تعالى ورسولِه ودينِ الإسلام وأتباعِه المسلمين وتصرفاتهم الموافقة للشرع وتأييدهم.

البراء: بُغْضُ المعاصي والآثام والمخالفات الشرعية والطواغيت التي تُعبَدُ من دون الله تعالى، وبُغْضُ الكفر، وكل التصرفات المخالفة لأحكام الشرع.

ورد مفهوم الولاء والبراء في القرآن الكريم وفي السنة النبوية في عدد كبير من المواضع، ولكن المصطلح ناشئ ومستقى من الأصول اللغوية، فالقرآن الكريم تحدث عن هذه القضية، وإن لم يستخدم مصطلح الولاء، فقد استخدم لفظ مشتق من الولاية في قوله تبارك وتعالى:{إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ}

واستخدم مصطلح البراء في قول إبراهيم عليه السلام لأبيه وقومه:{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاء مِّمَّا تَعْبُدُونَ} 

وأمر الله سبحانه وتعالى بالتبرؤ من المشركين:{بَرَاءةٌ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ }

إن ميدان تطبيق الولاء والبراء بين المسلمين هو من خلال التزام المسلمين بالشرع الإسلامي والعقيدة الصحيحة وإذا تم تجاوز هذين الأمرين فإن المسلم يبرأ من تصرفات وسلوكيات المسلم الآخر في هذا الجانب فقط وتبقى لهم المحبة والنصرة كونهم مسلمين.

وأما الولاء والبراء مع غير المسلمين فنحن نبرأ من عقيدتهم ومن دينهم لأنها عقيدة ودين فاسد أو محرف بلا شك، ولكن يمكن لنا أن نواليهم في الأمور التي يشتركون فيها مع ديننا أو التي ينصرون فيها قضايا أمتنا.

لا يمكن القول إن الولاء والبراء شيء كامل، لا تجزئة فيه فإما توالي وإما أن تتبرأ، إذ أنه ليس لأحد من المسلمين الولاء المطلق وليس لأحد من العصاة البراء المطلق؛ لأنه قد يجتمع إيمان ومعصية وفسق، فيكون مبغضاً لهذه المعاصي من جهة، ومحباً لأصل إيمانه من جهة أخرى.

هنالك فئة من الناس، إذا وجدت فرداً أو مجتمعاً لا يتحقق فيه صفات الإيمان الكامل، وتوجد فيه بعض المعاصي، أو السلوكيات المخالفة للشريعة وهدي الإسلام، أو إن وجدت في أخلاق المجتمع شيئاً من الجاهلية، سارعت إلى الحكم عليه بالكفر المطلق، أو النفاق الأكبر، أو الجاهلية المكفرة، لاعتقادهم أن الإيمان لا يصاحبه شيءٌ من الكفر أو النفاق بحال، وأن الإسلام والجاهلية ضدان لا يجتمعان.

لن أمثٍّل لصور الولاء بين المسلمين فهي الأصل، وهي كثيرة، لكني سأذكر أمثلة للبراء من أخطاء المسلمين:

جاء في الصحيح: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبي ذر رضي الله عنه: (إنك امرؤ فيك جاهلية!)  هذا وهو أبو ذر في سابقته وصدقه وجهاده، وهذه الجاهلية تستوجب التبرؤ منها، ودعوة صاحبها للعودة عنها، وهو ما حصل عندما اعتذر سيدنا أبو ذر من سيدنا بلال..

كذلك فقد بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد إلى بني جذيمة داعيًا إلى الإسلام، فلما رأى بنو جذيمة الجيش بقيادة خالد أخذوا السلاح، فقال لهم خالد: ضعوا السلاح فإن الناس قد أسلموا، فقام رجل منهم يسمى جحدراً فقال: ويلكم يا بني جذيمة! إنه خالد، والله ما بعد وضع السلاح إلا الإسار، وما بعد الإسار إلا ضرب الأعناق، والله لا أضع سلاحي أبدًا. فلم يزالوا به حتى وضع سلاحه، فلما وُضع السلاح أمر بهم خالد فكتفوا، فدعاهم إلى الإسلام، فلم يحسنوا أن يقولوا أسلمنا، فجعلوا يقولون صبأنا صبأنا، وخالد يأخذ فيهم أسرا وقتلا، فأنكر عليه بعض أصحابه ذلك، ثم دفع الأسرى إلى من كان معه، حتى إذا أصبح يومًا أمر خالد أن يقتل كل واحد أسيره، فامتثل البعض، وامتنع عبد الله بن عمر وامتنع معه آخرون من قتل أسراهم، فلما قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبروه، فغضب ورفع يديه إلى السماء قائلا: «اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد»

إذن: تبرأ النبي عليه الصلاة والسلام من السلوك الخطأ..

وأما الولاء والبراء مع غير المسلمين: فإن المسلمين يتبرؤون من اعتقاد غير المسلمين من أصحاب الديانات والعقائد لأنها مخالفة لدين الإسلام، وهذا التبرؤ لا يتناقض مع مبدأ السماحة التي طلبها الإسلام في حسن المعاشـرة، ولـطف المعاملة، ورعـاية الجوار، وسعة المشاعر الإنسانية من البـر والرحـمة والإحسان، وهي الأمور التي تحتاج إليها الحيـاة اليوميـة، فمثلاً تتجلى هذه السماحة في مثل قول القرآن في شأن الوالدين المشركين اللذين يحاولان إخراج ابنهما من التوحيد إلى الشرك: {وصاحبهما في الدنيا معروفا}

وفي ترغيب القرآن في البر والإقساط إلى المخالفين الذين لم يقاتلوا المسلمين في الدين كما في آية الممتحنة..

والأدلة في هذا الجانب مستفيضة، لا يتسع المقام لاستعراضها، ويمكن العودة إليها في مظانها..

 في هذا المقام أتذكر محبة النبي عليه الصلاة والسلام لعمه أبو طالب وهذا حب فطري بين أولي الأرحام، فقد كان أبو طالب ينصر رسول الله صلى الله عليه وسلم..

وبالمقابل نتذكر موقف سيدنا سعد بن أبي وقاص من أمه، حيث نزل فيه وفي أمه حمنة بنت أبي سفيان قول الله تعالى {وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْناً وَإِن جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}

حيث كان باراً بأمه، فقالت له أمه: ما هذا الدين الذي أحدثت؟ والله لا آكل ولا أشرب حتى ترجع إلى ما كنت عليه، أو أموت فتعير بذلك أبد الدهر، يقال: يا قاتل أمه! ثم إنها مكثت يوماً وليلة لم تأكل ولم تشرب ولم تستظل، فأصبحت قد جهدت ثم مكثت يوماً آخر وليلة لم تأكل ولم تشرب، فجاء سعد إليها وقال: يا أماه: لو كانت لك مائة نفس فخرجت نفساً نفساً ما تركت ديني، فكلي وإن شئت فلا تأكلي، فلما أيست منه أكلت وشربت، فأنزل الله هذه الآية وأمره بالبر بوالديه، والإحسان إليهما، وعدم طاعتهما في الشرك لأنه (لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق).

إذا أيَّد نصراني حقوق المسلمين في فلسطين، فماذا يكون موقفنا منه؟ نحن نواليه ونحبه في هذا الجانب، لكننا نتبرأ من عقيدته.

لقد حدث بعد هجرة النبي صلى الله عليه وسلم اتفاق مع اليهود في المدينة على أن ينصرهم وينصروه، ونفس الأمر حدث بين النبي صلى الله عليه وسلم وقبيلة خزاعة، ومن المعلوم أن قضية التحالف، والإعانة، والاستعانة من قضايا الفقه والسياسة الشرعية المعروفة ويجوز لنا نصرتهم ويجوز لهم أن ينصرونا، فالمسألة واضحة جداً، وهذا دليل على أنه يمكن أن نتعاون في أمر ما، وإنما لا ننصر العقيدة الفاسدة.

لقد أباح الإسلام للمسلم مصاهرة أهل الكتاب ومؤاكلتهم واعتبر طعامهم حلالاً طيبًا،{الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلُّ لَّهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلاَ مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ وَمَن يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ }

والمصاهرة من الروابط الأساسـية التي تربط بين البشر، والزواج في نظر الإسلام يقوم على السكون والمودة والرحمة، وهي دعائم الحياة الزوجية في القرآن: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ }، ومعنى زواج المسلم من كتابية أن يكون أصهاره وأجداد أولاده وجداتهم، وأخوالهم وخالاتهم، وأولاد أخوالهم وخالاتهم من أهل الكتاب، وهؤلاء لهم حقوق صلة الرحم وذوي القربى التي يفرضها الإسلام.

فهل يوالي الزوج زوجته الكتابية أم يتبرأ منها؟ هي زوجته وبالتالي يحبها ولكنه يتبرأ من عقيدتها.

قال تعالى:{لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ }، وأما إذا كان هذا الكافر محارباً لنا فتجوز محاربته، والتبرؤ منه ولو كان ذا قربى، ومثال ذلك قول الله تعالى{لَا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ }.

 قال أهل العلم: نزلت في أبي عبيدة عامر بن الجراح حين قتل أباه عبدالله بن الجراح يوم أحد، وفي أبي بكر حين دعا ابنه للمبارزة يوم بدر، وفي عمر حيث قتل خاله العاص بن هشام يوم بدر وفي علي وحمزة حين قتلوا عتبة وشيبة ابني ربيعة والوليد بن عتبه يوم بدر. وقيل غير ذلك من الأسباب.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين