الوعظ والإرشاد حاجة البشر إلى رادع

الرادع المادي والرادع الروحي: أثر الرادع الروحي في حياة الأمم.

للنفوس البشرية طغيان، يطغيها المال إذا كثر، ويطغيها الفقر إذا نزل، وتطغيها المنافسات إذا استحكمت وانقلبت إلى أحقاد وأضغان وتطغيها الصحة والقوة، متى أحسهما الإنسان وتطغيها كثرة الأولاد والأحفاد والأتباع، ويطغيها كل شيء أصاب الإنسان أو أصابه الإنسان، ولم يزنه بميزان الحكمة والاعتدال.

هذا شأن الإنسان إذا ترك ونفسه ولم تقف أمامه قوة ترهبه من الطغيان، فتراه ينساب في سفك الدماء، واستلاب الأموال، وتعذيب الضعفاء، وإهانة الفقراء، ولا يعرف هوادة في تنفيذ مأربه وقضاء لباناته، حتى أنه ليمعن في الإفساد والإيذاء ما دام يخيل إليه الطغيان أن في ذلك عزه واحترامه بين الأفراد والجماعات!!

هذا شأن للإنسان لمحته الفطر النقية من مبدأ الخليقة والتكوين [أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ] {البقرة:30} . غير أن الله سبحانه وتقدس في خلق الإنسان وإبرازه إلى الوجود المادي من الحكم السامية والآثار القيمة العظيمة ما يجعل ذلك الشر بإزائها ذا نسبة ضئيلة لا يكاد يؤبه لها في نظر الفيض العالم والجود المطلق وعمارة الكون بما يستدعيه طبيعته المادية، وحسبك في إدراك تلك الحكم أن تقف على ساحل قوله تعالى للملائكة [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ] {البقرة:30}. 

ومع هذا لم تشأ الحكمة الإلهية أن تدع النفوس تمرح في غلوائها تسبح في نزعاتها حتى تعكر بشرها صفاء ذلك الخير الموجود من خلقتها، بل وضعت أمامها من العقوبات والزواجر المادية ما إن أحسن القائمون بالأمور تنفيذه والهيمنة والهيمنة به على النفوس، وقفت به عند حدود الحكمة، و تجافت عن مظاهر الطغيان، وسبل الاعتداء، فكان في القتل القصاص، وفي السرقة القطع، وفي الفاحشة بين الرجل والمرأة الجلد أو الرجم، وفي سائر ما لا ينبغي التقرير والتأديب:[إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآَخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ] {المائدة:33}.

لم تقف حكمة الحكيم وهو العالم بخفيات النفوس وأحاديثها عند وضع هذه القوة المادي في كبح جماحها عن الإجرام والإفساد بل علق حياتها في الآخرة بحياتها في الأولى وربط ما بين الدارين، وجعل هذه مزرعة لتلك، ومن زرع حصد وزارع الحنظل لا يجني العنب: [يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ وَاللهُ رَءُوفٌ بِالعِبَادِ] {آل عمران:30}.

رادعان مختلفان ينال أحدهما الجسم والأعضاء، ويتغلغل ثانيهما في القلوب والأرواح يقف أولهما على باب القضاء يترقب ما يثبته الشهود وتدل عليه القرائن الواضحة الجلية؟ ويهجم الثاني على العابد وهو في خلوته وقد أحكمت نوافذها فيعلم منه خائنة النفس وما تخفي الصدور: [قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ] {آل عمران:29}. فإن احتمال الإنسان بطغيانه، وخلص نفسه من الوقوع في طائلة الرادع الأول أو رد تمدين الزمن فرأى ولاة الأمور إن في قطع يد السارق تشويها للإنسانية المحترمة، وفي القصاص تضييعاً لنفس من الممكن إصلاحها والانتفاع بها، وهكذا نبذت العقوبات المادية بخطرات، أو تغلبت شؤون خفية على رجال الشرطة فحالت بينهم وبين الإخلاص في مهمتهم والضرب على أيدي المجرمين الآثمين، واندفع الإنسان بعد هذا إلى انتهاك الحرمات وإثارة القلاقل والفتن صاح به الرادع الثاني [سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلَانِ(31) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ(32) يَا مَعْشَرَ الجِنِّ وَالإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ فَانْفُذُوا لَا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ(33) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ(34) يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ فَلَا تَنْتَصِرَانِ(35) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ(36) فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ(37) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ(38) فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ(39) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ(40) يُعْرَفُ المُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالأَقْدَامِ(41) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ(42) هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا المُجْرِمُونَ(43) يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آَنٍ(44) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ(45) ]. {الرَّحمن}..

فيستلب من القلوب أحادها ومن النفوس طغيانها، ويقف الكل شاخصاً من هول ذلك اليوم الذي يتجلى فيه للمحسن إحسانه وللمسيء إساءته، فلا تحدث نفس بعد صاحبها إلا بما فيه من نجاتها وإسعادها.

عندئذ ترى الناس وقد انصرف كل إلى حياته الخاصة يزكيها وينميها هادئين مطمئنين يتقاسمون السراء والضراء، وهم في ذلك لا يشعرون بغطرسة مخلوق، ولا يستثيرهم ظلم شرطي ولا خفير، وإنما هو سلطان الحق وجلال العدل يهيمن على السوقة والملوك، ولا يرى فضلاً لأحد على أحد إلا بالتقوى ومكارم الأخلاق.

أين نجد هذا الرادع الثاني الذي كله خير وبركة؟ أين نجد هذه القوة التي تملك على الإنسان قلبه وروحه، وتصرف قواه في نواحي الخير وتباعد بينه وبين ما  أصبح العالم يموج به من الشرور والمفاسد؟

الحق أن طغيان النفوس وكيدها قد تغلب على الرادع المادي، حتى لقد اتخذت منه النفوس أداة قوية تعينها على الفتك بالفضيلة والقضاء على منابع الخير، فدعوني من سجنكم الشاق، وسجنكم البسيط، دعوني من مراقبتكم للمشبوهين ونفيكم للصوص الفاتكين!! دعوني من كل هذا فقد برهنت  الأيام وما تلد من جرائم تضطرب لهولها القلوب على فشل هذا الأسلوب كمهذب ورادع وتعالوا بنا إن كنتم جادين في هذه الحياة وتريدونها حلوة لذيذة تلتمس ذلك الرادع الثاني ونوجه إليه همتنا فتقوى دعائمه ونعمل على نشره وتغلغله في البلاد ونسهل له سبل امتلاك القلوب والأرواح وسوف إن سمعتم الرأي ولم ي حمل بينكم وبين حب الاستقلال بالأمر والشغف بمظاهر السلطان المادي تجدون هذه القوة التي لا يعرف مدى خيرها في الأمة إلا من أمر بها وحث عليها وجعل جماع الخير والفلاح [وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ] {آل عمران:104}. سوف تجدونها فتية قوية في هذه الطائفة طائفة (الوعاظ والمرشدين).

هذا ما أراه في سبيل التهذيب الذي يقي الإنسان مصارع التهلكة وينسج على الأمة رداء الأمن والطمأنينة ويعود بها إلى حظيرة الدين الحنيف بعد أن تمشت في جوانبه روح الإباحة المطلقة وأخذت تنتقصه من جميع أطرافه.

نرجو من الله أن يقيض لهذه الأمة من يضيء لها طرق الخير والفلاح ويرشدها إلى ما فيه السعادة والهناءة.

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.

المصدر: مجله: الارشاد السنة الأولى 1 رمضان 1351 العدد 2

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين