الهوى آفة الآفات

يقول مولانا جل في علاه: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا (28) سورة الكهف.

ويقول أيضاً: أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا (43)} [سورة الفرقان].

ويقول: {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (50)}[ سورة القصص].

ويقول:{ أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (23)}[ سورة الجاثية].

كل هذه الآيات - وثمة آيات أخرى في ذات السياق - تحذر من آفة فردية واجتماعية خطيرة، هي آفة الهوى، التي إن قامت في نفس أرْدَتْها، وفي قلب أفسدته، وفي أسرة دمرتها، وفي مجتمع قضت عليه قضاء مبرماً.

والهوى: هو ميل القلب إلى الشيء، وتعلقه به، والحكم من خلاله دونما رائد من شريعة الله تعالى، أو رادع من عقل، أو مراعاة لأبسط قواعد الحياة السليمة الراشدة.

فترى المرء حينها مضطرب الأحكام؛ لأنه لا قاعدة ثابتةً لديه، ينطلق من خلالها ويحكم وَفْقها، وتراه متقلب القرارات؛ لأنها تتبدل بتبدل أهوائه ورغباته.

وتبصر المجتمع ذا الأهواء الموزعة مجتمعاً كثير المشاكل عظيم القلاقل، يعاني الأمرين جراءَ الهوى المتحكم بأبنائه، فالفساد والرشاوي والمحسوبيات والترهل الاقتصادي عناوين عريضة ومنتجات مكفولة لمصنع الهوى، والعياذ بالله.

من هنا جاء التحذير الإلهي السابق، ولا زال المصلحون يحذرون منه منذ زمن النبوة إلى يومنا هذا، لما تترتب عليه من مآس وبلايا، قال الإمام الشعبي رحمه الله: إنما سمي الهوى هوى؛ لأنه يهوي بصاحبه.

وقال أعرابي: الهوى هوان، ولكن غُلط باسمه.

فأخذ هذا شاعر فقال:

إن الهوان هو الهوى قلب اسمه * فإذا هوِيت فقد لقيت هوانا

وقال هشام بن عبد الملك بن مروان الخليفة الأموي المعروف:

إذا أنت لم تعص الهوى قادك الهوى * إلى كل ما فيه عليك هوان

ولو كان البيت هذا لي لعدلت فيه تعديلاً طفيفاً فقال:

إذا أنت لم تعص الهوى قادك الهوى * إلى كل ما فيه عليك مقال

أي كثرت فيك الأقاويل بما يصدر عنك من أفاعيل، وصرت هدفاً لسهام الناس ونقدهم، لخروجك عن قواعد العقل وضوابط الشرع.

ومن يطالعِ العالم اليوم وينظر في أحواله من خلال وسائل الإعلام ومنصات التواصل يرَ الهوى متحكماً في النفوس، آخذاً بالقلوب، قائداً للناس إلا من رحم الله، فصراعات فكرية ونقاشات بيزنطية عقيمة، وجدالات طويلة لا تنتهي، وَقُودها الهوى، وموقدها الشيطان الذي ينفخ في الرؤوس والأدمغة، ويحرش بين النفوس.

فما المخرج من ذلك... المخرج منه ما أشار به النبي صلى الله عليه وسلم على بعض صحابته فيما رواه ابن ماجه وأبو داود والترمذي أن أَبا أُمَيَّةَ الشَّعْبَانِيَّ، قَالَ: أَتَيْتُ أَبَا ثَعْلَبَةَ الخُشَنِيَّ، فَقُلْتُ لَهُ: كَيْفَ تَصْنَعُ بِهَذِهِ الآيَةِ؟ قَالَ: أَيَّةُ آيَةٍ؟ قُلْتُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} قَالَ: أَمَا وَاللَّهِ لَقَدْ سَأَلْتَ عَنْهَا خَبِيرًا، سَأَلْتُ عَنْهَا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: بَلْ ائْتَمِرُوا بِالمَعْرُوفِ وَتَنَاهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ، حَتَّى إِذَا رَأَيْتَ شُحًّا مُطَاعًا، وَهَوًى مُتَّبَعًا، وَدُنْيَا مُؤْثَرَةً، وَإِعْجَابَ كُلِّ ذِي رَأْيٍ بِرَأْيِهِ، فَعَلَيْكَ بِخَاصَّةِ نَفْسِكَ وَدَعِ العَوَامَّ، فَإِنَّ مِنْ وَرَائِكُمْ أَيَّامًا الصَّبْرُ فِيهِنَّ مِثْلُ القَبْضِ عَلَى الجَمْرِ، لِلْعَامِلِ فِيهِنَّ مِثْلُ أَجْرِ خَمْسِينَ رَجُلاً يَعْمَلُونَ مِثْلَ عَمَلِكُمْ، قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ الْمُبَارَكِ: وَزَادَنِي غَيْرُ عُتْبَةَ، قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ أَجْرُ خَمْسِينَ رَجُلاً مِنَّا أَوْ مِنْهُمْ. قَالَ: بَلْ أَجْرُ خَمْسِينَ رَجُلاً مِنْكُمْ.

قال الترمذي:هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ.

وفي حديث آخر رواه الطبراني في المعجم الكبير عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كَيْفَ أَنْتَ إِذَا بَقِيتَ فِي حُثَالَةٍ مِنَ النَّاسِ مَرِجَتْ عُهُودُهُمْ، وَمَرِجَتْ أَمَانَاتُهُمْ، وَاخْتَلَفَتْ قُلُوبُهُمْ»، وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ، قَالَ: كَيْفَ أَصْنَعُ يَا رَسُولَ اللهِ؟، قَالَ: "عَلَيْكَ بِمَا تَعْرِفُ، وَدَعْ مَا تُنْكِرُ، وَعَلَيْكَ بِخُوَيْصَّةِ نَفْسِكَ، وَإِيَّاكَ وَعَوَامَّهُمْ ".

لاحظوا التعبير النبوي في: خويصة نفسك... ما أدقه..وما أبلغه... وما أحكمه... أي: اعتن بالأخص الأخص من مصالح نفسك وشؤونها، ودع عنك أمر العوام وما يخوضون فيه من أمور لا تنفعهم ديناً ولا دنيا... واقتصد أو ابتعد عن وسائل التواصل التي تعكر عليك مزاجك وتفسد عليك هدوءك وتزعج روحك...بما تقوم عليه من اتباع هوى وتحكيم نفس غير مزكَّاة... ففي ذلك الخلاص لمن طلبه... وفي ذلك الراحة لمن نشدها...ورضي الله عن سيدنا عبد الله بن عباس ترجمان القرآن إذ يلخص لنا القضية فيقول: ما عبد إله في الأرض شراً من الهوى.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين