الهجرة ونجاح الرسالة المحمدية

 

 

1 ـ كانت رسالة محمد صلى الله عليه وسلم نورَ الله في الأرض، وهدايته للناس في كل الأجيال إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها:[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ] {سبأ:28}. وكانت رسالته رحمة الله بالعالمين، يرون فيها تراحم بني الإنسان، وتواصل أهل الأرض على اختلاف ألوانهم وأجناسهم وتباين أقاليمهم ومشاربهم:[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] {الأنبياء:107}. [يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ] {الحجرات:13}.

2 ـ ولما كانت رسالة النبي صلى الله عليه وسلم لها ذلك العموم، جاءت كلية، فهي قد بينت الكليات العامة التي لا تختلف باختلاف البيئات، وتُعدُّ أمراً حسناً عند ذوي العقول، مهما تتباين منازعهم، وتختلف مناهجهم، لأنها مشتقة من الفطرة الإنسانية التي أنشأ الله الخلق عليها، ولذلك وُصف ذلك الدين بأنه فطرة الله التي فطر الناس عليها، وأن الانحراف عنها تبديل لخلق الله.
ولهذه الكلية التي اختصت بها تلك الشريعة المحكمة جاءت بعد أن اكتمل العقل البشري، أو سار في طريق الكمال؛ وبعد أن أخذت البشرية تتلاقى وتتقارب.
فقبل عصر النبي صلى الله عليه وسلم قد أخذ الشرق يلتقي بالغرب وإذا كان اللقاء أحياناً قد لبس ثوباً مضرجاً بالدماء في الحروب، فقد كانت أيضاً المتاجر بين الشرق والغرب قائمة، وكانت قريش في بعض الأحوال تتولى بعض أعمال الاتصال التجاري، فينقلون متاجر فارس إلى الروم، من اليمن، ومتاجر الروم إلى فارس من الشام؛ ولذلك كانت لهم رحلتان: رحلة الصيف إلى الشام، ورحلة الشتاء إلى اليمن [لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ(1) إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ(2) فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا البَيْتِ(3) الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآَمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ(4) ]. {قريش}. .

3 ـ وبعد البعث المحمدي أخذت المسافات تقرِّبها وسائل السفر، واللقاء الفكري، حتى صرنا نرى العالم اليوم كأنه قطعة واحدة؛ قربتها النقلة السريعة، وقربها التبادل الفكري الذي يصل بأسرع من البرق، وتتجاوب به أصوات بني الإنسان في أجواز الفضاء، وعلى مسرى الهواء، وفي موجات الأثير.

4 ـ ولأن دعوة محمد لها هذا العموم كان انتصارها بسبب مما يقوى عليه البشر ويستطيعه التدبير الإنساني، فالرسالة المحمدية، وإن كانت من السماء، قد انتصرت بأسباب من الأرض، لأن النصر لو كان من السماء لانتهت الدعوة بانتهاء من ينصره ربه بأسباب ليست أرضية، أي بإنهاء النبوة، ولكن دعوة محمد صلى الله عليه وسلم إلى الحق الذي نزل عليه كانت ابتداء وليس له انتهاء، لأن أمته من بعده عليها أن تتولى نشر رسالته، والصَّدع بين العالمين بدعوته، سالكين المسالك البشرية التي سنَّها، ومهايع الحق التي سلكها، متخذين من شخصه الأسوة الحسنة، ومن طريقته الطريقة المثلى.

5 ـ وإن كانت الدعوة المحمدية قد سلكت الطريقة البشرية، مع أن شريعتها إلهية، فقد ابتدأها محمد بأمر ربه كما تبتدئ الدعوات الاجتماعية، والخلقية، والإصلاحية، يتولى صاحبها، الإقناع الفردي، حتى إذا تكونت جماعة اتحدت فيها الغاية، ووحَّدها المنهج العملي، والوحدة النفسية، أعلن الداعي وجهر، ونادى بها، وجادل وصاول وتعرض للابتلاء والإبلاء.
ولذلك دعا محمد صلى الله عليه وسلم إلى الهداية أقرب أقربائه، وأولى أوليائه، دعا زوجه ومولاه، وربيبه عليَّاً، ثم صفيه المختار ووليه المجتبى، وصدِّيق الأمة أبا بكر، رضي الله عنهم جميعاً، ثم سارت الدعوة بين الأولياء في ذلك المسار النوراني حتى تكونت الجماعة الصالحة، فأمره ربه أن ينذر عشيرته، وقال له: [وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ] {الشعراء:214} . فأنذرهم وبشَّرهم، ثم أمره بالدعوة العامة، وأن يصدع بأمر ربه، فقال:[فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ المُشْرِكِينَ] {الحجر:94}. عندئذ تقدم الرسول الأمين صلى الله عليه وسلم والداعي العظيم المؤيد من السماء، والمنصور بالعقل والوسائل الأرضية، فدعا الجموع، وبلغهم رسالات ربهم، ولما كذبوا تحداهم بالمعجزة القاهرة، والآيات الباهرة، والحجج الدامغة، والبراهين القاطعة، وأخذ يجادلهم بالتي هي أحسن، ويدعوهم بالموعظة الحسنة، فقاوم أقوياؤهم دعوته بالصد عن سبيل الله، والأعراض عن كلمة الحق، واتَّبعه الضعفاء، وهم دائماً مجيبو دعوة الحق، لصفاء نفوسهم من أدران المادة، وعُنفوان السلطان، وبُعدهم عن جفوة الطغيان، وعدم تمرس نفوسهم بالشر والعدوان.

6 ـ وكانت مغالبة بين الحق في محجَّته وبرهانه، والباطل في عدوانه، ومصارعة بين الضعف قوَّاه الإيمان، والعنف حَطمه البيان، استشرى ذئب المشركين فآذوا المؤمنين، حتى اضطروهم في أول أمرهم إلى الاختفاء بعبادتهم، ولكنها نور ساطع، وضوء لامع، يجذب إليه الأبصار، وقوة إلهية، ودعوة ربانية تنفذ إلى القلوب، ولذلك لم يطفئ نورها الاختفاء، ولم يحجبها عن الناس الانزواء، حتى انضم إلى الضعفاء بعض الأقوياء؛ فجهر المؤمنون بالعبادة بعد أن أخفوها، ونادوا بها جهاراً بعد أن تضرعوا بها إسراراً، وخرجوا من دار الأرقم صفوفاً جاهرة بكلمة الله مدوِّية بالتوحيد، فتزلزلت الوثنية وعُبَّاد الأوثان، وطاشت أحلامهم، وبالغوا في الأِعنات والكيد، ودبروا المكايد تتلوها مكايد، وأنزلوا الشدائد تتلوها شدائد، فالأرحام قطعوها، والمكارم دَيَّثُوها بالصَّغار، واستهانوا بمآثرهم الباقية، وحركوا كل النزعات الباغية، ومُحمَّدٌ ثابتٌ كالطود يدعو في رفق وأناة، وهو يسمع كلمات الشر والأذى تتدحرج من حوله حتى تصل إلى موطئ نعله، والمؤمنون يُؤذَون فيحتمي أقوياؤهم بعصبياتهم، وينزل بالضعفاء أشد العذاب، حتى لكأنهم أصحاب الأخدود، وأولئك قُدَّت قلوبهم من جلمود.

7 ـ والدعوة الإسلامية في وسط ضجة الشرك ومغالبته تشق طريقها إلى الأسماع، فتجاوبت أصداؤها في البلاد العربية قاصيها ودانيها، وتذاكرتها الركبان، ولكنها كانت مبهمة في نفوسهم غير واضحة في عقولهم، فتقدم محمد صلى الله عليه وسلم في موسم الحج يعرض دعوته على القبائل، قبيلةً قبيلة، وحيّاً حيَّاً، يبين لهم بياناً شافياً، ما وصل إليهم ذكره مستبهماً خافياً، مبلغاً رسالة ربه، مستنصراً بمن تلين للحق قلوبهم، ومن يستعدون للذود عن حياضه والذب عن بيضته، فوجد من أهل يثرب دعاة الحق الأبرار، وحماة الدين الأنصار.

8 ـ هنا أخذت الدعوة الإسلامية تسير إلى أقصى غاياتها، وأعلى مقاصدها وهو إيجاد جماعة فاضلة تحكم بشكائم من الأخلاق، وبقوانين من الفضيلة، وبرباط من الشرائع المحكمة، والوشائج المنظمة، ولا يتم ذلك إلا بدولة قائمة، تجمع المتفرق وتنفذ قانون السماء في الأرض، وقد قاوم ذلك مشركو مكة حتى لا يذهب سلطانهم وتخضد شوكتهم، ويقضي على عصبيتهم التي فرضوها على العرب نفوذاً دينياً، وكأنهم أبناء السماء، قد غفر لهم كل شيء حتى وثنيتهم، وجاهر الطغاة فيهم بتلك الحقيقة، وتحركت الإحن الجاهلية، حتى لقد قال قائلهم وزعيم الشر فيهم أبو جهل: تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف؛ أطعموا فأطعمنا، وحملوا فحملنا وأعطوا فأعطينا، حتى إذا تحاذينا على الركب وكنا كفرسَي رهان، قالوا منا نبي يأتيه الوحي من السماء، فمتى ندرك مثل هذا، والله لا نؤمن به أبداً !!.

9 ـ وإذا كان كفار قريش قد قاوموا قيام الدولة الإسلامية في مهدها ووجد النبي دعائم البناء في يثرب فلابد من الهجرة، لقيام دولة الإسلام، فلم تكن الهجرة فراراً من الأذى فقط، بل كانت سيراً بالدعوة المحمدية إلى أقصى غاياتها، ولذلك دبر النبي صلى الله عليه وسلم أمرها، واعتزم تنفيذها عندما يجيء ميقاتها المعلوم.
وما كان لمحمد أن يرضى لدينه أن يعيش في مكة محكوماً بالوثنية، ولو كانت فيها الهناءة والمقام الحسن؛ لأن الله لم يجعل للكافرين على المؤمنين سبيلاً.
فأولئك الذين يظنون أن الهجرة كانت لمجرد الأذى لا يفهمون الأمور من مقاصدها وغايتها، بل يفهمونها مما ـ حفظه الله تعالى ـ بها وما اقترن وما لابسها، فقد وجدوا الأذى مقترناً بالهجرة فجعلوه سببها، ووجدوا تدبيرهم قتل النبي صلى الله عليه وسلم سابقها فحسبوه باعثاً عليها، وكأن النبي صلى الله عليه وسلم هاجر فراراً بنفسه من القتل، وقد يكون ذلك سبباً لا تثريب فيه، ولكنه ليس الباعث عليها ولا المقصد الأصلي منها؛ وإن صدق بالنسبة لبعض المؤمنين، فإنه لا يكون صادقاً بالنسبة للرسول الأمين، بدليل أنها كانت تدبر من قبل ميعادها بنحو سنة أو تزيد؛ بالبيعات التي عقدها مع الأوس والخزرج من أهل يثرب.

10 ـ وإذن فالمقصد الأصلي هو قيام الدولة الإسلامية في يثرب بعد أن عز قيامها ابتداءً في مكة المكرمة، وقد قامت تلك الدولة المباركة بمجرد أن هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة المنورة، وأخذ يعمل على ربط المؤمنين برابطة واحدة تمحو الفوارق، وتزيل العصبيات، وتقضي على نظام الطبقات، فعقد المؤاخاة بين المؤمنين، وبذلك الإخاء ضُربت العصبية الجاهلية الضربة القاصمة، وكان هذا شعار الإسلام الباقي إلى يوم الدين: لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى.

11 ـ سَنَّ النبي الكريم صلى الله عليه وسلم سنة الهجرة للدعاة من بعده، وقد نوهنا إلى أن دعوة النبي صلى الله عليه وسلم ابتداء ليس له انتهاء، وأن على المؤمنين من بعده أن يتموا ما بدأ، وتقصيرهم الماضي لا يسوغ تقصيرهم الحاضر، وعلى ذلك كانت الدعوة خالدة إلى يوم القيامة، وإذا كان من المسلمين من يرزحون تحت حكم غير إسلامي، فعليهم أن يعلموا على الانضمام لدولة إسلامية ليكونوا تحت لواء الإسلام، فإنه في حكم الشرع:[ وَلَنْ يَجْعَلَ اللهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى المُؤْمِنِينَ سَبِيلًا] {النساء:141}.
ولقد ندد الله بالمستضعف الذي لا يهاجر إلى دولة إسلامية فقال تعالى كلماته:[إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ المَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا إِلَّا المُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا فَأُولَئِكَ عَسَى اللهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللهُ عَفُوًّا غَفُورًا] {النساء:97ـ99}

12 ـ أيها المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها: هذه دعوة نبيكم فأقيموها، وهذه وحدة الإسلام في مهده الأول فوثقوها، وهذه دولته في ماضيه فكونوها وأعيدوها؛ فإن لم تفعلوا فقد سلط الله عليكم ما باءت به الأمم قبلكم، وذهبت به الجماعات، وهو الوهن، ثم ابحثوا من بعد عن نسبتكم للإسلام العزيز الغالب، ولمحمد القويِّ المغالِب؛ أهي نسبة صحيحة تسوِّغ شرف الانتماء، أم هي كذب الانتساب، وحقيقة الاغتراب، وإلى الله ترجع الأمور.

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم

ـ ــــــــــــــــــــــــــــــــ
مجلة لواء الإسلام العدد الخامس من السنة الرابعة محرم 1370هـ=1950م.

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين