الهجرة وصدق التوكل على الله

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أفضل المرسلين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

وبعد.

فإن المتتبع لسيرة النبي صلى الله عليه وسلم، لا بدّ له من الوقوف وقفة تأمل وبحث عند هجرته صلى الله عليه وسلم من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة، هذا الحدث الجلل في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وفي تاريخ الرسالة والدعوة التي جاء بها

ولا شك أنّ هذا الموضوع، قد تناوله كثير من كتاب السيرة، والباحثين فيها من زمن النبوة إلى يومنا هذا، وأشبعوه بحثاً وتعلقاً، واستخلصوا منه الكثير من الدروس والعبر.

ومن المؤكد أن نجاح أي دعوة، والنصر في أي معركة، لا بدّ لهما من توفر عاملين أساسيين مهمين هما:

العامل الأول: الإعداد الصحيح الذي أمرنا به الله سبحانه به بقوله: (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة)1

أما العامل الثني: فهو صدق التوكل على الله، وعظيم الثقة به، وتمام الالتجاء إليه، ولقد كان هذان العاملان حاضرين بكل وضوح في هجرة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى المدينة المنورة.

ولا شك أن الإعداد المادي، وتهيئة الرجال المؤمنين بالدعوة، والذين رباهم النبي صلى الله عليه وسلم، التربية الإيمانية العظيمة في مكة قبل الهجرة، ثمّ تهيئة الأرض الصلبة لتثبيت هذه الدعوة في أرض المهجر، عن طريق إعداد مجموعة من رجال الأنصار لحمايتها والدفاع عنها، رجال أعدهم النبي صلى الله عليه وسلم خلال عامين من الزمن، وأخذ عليهم البيعة بأن يحموا الدعوة وصاحبها، وينصروا النبي صلى الله عليه وسلم، ويمنعوه مما يمنعون منه أنفسهم وأهليهم، ويقاسمون إخوانهم المهاجرين أرضهم وأموالهم.

بالإضافة إلى الأخذ بكل الأسباب المادية للنجاح، كالسرية التامة في التخطيط والتنفيذ، والخروج ليلاً، وإبقاء سيدنا علي بن أبي طالب نائماً في فراش النبي صلى الله عليه وسلم ، ومتدثراً بلحافه، ليوهم المشركين، الذين كانوا متحلقين حول بيته، يتربصون به، ويريدون قتله، ثمّ اختيار الصحبة الصالحة، وإعداد وسائل السفر القوية، كالرواحل التي اشتراها سيدنا أبو بكر الصديق، واستئجار دليل خبير بالطرقات، التي لا يسلكها الناس عادة، وإعداد الزاد، وتوصيله بسرية تامة، عن طريق امرأة لا يشك في أمرها، وهي أسماء بنت أبي بكر، التي لقبت بذات النطاقين لأنها شقت نطاقها شقين، ورطت بأحدهما زاد رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبه رضي الله عنه ، ثم تتبع أخبار كل التحركات والمؤامرات التي تقوم بها قريش، وإيصال هذه الأخبار مباشرة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو في الغار عن طريق عبد الله بن أبي بكر، رضي الله عنه ، ثم محو آثار أقدامه بمرور أغنام عامر بن فهيرة فوقها، ثم سلوكه صلى الله عليه وسلم طريقاً مغايراً لما يسلكه الناس في طريقهم إلى المدينة المنورة عادة.

وبعد كل هذا الاعداد القوي، والأخذ بكل هذه الأسباب المادية لنجاح الهجرة والدقة في التخطيط لها تنفيذها.

يظهر أثر العامل الثاني وهو: صدق الإيمان بالله، وتمام الثقة به، وحسب الالتجاء إليه والتوكل عليه، واستشعار المعية معه في كل خطوة خطاها النبي صلى الله عليه وسلم في طريق الهجرة

لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، على ثقة عظيمة بوعد الله له بالنصر والتمكين، وانتشار هذه الدعوة في مشارق الأرض ومغاربها، بل إن هذه الثقة كانت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ أن اختاره الله سبحانه لحمل أعباء هذه الدعوة، وواجها كفار قريش بكل صلف وعناد، وأذاقوا المؤمنين الأولين بها أصناف القهر والعذاب، حتى أن بعض أصحابه جاؤوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وشكوا له إيذاء المشركين لهم، فكان جوابه يحمل في طياته هذه الثقة العظيمة بصدق وعد الله له بالنصر والتمكين في الأرض، كما جاء في حديث خباب رضي الله عنه، الذي رواه الإمام البخاري في صحيحه .

فعَنْ أَبِي عَبْدِاللهِ خَبَّابِ بْنِ الْأَرَتِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: شَكَوْنَا إِلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ متَوَسِّدٌ بُرْدَةً لَهُ في ظلِّ الْكَعْبَةِ، فَقُلْنَا: أَلَا تَسْتَنْصِرُ لَنَا أَلَا تَدْعُو لَنَا؟ فَقَالَ: «قَدْ كَانَ مَنْ قَبْلَكُمْ يُؤْخَذُ الرَّجُلُ فَيُحْفَرُ لَهُ فِي الْأَرْضِ، فَيُجْعَلُ فِيهَا، ثُمَّ يُؤْتَى بِالْمِنْشَارِ فَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ فَيُجْعَلُ نِصْفَينِ، وَيُمْشَطُ بِأَمْشَاطِ الْحَدِيدِ مَا دُونَ لَحْمِهِ وَعَظْمِهِ، مَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ، وَاللهِ لَيُتِمَّنَّ اللهُ هَذَا الْأَمْرَ حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعَاءَ إِلَى حَضْرَمَوْتَ لَا يَخَافُ إِلَّا اللهَ وَالذِّئْبَ عَلَى غَنَمِهِ، وَلَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ

وبرز هذا الجانب من الإيمان بالله والثقة بمعيته، وذلك اليقين الراسخ الذي لا تزعزِعُه عواصِف الباطل، وظهر جلياً في حالِ هذَين المهاجرَين الكريمَين، حين عظُم الخَطب وأحدَق الخطرُ ليلة خروج النبي صلى الله عليه وسلم مع صاحبه أبي بكر ، والتجائهما إلى غار ثور، خوفا من أن تدركهما عيون المشركين المتربصين بهما، وعندما لحق بهما الكفار ووصلوا إلى الغار، ووقفوا على بابه شعر سيدنا أبو بكر بشيء من الخوف وتوجه إلى النبي صلى الله عليه وسلم قائلاً: يا رسول الله؛ لو نظر أحدهم موضع قدميه لرآنا، فأجابه النبي صلى الله عليه وسلم واثقا بمعية الله وموقنا بوعده ونصره يا أبا بكر؛ ..

ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟

عندها استشعر أبو بكر عظم هذه المعية،

وأي معيّةٍ هذه المعية؟

إنّها المعيّة الخاصّة، التي تكون بالتّأييد والتّوفيق والحِفظ والمعونةِ والنّصر، وقد جعلها الله تعالى لأوليائِه المتّقين المحسِنين الذين آمنوا به حق الإيمان، وأطاعوا أمره، وقاموا بحق الله في إعداد العدة والأخذ بالأسباب المطلوبة، ومن أحق بهذه المعية من سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبه سيدنا أبي بكر الصديق

نعم أحس سيدنا أبو بكر بهذه المعية، فهدأت نفسه واطمأن إلى صدق قول الله تعالى :(إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا ۖ فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا، وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَىٰ ۗ وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا ۗ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) 2

قال النووي: معناه ثالثهما بالنصر والمعونة والحفظ والتسديد، وهو داخل في قوله تعالى: (إِنَّ اللهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ 3(

ومكث رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبه في الغار ثلاث ليال، حتى إذا نقطع عنهم الطلب، خرجا وسارا باتجاه المدينة المنورة، وقد يئس المشركون من إدراكهما، وأعلنوا أنهم قد جعلوا مئة ناقة، جائزة لمن يأتي بمحمد صلى الله عليه وسلم وصاحبه حيا أو ميتاً، واستطاع أحد المشركين أن يرى النبي صلى الله عليه وسلم من بعيد، فانطلق مسرعًا إلى رجل يدعى سراقة بن مالك الأشجعي، وقال له: يا سراقة، إني قد رأيت أناسًا بالساحل، وإني لأظنّهم محمدًا وأصحابه، فعرف سراقة أنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وأراد أن ينفرد بالجائزة عن قومه فأنكرهم، واحتال للخروج منفرداً عنهم، ولحق برسول الله صلى الله عليه وسلم، يريد أن ينال منه.

ويصف سيدنا أبو بكر رضي الله عنه، ما حدث مع سراقة، فيقول: فارتحلنا بعد ما مالت الشمس، وأتبعنا سراقة بن مالك، فقلت: أُتينا يا رسول الله، فقال: «لا تحزن إن الله معنا»، ودعا عليه النبي صلى الله عليه وسلم، فساخت يدا فرسه في الرمل، وارتطمت به فرسه إلى بطنها، فقال سراقة: إني أراكما قد دعوتما عليَّ، فادعوَا لي، فالله لكما ـ أي لكما عهد الله ـ أن أرد عنكما الطلب، فدعا له النبي صلى الله عليه وسلم فنجا، وخرجت قوائم فرسه من الرمل، فجعل لا يلقى أحدًا إلا قال: كفيتكم ما هنا، يعني لا تفتشوا في هذه الناحية فقد قمت بذلك، ولم أر أحداً فيها، فلا يلقى أحداً إلا رده، قال أبو بكر رضي الله عنه: ووفَّى لنا

قال أنس: فكان (سراقة) أول النهار جاهدًا (يعني مبالغًا في البحث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومحاولة إيقاع الأذى به)، وكان آخرَ النهار مَسْلَحةً له (أي حارسًا له بسلاحه).

وفي رواية أنّ النّبي صلّى عليه وسلم، قال لسراقة: كيف بك يا سراقة؛ إذا ألبسك الله سواري كسرى وتاجه؟ وتعجب سراقة والتبس الأمر عليه، إذ كيف لرجل هارب، ومطلوب من قومه، أن يعد مثل هذا الوعد؟ فقال: كسرى بن هرمز؟ يعني كسرى ملك الفرس؟ شيء لا يصدق؛ لكنه الإيمان العظيم والثقة التامة بصدق وعد الله له، جعلت النبي صلى الله عليه وسلم يؤكد الأمر ويقول: نعم كسرى بن هرمز

وتحقق وعد رسول الله صلى الله عليه وسلم لسراقة، وفتحت بلاد الشام والعراق في عهد سيدنا عمر بن الخطاب، ونقلت كنوز كسرى إلى المدينة المنورة، مع اعرابي مسلم فقير، ودعا سيدنا عمر الناس للاجتماع في المسجد، ثم قام فخطب الناس، وبين يديه كنوز كسرى، فكان مما قال: أيها الناس؛ إن قوما أدوا هذا لأمناء، فقام رجل يرد عليه: يا أمير المؤمنين؛ عففت فعفت الرعية، ولو رتعت لرتعوا، ثم نادى سيدنا عمر سراقة بن مالك، وقال له ارفع: يديك، والبسه السوارين قائلاً: الحمد لله الذي سلبهما كسرى بن هرمز وألبسهما سراقة بن مالك، وصدق الله وتحقق وعد رسول الله صلى الله غليه وسلم.

إنه الإيمان بالله وصدق التوكل عليه وتمام الثقة بوعده.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين