الهجرة وتأسيس مفهوم الأمة الواحدة

 
محمد ياسر عرنوس
 
             مع بداية العام الهجري تحلو الذكريات , وأجمل الذكريات ذكريات النبي صل الله عليه وسلم , لا باعتبار شخصه فقط , وإنما باعتباره الترجمان لكتاب الله تعالى في حياته وفي أفعاله وأقواله وأخلاقه , حيث تندمج في حياته عليه الصلاة والسلام شخصيته المفسرة لكتاب الله تعالى مع وحي الله عز وجل .
        ومن ذكرياته عليه الصلاة والسلام كمفسر للوحي توضيحه لمفهوم الهجرة . فليست الهجرة انتقال من مكان إلى مكان وإنما انتقال من حالة إلى حالة , ومن خلق إلى خلق , ومنهج حياة إلى منهج آخر .
      " فالمهاجر من هجر ما نهى الله عنه" حسب تفسير الرسول صلى الله عليه وسلم , والهجرة المفهومة هي ما نفهمه من أول حديث نحفظه , وهو الحديث الذي بدأ به الإمام البخاري في صحيحه وهو قوله عليه الصلاة والسلام :
" إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إالى الله ورسوله ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه "
 شتان بين الهجرتين وشتان بين الطريقين وشتان بين المقصدين , هذا هجرته إلى الله ورسوله أي إلى ما يحبه الله ورسوله
وذاك لم يتحرر من أطماعه ومصالحه , واحد طموحه الله ورسوله وآخر أعلى طموحاته دنيا أو مال أو امرأة .....
 
     هذا وقد كانت هجرته عليه الصلاة والسلام تحولاً تاريخياً في حياة أهل الأرض عربها وعجمها , فقبل الهجرة كانت بلاد العرب قبائل متصارعة تحكمها العنصرية والتفرقة والتفاخر بالأنساب,بل والصراع والغزو. وكانت ثقافتهم تغذي ذلك في شعرهم ونثرهم فشاعرهم يقول :
 
     وهل أنا إلا من غزية إن غوت                 غويت وإن ترشد غزية أرشد
 
وآخر يقول
 
             إذا بلغ الفطام لنا صبي                تخر له الجبابر ساجدينا
 
بل كانت العنصرية تضرب جذورها في كل البلاد , ففي الشرق طبقات المنبوذين , وفي الغرب المستعبدين , وهكذا كانت الأرض قبل الهجرة في جاهليتها .
             
و جاء الرسول عليه الصلاة والسلام إلى المدينة المنورة ليجد قبائل المهاجرين وقبائل الانصار وقبائل المشركين وقبائل اليهود , وهو في المدينة الرسول الحاكم فما كان منه وهو المفسر العملي لكتاب الله تعالى , إلا أن وضع لأهل المدينة وثيقة تحكم العلاقة بين الناس في المدينة , بل تعد أول دستور مكتوب يوضح حقوق الإنسان في الدولة , وقانون الدول بين بعضها .
 
         وبدأ الوثيقة بأهم مفهوم ينبغي التعامل على أساسه وهو قوله :" هذا كتاب من محمد النبي بين المؤمنين والمسلمين من قريش ويثرب , ومن تبعهم فلحق بهم وجاهد معهم أنهم أمة واحدة من دون الناس "
 
    بهذا البند العظيم من قانون الوثيقة المدنية تعطي الهجرة تحولاً هائلاً بين منهج حياة سابق إلى منهج حياة جديد , منهج الأمة الواحدة التي تنضوي تحته كل القبائل والعناصر البشرية , فكل من شهد بأن لاإله إلا الله وأن محمداًرسول الله أضحى فرداً من أمة الإسلام , وبمقولته تلك ذوَّب ما كان من تفاخر وتصارع وعنصرية , وجعل القبائل كلها في مستوى واحد , والأفراد أيضاً في طبقة واحدة , وهذا ما لم تسمع به العرب والعجم قبل ذاك.
 
      وبهذه المقولة صار سلمان الفارسي في مرتبة واحدة مع علي بن أبي طالب , و بلال الحبشي مساوياً لأبي بكر الصديق, وصهيب الرومي معادل مع عمر بن الخطاب , وأبو هريرة الدوسي في طبقة عثمان بن عفان , اللهم إلا ما يتميز واحد منهم عن الآخر بالتقوى والعمل الصالح .
       وتترجم هذه المقولة قوله تعالى :" يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم "
 
             فلم يلغ الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام القبائل , وإنما ألغى ما بينها من تفاضل وتصارع , ولم يلغ الرسول الأنساب والشعوب , بل أكد على مناقب القبائل بأحاديث أخرى كقوله عليه الصلاة والسلام : " سليم سالمها الله "و " غفار غفر الله لها "
 
و" أشد أمتي على الدجال بنو تميم " وغيرها من أحاديث المناقب , ولكنه ألغى نظرات الانتقاص , وعصبية الصراع والشقاق , وأرسى أصل التعارف بين القبائل والشعوب , وأصل الأمة الواحدة لكل المسلمين , وأصل التعاون والتكامل.
 
       وبهذا بدأ عصر جديد من تاريخ الإنسانية , عصر حقوق الإنسان , وعصر حوار الحضارات , ومن هنا كانت البداية .
       وإذا كان مجال التمايز بين الناس بعد ذلك بالتقوى وصلاح العمل , وكانت التقوى أمراً قلبياً خفياً كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم " التقوى ههنا " وأشار إلى صدره الشريف , وإذ كان ذلك وكنا لا نملك في الدنيا موازين دقيقة لقياس معيار التقوى عند كل واحد , وإنما يظهر ذلك في موازين الآخرة " ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئأ وإنم كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين " , فلا مجال وهذه الحالة لأحد أن يفخر في الدنيا على أحد , ولا لقبيلة أن تفخر على قبيلة , ولا لشعب أن يفخر على شعب .
 
      هذه هي الهجرة وهذا تجديدها , هذا معناها يظهر بعد هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقوله " هذا كتاب من محمد النبي بين المؤمنين والمسلمين من قريش ويثرب ومن لحق بهم وجاهد معهم أنهم أمة واحدة من دون الناس "
صلى الله على معلم الناس الخير وعلى آله وصحبه وسلم     
    خطبة الجمعة 2- المحرم -1434هـ

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين