الهجرة مبدأ التوحيد والوحدة

العلامة محمد مصطفى المراغي

 في سبيل الله هاجر سيدنا محمد صلوات الله وسلامه عليه إلى يثرب، هاجر ليجاهد الشرك بالتوحيد، ويعالج الشتات بالوحدة، والتوحيد هو روح الإسلام وجوهره، وسبيل الرسول وغايته، وليس للتوحيد الذي تضمن سرَّ الدين كله مقصوراً على ما تعارفه الناس من تنزيه الله سبحانه وتعالى عن الشريك والند، وإنما يشمل كل ما يكفل للأمة وللإنسانية الألفة والوحدة والتعاون، من توحيد الله وتوحيد العقيدة وتوحيد الكلمة وتوحيد الغاية وتوحيد الدنيا والدين.
وفي سبيل التوحيد في شتى مظاهره، كابد الرسول صلى الله عليه وسلم ما كابد من عنت الشرك وسفه الجهالة وإفراط العصبية.
دعا إلى توحيد الله، وقد كانت الآلهة تتعدد بتعدد القوى والقبائل والأمم، وكان الإنسان أهون على نفسه من الحيوان والشجر والحجر فعبد ما لا يضر ولا ينفع : [وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ] {الأنعام:80} .
ثم دعا إلى توحيد الرأي والجهد فألَّف بين الأوس والخزرج، وآخى بين المهاجرين والأنصار، فأصبحوا أشدَّاء على الكفار رحماء بينهم، ثم عاهد بين المسلمين واليهود فانطفأت في المدينة بعد الهجرة نار العداوة بين الأهل والأهل وبين الجيرة والجيرة : (إن المؤمنين والمسلمين من قريش ويثرب ومن تبعهم فلحق بهم وجاهد معهم أمة واحدة من دون الناس... وإنَّ اليهود أمة من المؤمنين لهم النصر والأسوة غير مظلومين ولا متناصر عليهم...، وإن الجار كالنفس غير مضار ولا آثم) ـ من الصحيفة التي كتبها الرسول صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين و الأنصار واليهود ـ .
ثم دعا الذين فرَّقوا دينهم وكانوا شيعاً إلى توحيد العقيدة بالرجوع إلى مصدرها الصافي وجوهرها الحق: [قُلْ يَا أَهْلَ الكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ] {آل عمران:64}.
[قُلْ آَمَنَّا بِاللهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ] {آل عمران:84} .
ثم دعا الرسول صلى الله عليه وسلم إلى توحيد الإنسانية بمحو العصبية القبلية وقتل النعرة الجنسية وتغيير القياس لدرجات الناس، فجعل التقديم والتكريم بالتقوى، وبذلك زالت الفروق الاجتماعية بين الباهلي والقرشي، وبين الفقير والغني، وبين الأسود والأحمر: (إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، كلكم لآدم وآدم من تراب، إن أكرمكم عند الله أتقاكم، لا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى) ـ من خطبة الوداع ـ .
ثم واءم بين الدنيا والدين وقد كانت الشرائع الأخرى تفصل بينهما كل الفصل، فجعل اليهودُ الكهانة في الملاويين ثم انصرف سائرهم إلى الصفق والاجتراح. ودعا المسيحيون إلى الرهبانية والنسك وترك ما لقيصر لقيصر، ولكن الإسلام جعل الدين للدنيا كالروح للجسم، فلا نعمل إلا بوحيه، ولا نسير إلا بهديه، فكان خليفة الرسول هو ملك الناس، وكان إمام المصلين هو قائد الجنود.
وأنت إذا نظرت في حياة الرسول بالبصيرة، وبحثت في أصول الإسلام بالروية، وجدت مبدأ التوحيد والاتحاد مرمى كل عمل وأساس كل قاعدة، وبفضل التوحيد والوحدة جعل الله العرب القلال الضعاف أئمة للناس وورثة لكسرى وقيصر.
فلما انشقت العصا وتمزق المسلمون ونسوا الله وفصلوا بين دينه ودنياهم، ضعفوا ولانوا واستكانوا وأصبحوا بين الأمم القوية قطعاناً تُسام وسلعاً تساوم...
لقد آن للمسلمين أن يرجعوا إلى ما دعا إليه نبيهم، ويتبعوا ما صلح عليه أولهم، فيوحد زعماؤهم الجهود، وتحدد أحزابهم الخطط، وتستعد شعوبهم للقيام بنصيبهم الأكبر من بناء حضارة روحية جديدة تقوم على العدل، وتستقيم بالمساواة، وتستضيء بالدين، ويرتفع في جنباتها المترامية ذكر الله: [وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ المُنْكَرِ وَللهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ] {الحج:41} .
وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.
المصدر: مجلة الرسالة 22محرم 1358هـ العدد 297.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين