النفاقُ وعلاماتُه ومضارُّه

الحمدُ للهِ الذي {لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير (2) هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيم(3)}[الحديد]، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ لهُ، وأشهدُ أنَّ سيدَنا محمداً عبدُهُ ورسولُهُ، اللهمَّ صلِّ وسلمْ وباركْ على سيدِنا محمدٍ، المتعوذِ منْ النفاقِ، المحذرِ منْ آفاتِه، وعلى آلِه وأصحابِه والتابعينَ، المتحلينَ بالصدقِ، البالغينَ فيهِ أسمى غاياتِه.

وبعدُ أيُّها المسلمونَ! قالَ سيدُنا رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلاثٌ: إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ). رواه البخاري في كتاب الإيمان 32، ومثله مسلم 89، عن أبي هريرة رضي الله عنه.

الآيةُ: هيَ العلامةُ والأمارةُ، والمنافقُ: هوَ الذي يظهرُ شيئاً، ويخفي في نفسِه ضدَّه.

أيُّها المسلمونَ: الفضائلُ النفسيةُ محمودةٌ عندَ اللهِ تعالى وعندَ الناسِ، وقدْ أثنى اللهُ عزَّ وجلَّ عليها، ووعدَ المتخلقينَ بها وعداً حسناً فمنْ تلكَ الفضائلِ مطابقةُ ظاهرِ الإنسانِ لما في باطنِه، وموافقةُ أقوالِه وأفعالِه لما يكنِّه في نفسِه، وعلامةُ هذِه الفضيلةِ فيهِ، أنَّه إذا حدثَ صدقَ، وإذا وعدَ وفى، وإذا ائتمنَ أدى الأمانةَ.

هذِه الفضيلةُ المحمودةُ تقابلُها رذيلةٌ مذمومةٌ، وهيَ النفاقُ، وهوَ أنْ يظهرَ الإنسانُ شيئاً، ويخفي في صدرِه ما يخالفُه، وتخدعُه نفسُه فيظنُ أنَّ الناسَ يخفى عليهِم ما أبطنَه، وأنَّهم لا يقفونَ على حقيقةِ ما أضمرَه، ولكنَّ الأمرَ على خلافِ ما زعمَ، ولهذا أرشدَنا الرسولُ صلى الله عليه وسلم إلى بعضِ العلاماتِ التي نتبينُ بها نفاقَ المنافقينَ.

العلامةُ الأولى: أنَّه إذا حدثَ غيرَه حديثاً كذبَ فيه، غيرَ مكترثٍ بما يترتبُ على الكذبِ منْ المذامِّ والمفاسدِ.

ألمْ يعلمْ هذا الكاذبُ أنَّه بجرأتِه على الكذبِ قدْ امتهنَ نفسَه واحتقرَها به، كما أنَّه امتهنَ منْ يحدثُهم واستخفَّ بِهم؟ فلو أنَّه أكرمَ نفسَه وغيرَه لاستحيا أنْ يدنسَ نفسَه بهذِه الرذيلةِ، وأنْ يقذرَ لسانَه بهذِه الفاحشةِ، وأنْ يضعَ نفسَه وغيرَه موضعَ المقتِ والصغارِ.

ألمْ يعلمْ أنَّ كذبَه هذا قدْ يؤدي إلى ضررٍ عظيمٍ وشرٍّ مستطيرٍ، كتلفِ نفوسٍ، أو ضياعِ أموالٍ، أو تقطيعِ أرحامٍ، أو خرابِ ديارٍ، إلى غيرِ ذلكَ منْ المفاسدِ والمضارِ؟

العلامةُ الثانيةُ: أنَّه إذا وعدَ وعداً أخلفَه، وهذِه أيضاً رذيلةٌ ممقوتةٌ، تدلُ على أنَّ صاحبَها لا قدرَ له ولا مروءةَ، ذلكَ أنَّ إخلافَ الوعدِ بغيرِ عذرٍ صحيحٍ دليلٌ على أنَّ ذلكَ المخلفَ لا يقيمُ لنفسِه ولا لغيرِه وزناً، ولا يجعلُ لذلكَ العهدِ الذي أوجبِه على نفسِه قيمةً، ولا يبالي بما يعودُ على الناسِ منْ ضررٍ.

العلامةُ الثالثةُ: أنَّه إذا ائتمنَه أحدٌ على أمانةٍ خانَها ولمْ يرعَ حقَّها، والأمانةُ: هيَ كلُّ شيءٍ لهُ قدرٌ، يجعلُ في عهدةِ آخرٍ، ليقومَ عليهِ بما يجبُ لهُ منْ الحفظِ والرعايةِ، وذلكَ يشملُ عدةَ أنواعٍ منْ الأمانةِ.

فمنْها التكاليفُ الشرعيةُ، والشريعةُ السمحةُ المطهرةُ، التي أرسلَ اللهُ بها رسولَه الأكرمَ، فحفظُها ورعايتُها يكونانِ بالعملِ بما جاءَ فيها منْ فعلِ المأموراتِ وتركِ المنهياتِ، وخيانتُها تكونُ بنبذِها والاستخفافِ بها، وتركِ الواجباتِ والوقوعِ في المنهياتِ.

ومنْها الأمانةُ الخاصةُ بالإنسانِ نفسِه، وهيَ حياتُه وعرضُه، ومالُه ونسبُه، وعقلُه وصحتُه... فحفظُها يكونُ بالحرصِ عليها، ووقايتُها منْ كلِّ ما يضرُّها أو يشينُها أو يضيّعُها: وخيانتُها تكونُ بالتفريطِ في شيءٍ منْ ذلكَ.

ومنْها الأمانةُ العامةُ، وهيَ الحقوقُ التي يضعُها أصحابُها عندَ غيرِهم ليحفظوها لهم، ويرعوها ثمَّ يؤدوها إليهم إذا طلبوا ردَّها، وذلكَ كمنْ يأتمنُ غيرَه على مالِه أو عرضِه، أو سرٍ منْ أسرارِه، أو نحوِ ذلكَ، فحفظُ ما ذكرَ ورعايتُه، يكونانِ بما بيناهُ في الأمانةِ الخاصةِ، وخيانتُه بضدِّ ذلكَ.

وخلاصةُ القولِ أنَّ كلَّ واحدٍ منْ هؤلاءِ الثلاثةِ المذكورينَ في الحديثِ الشريفِ منافقٌ؛ لأنَّ الكاذبَ في حديثِه قدْ أوهمَ الناسَ أنَّ حديثَه بلسانِه موافقٌ لما في قلبِه، ولكنَّ ظهورَ كذبِه كانَ علامةً على أنَّه أظهرَ نقيضَ ما أخفاهُ فكانَ لهذا في عدادِ المنافقينَ، ونظيرُه في ذلكَ المخلفُ لوعدِه، الخائنُ في أمانتِه، فإنَّ تخلفَهما عنْ الوفاءِ ربما قطعاهُ على أنفسِهما منْ إنجازِ الوعدِ وحفظِ الأمانةِ، أمارةٌ صادقةٌ على أنَّهما كانا يضمرانِ خلافَ ما أظهراه، منْ إيفاءِ الوعدِ , ورعايةِ الأمانةِ، وذلكَ هوَ النفاقُ الذميمُ.

فاتقوا اللهَ أيُّها المسلمونَ، وتحلوا بصفاتِ المؤمنينَ الصادقينَ، وطهروا نفوسَكم منْ صفاتِ المنافقينَ؛ لتكونوا عندَ اللهِ منْ الفائزينَ المفلحينَ.

{قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُون (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاَتِهِمْ خَاشِعُون (2) وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُون (3) وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُون (4) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُون (5) إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِين (6) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاء ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُون (7) وَالَّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُون (8) وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُون (9) أُوْلَئِكَ هُمُ الْوَارِثُون (10) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُون(11)}[المؤمنون]

أقولُ هذا، وأستغفرُ اللهَ العظيمَ، لي ولكمْ ولسائرِ المسلمينَ.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين