النظافة

أذيعت من إذاعة حلب صباح الخميس 19 من شوال 1377، تقبلها الله مني.

أيها المستمع الكريم، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد.

فعنوان حديثي اليوم: النظافة.

إن النظافة في نظر الإسلام من أهم الأمور التي ترتكز عليها سلامة الإنسان واستمرارُ وجوده واستطاعتُه القيامَ بواجبه في هذه الحياة، ولهذا عُنِيَ الإسلام بها عناية كبرى، حتى جعلها من فروض الدين التي تتوقف عليها صحة العبادة، كما جعلها من متممات الإيمان والعقيدة، وطالب المسلمَ بها عند كل مناسبة، وفي جميع الشؤون والأحوال، فقد طالبه أن يكون نظيفاً في ثيابه، ونظيفاً في طعامه وشرابه، نظيفاً في جسمه، نظيفاً في بيته، نظيفاً في حيه وطريقه، ونظيفاً في كافة وسائل حياته.

ولم يكن أمرُ الإسلام بالنظافة قاصراً على نظافة الجسم ومرافق الحياة، بل تناول إلى جانب ذلك العنايةَ بنظافة باطن الإنسان وداخله، فطالبَ المسلمَ أن يكون نظيفَ الصدر من الحقد والعداوة، سليمَ القلب من الغِلِّ والضغينة، نقيَّ النفس من الشوائب والكدورات.

وحديثي اليوم قاصر على الناحية الأولى، وهي نظافة الجسم وما إليه، ويكفي في تحصيلها ما شرعه الإسلام من الوضوء والاغتسال، قال الله تعالى في سورة المائدة: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ وَإِن كُنتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُواْ﴾.

وقد بيَّن حديثُ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الوضوء الذي فرضه الله تعالى على كل مسلم عند كل صلاة، وذلك بأن يغسل يديه وفمه وأنفه، ووجهه وذراعيه وقدميه، ويمسح أذنيه ورأسه بماء طاهر طهور، يفعل هذا كله خمس مرات في اليوم الواحد، وقد رَغَّبَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم في استيعاب هذه الأعضاء بالغسل والتنظيف، وبَيَّنَ ثوابَ فاعلِ ذلك فقال: وإنَّ أمتي يُدْعَونَ يوم القيامة غُرّاً مُـحَجَّلينَ - أي بيضَ الوجوه والأطراف - مِنْ آثار الوضوء، فمن استطاع أن يُطيلَ غُرَّته فليفعل. وبيَّن أثرَ تكرار هذه النظافة خمس مرات في اليوم كيف يُنَقِّي الجسمَ من أوساخه تمام التنقية، كما يكون فيه تكفيرٌ لبعض الخطايا والذنوب، فقال صلى الله عليه وسلم: أرأيتم لو أن نهراً على باب أحدكم يغتسل منه كل يوم خمس مرات، هل يبقى من دَرَنِهِ - أي وسخه - شيء؟ قالوا: لا. قال: فذلك مَثَلُ الصلوات الخمس يمحو الله بهن الخطايا.

والى جانب هذا الوضوء المتكرر في اليوم خمس مرات، المجدِّدِ للنظافة، دعا الإسلامُ إلى غسل الجسم كله في مناسبات كثيرة كأيام الأعياد ويوم الجمعة، وقبل إحرام المحرم بالحج أو العمرة، وقبل دخوله عرفة، وفي حالات حدوث الجنابة، وعقب الحيض والنفاس.

بل قد وَقَّتَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم للفرد المسلم أن يغتسل كل سبعة أيام، ولا ينبغي أن يجاوزها دون استحمام واغتسال، رعاية لنظافة بدنه، وحفظا على صحته وطيب رائحته، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: حقٌ على كل مسلم أن يغتسل في كل سبعة أيام؛ يوماً يغسل فيه رأسه وجسمه. وقال أيضاً: اغتسلوا يوم الجمعة، واغسلوا رؤوسكم وإن لم تكونوا جُنبا، وأصيبوا من الطِّيب. فأمر إلى جانب الاغتسال بالتطيب أيضاً زيادة في تحصيل النظافة، وحرصاً على إشاعة آثارها المحببة، فإن نظافة الإنسان تزيد في كرامته واعتباره بين الناس، وترفع من منزلته في نفوس إخوانه ومجالسيه.

ولهذا منع الإسلام من أكل ثوما أو بصلا نيئاً غير مطبوخ أن يأتي إلى المسجد، لأنه يَضُرُّ برائحتهما الملائكةَ والمصلين، روى مسلم عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكل البصل والكُرَّاث لمن جاء إلى المسجد، فغلبتنا الحاجةُ فأكلنا منها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من أكل من هذه الشجرة النتنة فلا يقرب مسجدنا، فإن الملائكة تتأذى مما تتأذى منه الإنس.

وكما طالبَ الإسلامُ المسلمَ بنظافة جسمه وأطرافه، طالبه بنظافة ثيابه ومسكنه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أحسنوا لباسكم وأصلحوا رِحالكم - أي بيوتكم ومساكنكم- حتى تكونوا كأنكم شامة في الناس، فإن الله لا يحب الفحش ولا التفحش. فيدعونا الرسول صلى الله عليه وسلم بهذا الحديث الشريف إلى أن نكون معشر المسلمين ممتازين عن سائر الناس بحسن الثياب ونظافتها، ونقاء المنازل وطهارة غرفها وأفنيتها، مع إصلاحها وترتيبها أحسن ترتيب، حتى نصبح في الناس كالشامة التي تكون في الوجه تزيده جمالا، وتضفي عليه بهاء ورونقا.

ولم يكتف الإسلام بهذا الترغيب في دعوته إلى نظافة الثياب وطهارتها، بل حذَّرَ تحذيراً شديداً من إهمال شأنها حتى تتلوث أو تصيبها نجاسة، روى البخاري ومسلم وغيرهما عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: مر النبي صلى الله عليه وسلم بقبرين، فقال: إنهما - يعني صاحبي القبرين - يُعذَّبان في قبورهما، وما يعذبان في كبير، إما أحدهما فكان لا يتوقى من بوله، وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة. وروى الحاكم في المستدرك عن أبي هريرة أن رسول الله سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم قال: استَنْـزِهوا من البول، فإنَّ عامة عذاب القبر منه. ولا غرابةَ أن يكون هذا الوعيد الشديد لمن تساهل في نظافة ثيابه ووقايتها من النجاسات والأوضار، وذلك لأن النظافة في نظر الإسلام حق مشترك بين جميع أفراد الأمة، يُطالَبون به جماعات ومنفردين، في أنفسهم وملابسهم ومنازلهم وطرقهم وسائر شؤونهم، وقد رأى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه رجلا يمشي وإزاره يزحف على الأرض، فضربه بمِخصَرة كانت في يده، وقال له: ارفع إزارك لا تأكله الأرض.

وقد دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى القيام بهذا الحق الهام ترهيبا وترغيبا، فجاء عنه في التحذير من إلقاء القاذورات والأوساخ في مأوى الناس أو مجتمعهم أو طريقهم ما رواه مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: اتقوا اللَّعَّانَين - أي الأمرين الجالبين لفاعلهما اللعن – قالوا: وما اللَّعَّانان يا رسول الله؟ قال: الذي يتخلَّى في طريق الناس أو في ظلهم. وقال صلى الله عليه وسلم مرغباً في المحافظة على نظافة الطرق والأماكن العامة، ومبيِّنا ثوابَ من حافظ على نقائها وسلامتها من الأقذار والمؤذيات، قال صلى الله عليه وسلم: مرَّ رجل بغصن شجرة على ظهر طريق فقال: لأُنحِّيَن هذا عن المسلمين لا يؤذيهم، فأُدخِل الجنة. وقال أيضاً: عُرِضَتْ عليَّ أعمالُ أمتي حسنُها وسيِّئُها، فوجدت في محاسن أعمالها: الأذى يُماطُ عن الطريق، ووجدت في مساوئ أعمالها النُّخاعةُ تكون في المسجد لا تُدفن. والنُّخاعة هي ما يدفعه الإنسان من صدره أو أنفه، ودفنُها سترُها بالتراب.

ولقد سأله الصحابي الجليل أبو بَرْزَة الأسلمي رضي الله عنه فقال: يا نبي الله علمني شيئاً انتفع به؟ فقال صلى الله عليه وسلم: اعزِلْ الأذى عن طريق المسلمين. ولما بيَّن صلى الله عليه وسلم شُعَبَ الإيمان واكتمالَ إيمان المؤمن باكتمالها جعل إماطة الأذى عن الطريق شُعبة من تلك الشعب فقال: الإيمانُ بضع وسبعون شُعبة فأفضلُها: قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطةُ الأذى عن الطريق. وجعلها صلى الله عليه وسلم في حديث آخر صدقة وقُربى فقال: وتُميطُ الأذى عن الطريق صدقة.

فإذا عَلِمنا هذا عَلِمنا ما للنظافة العامة والخاصة من المنزلة في نظر الشرع، ذلك لأن للنظافة الخطورة البالغة في سلامة الأمة من الأمراض والعلل وحياتِها حياة سليمة مستقرة وادعة قوية، وقد حدثنا التاريخ أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه رأى رجلاً قد قصَّ شعره، ثم تركه في السوق ومشى، فعاتبه عمر عتباً شديداً، وأدَّبه على فعله هذا تأديباً شديدا، وقد بيَّن لنا رضي الله عنه بهذا الذي فعله أن أفراد الأمة جميعاً مطالبون بالمحافظة على النظافة، فإذا أخلَّ بذلك منهم مُـخِلٌّ، أُدِّبَ وعوقب، لأنه أخل بحقٍّ حيوي مشترك.

وبهذا ندرك الآثار السيئة التي تكون من بعض المهملين الذين يلقون بالأوساخ إلى وسط الشارع والطريق، غير مبالين بما يترتب عليها من أضرار صحية وغير صحية، وأسوأ من هؤلاء: أناس يَطْعَمُون بعض الفاكهة كالموز مثلا ثم يرمون بقشره على الأرض، فيكون مزلقة للأقدام، ومدعاة لأذى الناس، ألا فليعلم هؤلاء أن عملهم هذا مجانب لآداب الإسلام والنظافة التي دعا إليها، وقد قال رسول الله سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم: من آذى المسلمين في طُرُقِهم وَجَبَتْ عليه لعنتُهم. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

من كتاب:" أيها المستمع الكريم" إعداد ومراجعة: محمد زاهد أبو غدة

جميع المواد المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين