النسخ في القرآن الكريم

ورد إلي سؤال من قبل الباحث القرآني المعروف الأستاذ نعمان علي خان المقيم في الولايات المتحدة الأمريكية: ما معنى قوله تعالى: "ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها"؟ (سورة البقرة الآية 106)، وهل وقع النسخ في القرآن الكريم؟

الجواب:

قلت: تتحدث الآية المذكورة عن نسخ شرائع اليهود بالقرآن الكريم، قال القرطبي: "وسببها (أي سبب نزول الآية السابقة) أن اليهود لما حسدوا المسلمين في التوجه إلى الكعبة وطعنوا في الإسلام بذلك، وقالوا: إن محمدا يأمر أصحابه بشيء ثم ينهاهم عنه، فما كان هذا القرآن إلا من جهته، ولهذا يناقض بعضه بعضا، فأنزل الله : "وإذا بدلنا آية مكان آية"، وأنزل "ما ننسخ من آية"، وقال الزمخشري: "روي أنهم طعنوا في النسخ، فقالوا: ألا ترون إلى محمد يأمر أصحابه بأمر ثم ينهاهم عنه ويأمرهم بخلافه، ويقول اليوم قولا ويرجع عنه غدا؟ فنزلت".

وعدَّى عامة العلماء هذه الآية إلى نسخ القرآن بالقرآن، واستعمل المتقدمون منهم النسخ بمعناه اللغوي المعروف الذي هو إزالة شيء بشيء، ويدخل فيه تخصيص العام، وتقييد المطلق، وصرف الكلام عن المعنى المتبادر إلى غير المتبادر، وإزالة عادة من العادات الجاهلية، ورفع شريعة من الشرائع السابقة، فاتسع باب النسخ عندهم وأفرطوا في موضوعه، حتى بلغت الآيات المنسوخة لدى بعضهم إلى خمسمائة آية، ولعلها تجاوزتها.

وضيَّق الأصوليون معنى النسخ، فنقص العدد لديهم، والذي رجحه السيوطي في (الإتقان) نقلا عن ابن العربي أن الآيات المنسوخة عددها عشرون، وتعقب عليها الإمام أحمد بن عبد الرحيم الدهلوي في كتابه (الفوز الكبير)، وأنكر النسخ إلا في خمس آيات منها.

وسمعت شيخي الأجل المفسر الكبير شهباز الإصلاحي رحمه الله تعالى يؤول هذه الآيات الخمس كذلك، ويراها محكمات، وأُورد فيما يلي أمثلة لآيات يراها عامة العلماء منسوخة، وهي لها تأويلات سائغة:

1- "لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى" (سورة النساء الآية 43)، ذهب أهل التأويل إلى أن هذه الآية نُسخت بقوله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون" (سورة المائدة الآية 90). قلت: لا نسخ، فالآية الأولى تنهى عن قربان الصلاة في السكر، وهذا النهي محكم، فالمسلم إذا شرب الخمر لم تصح صلاته حتى يصحو من سكره، وهذا النهي ساري المفعول قبل نزول الآية الثانية وبعده، وأما الآية الثانية فهي تنص على تحريم الخمر، وهو أيضًا نص محكم، فثبتت حرمة الخمر بالآية، وقد كان قبل ذلك مباحا شربها أو مكروها.

2- " كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف حقا على المتقين" (سورة البقرة الآية 180)، قالوا: إنها منسوخة بآية "يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين ..." (سورة النساء الآية 11). قلت: لا نسخ، فالآية الأولى تتعلق بشأن، والآية الثانية تتعلق بشأن آخر، إن تفاصيل المواريث محكمة يفرض على المسلمين التزامها، ولكن قد يمكن أن يكون المسلم في مجتمع لا يقر بالمواريث، ولا يسمح إلا بالوصية كما هو الشأن في المجتمعات الغربية المعاصرة، فإذا مات المسلم فيها لم تقسم تركاته حسب آية النساء، ولم يبق للمسلمين حيلة إلا الوصية، ويتحتم عليهم أن يتقيدوا في وصيتهم بمواريث القرآن الكريم ما وجدوا إلى ذلك سبيلا.

3- "واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم فإن شهدوا فأمسكوهن في البيوت حتىٰ يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلا" (سورة النساء الآية 15) قالوا: إنها منسوخة بآية "الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين" (سورة النور الآية 2) قلت: لا نسخ في ذلك، فالمسلمون يعيشون في مجتمعين مختلفين: مجتمع يطبق الحدود، ومجتمع لا يطبقها، فالفرض على المسلمين في المجتمع الأول تطبيق الحد، والفرض عليهم في المجتمع الثاني أن يمسكوا أولادهم الذين بان لهم تعرضهم للفواحش في البيوت، ولعل ذلك يخفف شيوع الفواحش فيهم.

4- "إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين ۚ وإن يكن منكم مائة يغلبوا ألفا من الذين كفروا" (سورة الأنفال الآية 65) قالوا: إنها منسوخة بقوله: "الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين بإذن الله ۗ والله مع الصابرين" (سورة الأنفال الآية 66). قلت: لا نسخ، فالآية الأولى تتعلق بعدد المسلمين إذا قل، والآية الثانية تتعلق بعددهم إذا كثر، فالعدد إذا كان قليلا ازداد التوكل، والتوكل على الله هو الأصل الذي يلزم المسلمين اعتماده، وقد رأينا في كثير من حروب الصحابة رضي الله عنهم ومن بعدهم من المجاهدين المؤمنين في بلاد الشام والعراق ومصر وغيرها من البلدان أنهم قاتلوا أعداءهم وعددهم يضعف عددهم بمرات، وكان النصر حليفهم.

فملخص القول أن القرآن الكريم كله محكم، ثم فصلت آياته، قال تعالى: "الر كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير" (سورة هود الآية 1)، والتفصيل يتضمن تخصيص عام القرآن، وتقييد مطلقه، وبيان شؤون تطبيقه حسب اختلاف شؤون المسلمين عبر الزمان والمكان.

إن كان هذا التأويل فيه شيء من الخير فهو من عند ربنا تبارك وتعالى، وإن كان فيه شيء مما لا تحمد عاقبته فهو من نفسي ومن الشيطان، فأعوذ بالله من الشيطان الرجيم، وأحمد الله رب العالمين.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين