النبي السياسي (2)

 

5 – بُعث الصادق الأمين صلى الله عليه وسلم في وسط قوم من المشركين لا يؤمنون بدين، ولم تعمر قلوبهم بيقين، ولم يقيدوا بشكائم من الفضيلة إلا بقايا من أخلاق المروءة عند أشرافهم، استمسكوا بها حفظاً لكرامة الأرومة وشرف النسب وأرستقراطية المولد. 

وما إن دعا النبيُّ صلى الله عليه وسلم دعوته حتى ناوأه كبراؤهم، واستطالوا بقوتهم ومالهم وأنسابهم ومقامهم في البيت الحرام، ومنزلتهم عند العرب أجمعين، ولم يتَّبع النبي صلى الله عليه وسلم إلا الضعفاء، والعبيد، ومن لا حول له ولا طول، فكان على النبيِّ صلى الله عليه وسلم في بطحاء مكة أن يدبر أمر الدعوة لتنفذ إلى القلوب، وتسير في طريقها، وكان عليه أن يدبر أمر أولئك الضعفاء الذين اتبعوه، ثم يُلاقي أولئك الذين جعلوا منه عدواً وناوءوه، فسالمهم عليه السلام: فيعادونه فلا يعاديهم، ويناوئونه فلا يبعد عنهم بل يدنيهم، فإن استطالوا وأعنتوه قال: (اللهم اغفر لقومي فإنَّهم لا يعلمون).

كانت سياسته في هذا الوقت سياسة الدعوة المجرَّدة التي لا تعتمد إلا الدليل والبرهان، والصبر والمصابرة، وبثَّ روحِ القوة الصابرة في نفوس أنصاره من الضعفاء، وإعزاز نفوسهم بعِزَّة الحق، وعِزَّة الله تعالى، وقد فعل الضعف من قبل في نفوسهم ما فعل، فبدل من استخذائهم كبرياء الحق، حتى إنهم يسامون سوء العذاب فلا يغيرون عقيدتهم تبعاً لهوى جبَّار، مهما تكن سطوته، وهو مع ذلك يتفحَّص قلوب مناوئيه، يجذبُ إليه من يرى فيه نفاذ بصيرة، ونوراً مبصراً وقلباً عامراً، وإن غشاه التعصب بعنجهية ظاهرة ما زال بها حتى يزيلها، وتبدو صفحة القلب قابلة للحق. 

6 - حتى إذا استيئس من أكثر أهل مكة، وقد اتصل بقلوب خيرهم، أخذ يتَّجه إلى القبائل يَعْرِض دينَه عليها، واختصَّ أهلُ يثرب بدعوته ونصرته، حتى إذا وجد في قلوبهم نوراً مُدركاً، بايع نُقباءَهم، واستوثقَ من البيعة مرتين، وهو في ذلك يَنشر دعوته، ويرجو نصرته، ويدبِّر للمستقبل القريب والبعيد. 

حتى إذا حانت الساعة، واجتمعت قريش لتقتله أو تحبسه أو تخرجه، خرج إلى المكان الذي أعدَّه، والمهاجَرِ الذي قدره، وإلى الناس الذين عاهدهم على الإيواء والنصرة، فآووا ونصروا: وقد قال تعالى: [وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ المَاكِرِينَ] {الأنفال:30}.

7 - استقرَّ محمدٌ صلى الله عليه وسلم بالمدينة وفيها أنشأ المدينة الفاضلة، وجمع الأعراب حولها، وكوَّن دولةً إسلامية تدعو إلى الخير، وتأمر بالعروف وتنهى عن المنكر، وتؤمن بالله.

وهنا نرى السياسة الحكيمة في أفق أوسع، وقد أحاطت بها الأهواء والعداوة من كل جانب، كلٌّ يُريد وأدَها في مَهْدها وتفريق أمرها في أول اجتماعها؛ ولكن العبقريَّة النبويَّة تسدُّ الطريق أمام المفسدين بتدبير محكم فاضل.

دخل المدينة ومعه المهاجرون، فاجتمع في المدينة الفاضلة قرشيون مُهَاجرون، ومعهم الضعفاء الذين سبقوا إلى الإسلام، ومؤمنون بمحمَّد صلى الله عليه وسلم من أهل المدينة، ومُشركون، ويهود؛ وأي سياسة حكيمة تجمع ذلك المتفرِّق، وتلمُّ الشعث في ذلك الجمع المختلف غير المؤتلف؟ بل لقد كان المؤمنون من أهل المدينة مختلفين بسلطان العصبيَّة الجاهليَّة، فهم أوس وخَزْرج، وكانت بينهم الإِحَن، وقد أورثتهم محناً. 

نظر محمدٌ صلى الله عليه وسلم إلى ذلك الجمع المضطرب، فألَّف بين الأجزاء القابلة للتأليف، وعاهد الذين كانوا بجواره من غير المؤمنين، عاهد اليهود، وأحسن عشرة المشركين، وألَّف بين المؤمنين، وكان ذلك أعظم ما مَنَّ الله به على نبيِّه من التوفيق، فقد قال تعالى: [وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالمُؤْمِنِينَ * وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ] {الأنفال:62-63}.

آخى النبيُّ صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين، فجعل لكل مهاجر أخاً من المهاجرين، وآخى بين الأنصار أوسهم وخزرجهم فجعل لكل خزرجي أخاً أوسياً، وآخى بين الأنصار والمهاجرين فجعل لكل مهاجر أخاً أنصارياً؛ وبذلك ألَّف القلوب، وجمع النفوس الشاردة في أخوَّة شاملة قويَّة.

8- ولكن محمداً له أعداء يترصدونه لا يرقبون فيه إلَّا ولا ذمة، قد أخرجوه من داره، ويتربَّصون به الدوائر، ولابدَّ للمدينة الفاضلة من قوة تدفع كيد المعادين الذين لم تُجْدِ فيهم الموعظة الحسنة ولا الجدال بالتي هي أحسن، فكان لابدَّ من لقائهم ومُعاملتهم بالمثل، فإنَّ الفضيلة في الإسلام ليست استخذاء، بل هي فضيلة قويَّة الشكيمة تفرض على المعتدي عاقبة اعتدائه، وتذيقه ثمرة جريمته ـ السيف فيها يُرفع على الإثم حتى إذا استسلم كان ثمة مكان للعفو العزيز، والسلم الكريمة. 

من أجل هذا أخذ النبي صلى الله عليه وسلم يحاسب مشركي مكة على ما كان منهم في حقِّ الدعوة المحمديَّة واضطهادها، واضطهاده، واضطهاد أنصاره وفتنتهم في دينهم، وهم لا يزالون يفتنون من بقي في مكة من ضعفاء المؤمنين، فكانت الحرب وهي أقدس حرب فاضلة رآها التاريخ، وكانت موقعة بدر الكبرى وفيها صارت كلمة الله تعالى هي العليا، وقد زادت الحرب القلوبَ تأليفاً.

9- ولكن بقي لعبقرية محمد صلى الله عليه وسلم السياسية موضع آخر، بل لقد فُتح ميدان للجهاد السياسي يحتاج إلى سعة أفق أكبر، ذلك أنَّ النصر الإسلامي في بدر جعل المشركين من الأوس والخزرج يحسون بقوَّة النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه، وأنَّهم في حاجة إلى مسالمته، وأحسَّ بعض اليهود ذلك الإحساس، ولكنهم بدل أن يسلبوا وجههم ويخلصوا نياتهم من شوائب الشرك ودَرَن الكفر، أظهروا الإسلام وأبطنوا غيره، فكانوا مُنافقين بين ظهراني المؤمنين، لا يَألونهم خبالاً، يخذلون في الشديدة، ويشتركون في كل مكيدة، ويُدَبِّرون التدابير المسيئة.

واليهود من بني قريظة والنضير قد غَلَتْ قلوبهم بمراجل الحِقْد، وتمنَّوا الأماني وأخذوا ينفثون سموم غيظهم؛ فكان بين عدوين، أحدهما في الخارج وهم المشركون يعدون العدَّة للنقمة، وثانيهما داخلي يقتله الغيظ، ويميزه الألم.

والعبقريَّة النبويَّة تعدُّ لكل أمر عدته، وتأخذ لكل حال أهبتها، فبصبر نافذ راقبَ اليهود المجاورين، وببصيرة نافذة راقب المنافقين، وبعينٍ ساهرة استعدَّ للمشركين، لا يكشف مستوراً، ولا يعلن خفياً، ولكن تعرَّف ما وراء الظاهر فينفذ إلى المستور من غير أن يُعلِنَه، حتى تكشفه الحوادث، أو يكشف نفسه، فيضعفه إظهار الحوادث، وتبيين خفايا قلبه في آثام تعلنه، فتذهب الثقة، ولا يتمكن من المكيدة.

10 - وقد جاءت غزوة أحد، وفيها كان نصرٌ نِسْبيّ للمشركين، فتكشفَّت نيات المشركين، وظهرت ممالأة بعض اليهود، ونقضهم للعهد، وجاء بعض الصحابة يطلب إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم قتل المنافقين لما أظهروه من شماتة بالمؤمنين، ولكنَّ النبي صلى الله عليه وسلم يأبى، لما لهم من رحم واصلة ببعض الأنصار، فهذا رأس النفاق ابن أُبي كان ابنه عبد الله من أتقى المؤمنين الذين أبلَوا بلاءً حسناً، وما كان للنبي صلى الله عليه وسلم أن يقتل أباه وهو في غير حاجة ثم هو لا يريد أن يؤلم عبد الله فوق آلام الجراحة التي أصابته في أحد، ولا مصلحة ترجى، بل تركهم ليظهروا، أولى من أن يقال إنَّ محمداً صلى الله عليه وسلم قتلَ من غير بَيِّنة ولا بُرهان.

ثم تتوالى الشدائد على النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وتتوالى خيانات اليهود، وشماتة المنافقين وإرادتهم الخبال بالمؤمنين: بل إنَّهم يتجاوزون الحدَّ، فيشيعون مقالة السوء على زوج النبي صلى الله عليه وسلم عائشة رضي الله عنها، والنبي صلى الله عليه وسلم يرقبهم بعينٍ فاحصة، يعالجهم بالرفق: ثم يشتدُّ شرهم، ويلقون بروح الهزيمة في غزوة الخندق: وقد تجمَّعت العرب كلها ضد النبي صلى الله عليه وسلم ونزعت عن قوس واحدة، ومعهم بنو قريظة من اليهود المجاورين الذين صرَّحوا بنقض العهد. 

وهنا يعالج الأمرَ السياسي العبقري فيخفي عن المسلمين في الميدان نقض اليهود بعهودهم، حتى إذا ما انتهت الحرب عادَ إلى اليهود فنبذ إليهم عهدهم، ونازلهم حتى أباد خضراءهم، وهنا ترتعدُ فرائصُ المنافقين، وقد كشفهم الله تعالى واستنكرهم ذووهم، وطالب كبار المؤمنين برؤوسهم، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم يمتنع عن ذلك، حتى لا يُقال في العرب إنَّ محمداً يقتل أصحابه، وما كان محمد صلى الله عليه وسلم أن يضع السيف في موضع الندى، وهو يستطيع أن يجانب أمَّته الأذى. 

ثم يشتدُّ أذى المنافقين في غزوة تبوك، فيطلب أهل كل بيت من المؤمنين من فيه من المنافقين، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم يمتنع، ويلتفت إلى عمر الذي كان يحرِّضه في الماضي على قتلهم فيقول له: لو قتلناه يوم أشرت يا عمر لأرعدت لهم أنوف هي اليوم تريد قتلهم.

11 - سياسة حكيمة رفيقة حازمة، تصل إلى مقاصدها في لين وسهولة، وفي عزم وقوة من غير اعتساف ولا غِلْظة.

 ولقد كان تبدو تلك العبقريَّة السياسية في المعاهدات، فهذا صلح الحديبية يَغضب له كبار المؤمنين، لأنَّ المشركين قد نالوا كلَّ مطالبهم، يشترطون فيه أنَّ من يخرج إلى محمد صلى الله عليه وسلم مسلماً لا يقبله، ومن يخرج من رجال محمد كافراً يقبلونه، فيرى عمر رضي الله عنه وغيره من عباقرة المسلمين أنَّها الدنيَّة في الدين، فكيف قبلها الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم؟! 

ولكن محمداً صلى الله عليه وسلم يقبلها، ويدلُّ قبوله على سلامة النظر وعمق السياسة، فما جدوى المسلمين في أن يبقَ بينهم مرتد يكون كالمرض في جسمهم، ومن خرج مسلماً، إن كان قوي الإيمان فلن يعود إليهم وقد كان، فقد تجمَّعت من آحاد المسلمين الذين كانوا يخرجون من مكة قوةٌ كانت تأخذ على تجار مكة طريقهم، وتقتل منهم فُرادى، تقاتل والنبي صلى الله عليه وسلم غير مسؤول عنهم، حتى لقد طلب المشركون أن يقبلهم عنده، وتركوا ذلك الشرط الذي كان في ظاهر الأمر لهم لكي يكونوا في جماعة المؤمنين المسؤولين عن العهد.

12 - سيدي يا رسول الله! إنِّك الإنسانية ومعناها وكمالها وشرفها، وقد تطاولتُ فسمَّيت أعمالك في تدبير الدولة سياسة، وأنت أعلى منها وأكرم، ولكنَّك يا رسولَ الله أسوة المسلمين وقدوتهم؛ فبتدبيرك المحكم ضربت الأمثال لمن يحاولُ جمعَ القلوب المتنافرة، والأهواء المتضاربة: تلين يا رسول فتجتمع القلوب من غير ضياع مصلحة، ولا تهاون في دين أو خلق، وتسهل يا رسول حتى تصير مألف القلوب ومُلتقاها، ولقد قال فيك رب العالمين: [وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ القَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ] {آل عمران:159}. 

نفع الله قادة المسلمين بهديك، والسلام عليك يا رسول الله ورحمته وبركاته. 

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم. 

الحلقة السابقة هــــنا

المصدر: (مجلة لواء الإسلام، العدد السابع، السنة السادسة، ربيع أول 1372، نوفمبر 1952).

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين