المولد الذي حضرته، والميزان الضائع

القصة عجيبة، أتذكرها من وراء حجاب السنين الصفيق، أربعين سنة، فلا أملك إلا أن أَعجب منها. ليس من حضوري "المولد"، فما أكثرَ الذين يحضرون الموالد في كل مكان وآن، ولكن لأنني لم أحضر في حياتي إلا هذا المولد في ذلك الموضع وفي ذلك الوقت، ويا له من اختيار غريب في المكان والزمان!

كان ذلك يومَ الوقفة في عرفات، وكنت في سنتي الثانية في جامعة الملك عبد العزيز بجدّة، وقد انتسبت إلى جَوّالة الجامعة (أي الكشافة، وبالاصطلاح يسمى كبارُهم جَوّالة وأوساطهم كَشّافة وصغارهم أشبالاً. هذا هو التصنيف المبسط، وهو في حقيقته أكثر تعقيداً بقليل). وكان استنفارُ كَشّافة المدارس وجَوّالة الجامعات في كل "موسم" أمراً شائعاً، ولا أدري ما حاله الآن. فكنا نذهب إلى المشاعر فنحجّ ونُمضي أيام عَرَفة ومِنى في مساعدة الحجاج، بإعانة المسنّين وإرشاد التائهين. وما أكثرَ ما يضلّ الحجاج فيخرجون من مخيّماتهم ثم لا يُحسنون الاستدلال عليها ويفشلون في العودة إليها فيتهيون في أرض الحج الواسعة.

كنا في عرفات، بُعَيد العصر على ما أذكر، وقد أنفقت بعض الوقت في مساعدة مجموعة من الحجاج المغاربة في الوصول إلى مخيمهم، فلما وصلنا أصرّوا على مكافأتي بتذوق الحلوى المغربية وشرب الشاي المغربي المشهور. ودخلت معهم بعد تمنّع، فثَمّ رأيت المولد. كان القوم متحلقين في حلقة كبيرة ينشدون المدائح ويضربون الدفوف ويهزون الرؤوس قعوداً أو يتمايلون وقوفاً مع النغمات، ويقرؤون نصوصاً فيها مبالغة بالإطراء الذي نهانا النبي نفسُه عنه وغزل لا يليق بمقامه عليه الصلاة والسلام، وقد بلغ الطرب بهم مبلغاً كبيراً شعرتُ أنه غيّبهم عن الوعي بالمكان والزمان.

كان منظراً فولكلورياً طريفاً لم أشاهد له مثيلاً من قبل، فلبثت أشاهده مدة، نحو عشر دقائق أو أكثر قليلاً، وشربت الشاي وأكلت الحلوى، ثم قلت لنفسي: حسبي ما رأيت. فأما أصحاب هذه الموالد والحلقات والحضرات فهم وما يشاؤون، وأما أنا فقد اكتفيت منها إلى آخر العمر، وخيرٌ لي أن أسثمر ما بقي من ساعات اليوم في مساعدة العجزة وإرشاد التائهين، فإني أحتسب هذا العمل وأحسب أنه أرضى لله ورسوله من جلوسي مع القوم ومشاركتهم بالهز والإنشاد.

* * *

الذي خرجت به من تلك الحادثة ومما رأيته في السنين اللاحقة من حرب على أصحاب الموالد هو أن ما يبدو في ظاهره خلافاً على مسألة شرعية ليس في حقيقته سوى اضطراب في الميزان أحياناً، أو تضييع له بالكلّية في أغلب الأحيان.

ليست المشكلة في معرفة الحلال والحرام والسنّة والبدعة ولا في معرفة ما يُرضي الله وما لا يرضيه، بقدر ما هي في معرفة أوزان الواجبات والمحرَّمات والسنن والبدع والقربات والطاعات. إنك تجد أولئك الناس بلا ميزان، فلمّا فقدوا الميزان لم يعرفوا وزن هذا ووزن ذاك وحسبوا أن الكل سواء، فاضطربوا بالترتيب والإقدام والإحجام والإنكار.

وإلاّ فمَن الذي يفرّط بيوم العمر الذهبي، اليوم الذي لا يكاد يتكرر في الحياة، فلا يأتي إلاّ مرة (وقد لا يأتي على الإطلاق)، اليوم العظيم في البقعة المباركة، اليوم الذي يغمر الله فيه عبادَه بالرحمات ويستجيب منهم الدعوات، الذي يتمنى المرء لو تتسع ساعاته وتطول ليستغلها بالدعاء والاستغفار، فكيف تطيب نفسه بإهدار ساعة وساعتين منه في غناء وهز وطرب وقيام وقعود؟ وإن يكن في هذا الأمر ثواب (كما ظن الذين صنعوه، وليس كذلك) أهو خير أم الدعاء والاستغفار؟

وما الذي يدفع غَيوراً على السنّة إلى محاربة هذا الاحتفال بالشدّة التي يحارب بها الانحلالَ والفجور والفساد والإلحاد، أو أشد وأعتى؟ إني أرى بعض ما يبلغه أولئك المنكرون من قسوة وشدة وعنف فأتصورهم كمَن يطلق الصواريخ البالستية على الذباب والعصافير!

يا قوم وفّروا أسلحتكم لما هو أبشع وأنكى! شبابُ الإسلام يتفلّتون من بين أيدينا ونحن نصرف الوقت في معارك هامشية عبثية لا ينبني عليها كبير خطر ولا بليغ أثر. نختلف على الاحتفال بمولد النبي والذين ينكرون نبوّة النبي يزدادون يوماً بعد يوم، ونفرّق الأمة بالبحث في يد الله واستواء الله وكثيرون من شبابنا يكفرون بالله وينكرون وجود الله! أهذا عمل العقلاء الذين يفهمون دين الله ورسالة الإسلام؟!

* * *

بعد نشر المقالة الماضية طالبني أحد القراء الكرام بأن أنكر على أصحاب الموالد بالشدة التي أنكرتها على الغلاة، فساوى بين انحرافٍ استباحَ أصحابُه دماء المسلمين وبدعةٍ هيّنة لا تؤثر في الدين. ودعا لي قارئ كريم آخر بأن يرزقني الله حب نبيه حتى أُسَرّ بسماع المدائح النبوية، فجعل الاستمتاع بالموالد دليلاً على محبة النبي عليه الصلاة والسلام.

عندما أفكر في هذين التعليقين أصبح أكثر ثقة من التشخيص: إنها مشكلة الميزان المفقود.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين