الموقنون .. و ثوابهم

د / طلحة ملاحسين

 
 الحمد لله ولي المتقين ,  يلهم من يحب من عباده الصبر  و اليقين ,  و الصلاة  و السلام على إمام الموقنين , محمد  و على آله  و صحبه أجمعين  ,  أما  بعد ..
 
 فقد أرسل  الله عز و جل رسله  بالهدى والبينات , و الآيات  المعجزات , الدالة على صدق رسله عليهم الصلاة  و السلام , و أن ما جاؤوا به هو الحق المبين .
 
فلما جاؤوا أقوامهم بدين الله , انقسم الناس إلى مؤمنين مصدقين , ومكذبين كافرين .
 
 المؤمنون يوقنون بأن قول الله حق ، و وعده صدق ، و أن الله عز وجل أحكم الحاكمين ، لا أحسن من حكمه القدري و الشرعي ، قال تعالى : ( و من أحسن من الله حكماً لقوم يوقنون ) سورة المائدة ،
 
فكافأ الله عز وجل المؤمنين الذين استجابوا لله و رسله – عليهم الصلاة و السلام -  بأن زادهم هدى , كما قال سبحانه ( والذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم ) .
 
 كلما أقبلوا على الله عز وجل زادهم إيماناً وتوفيقاً , و  تأتيهم الفتن والمحن فلا تزيدهم إلا ثباتاً ويقيناً بأن وعد الله حق , كما أخبرنا نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بقوله : ( تعرض الفتن على القلوب كالحصير عوداً عوداً , فأي قلب أشربها ( أي : قبلها  و وقع فيها ) نكت فيه نكتة سوداء ,  و أي قلب أنكرها نكت فيه نكتة بيضاء , حتى تصير على قلبين : على أبيض مثل الصفا فلا تضره فتنة ما دامت السموات و الأرض , و الآخر أسود مرباداً كالكوز مجخياً ( أي : مقلوباً ) لا يعرف معروفاً و لا ينكر منكراً إلا ما أشرب من هواه ) رواه مسلم .
 
 تأتي الفتن على المؤمن .. فتن الشهوات من النساء والأموال والمناصب وغيرها , فيتعامل معها بما يرضي الله وما يأمر به , ويترفع عن المحرمات والشبهات , فكلما انتصر على الفتن والنفس الأمارة بالسوء علت مكانته عند الله ،  و قوي قلبه وإيمانه ، و تأهل لتحمل ما هو أكبر منها بثبات ويقين .
 
 و أما ضعيف الإيمان أو من لا إيمان عنده , فيستهويه الشيطان , وتوقعه نفسه في الفتن , ويلغ في الشبهات والمحرمات غير عابئ بما يترتب عليها من اسوداد القلب وذهاب الإيمان وتسلط الشيطان , وبالتالي تخلي الله عنه وعن إصلاح قلبه وعمله , كما قال تعالى  : ( نسوا الله فنسيهم ) سورة التوبة .
 
وأما المحن والمصائب فيقف منها المؤمن موقف الصابر المحتسب للأجر عند الله , وأن عسى أن تكون هذه المصائب كفارات عن ذنوبه وسيئاته , يعلم أن ما أصابه من عند الله ابتلاء و تمحيص , فيرضى بما قدره الله ويسلم أمره لله , وينظر في أعماله محاسباً نفسه على التقصير في الواجبات والوقوع في السيئات , فيستغفر الله ويتوب إليه , ويتضرع إليه ليكشف عنه كربه ويجبر كسره ، و يعوضه خيراً عما فاته و أصابه ,
 
 جاء في صحيح مسلم عن أم سلمة أنها قالت  سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( ما من عبد تصيبه مصيبة فيقول : إنا لله و إنا إليه راجعون , اللهم أجرني  في مصيبتي  و أخلف لي خيراً منها , إلا آجره الله في مصيبته ، و أخلف له خيراً منها ) . قالت :  فلما توفي أبو سلمة قلت كما أمرني رسول الله صلى الله عليه و سلم  ، فأخلف الله لي خيراً منه :  رسول الله صلى الله عليه وسلم .
 
 وهنا تأتي البشارة للصابرين الذين يقولون عند المصائب بقلوبهم و ألسنتهم : إنا لله و إنا إليه راجعون ،  ( أولئك عليهم صلوات من ربهم و رحمة و أولئك هم المهتدون ) سورة البقرة , جزاؤهم مغفرة و رحمة و هداية تصلح بها قلوبهم و أعمالهم , و تكون سبباً لثباتهم على دين الله و على طلب مرضاة الله حتى يلقوا ربهم سبحانه وهو راض عنهم , فيرضيهم بما لا يخطر على بالهم من الثواب الجزيل والنعيم المقيم ، في جوار الكريم الرحيم .
 
وأما غير المؤمن والموقن , فإن أصابته مصيبة استقبلها بالجزع ، و قلة الصبر أو عدمه , و سخط على القدر , و يلجأ إلى ( لو ) التي تفتح عمل الشيطان – كما بين النبي صلى الله عليه و سلم -  فيقول : لو أني فعلت كذا و كذا لكان كذا و كذا , بل قد تصل الحال ببعض هؤلاء إلى الشك في دينهم , و يقولون : لو كان الدين الذي نحن عليه حقاً ما أصابنا الجهد و البلاء , قال تعالى : ( و من الناس من يعبد الله على حرف , فإن أصابه خير اطمأن به ، و إن أصابته فتنة انقلب على وجهه خسر الدنيا  و الآخرة ، ذلك هو الخسران المبين ) سورة الحج .
 
روى البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال عن الذي يعبد الله على حرف : كان الرجل يقدم المدينة , فإن ولدت امرأته غلاماً  ونتجت خيله قال هذا دين صالح , وإن لم تلد امرأته ولم تنتج خيله قال هذا دين سوء .
  إن من نعم الله العظيمة على الأمة المحمدية أن نصرهم يوم الأحزاب نصراً عظيماً : قال تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ جاءتكم جنود فأرسلنا عليهم ريحاً وجنوداً لم تروها , وكان الله بما تعملون بصيراً ) ( إذ جاؤوكم من فوقكم ) قريش ومن تحزب معها من الأحابيش و قبيلة غطفان جاؤوا فحاصروا المدينة من مكان مرتفع , ( و من أسفل منكم ) قبيلة قريظة اليهودية في أسفل المدينة نقضوا عهد النبي صلى الله عليه وسلم وصاروا مع باقي الكفار يحاصرون المدينة ( و إذ زاغت الأبصار و بلغت القلوب الحناجر ) من الخوف ( وتظنون بالله الظنونا ) ، فأما الذين في قلوبهم مرض الشكوك و الشبهات و المنافقون فقالوا : ( ما وعدنا الله و رسوله إلا غروراً ) أي وعداً يغرنا به و لا حقيقة له , و بعض ضعاف الإيمان حدثتهم نفوسهم بأشياء كاستبعاد النصر في حالة شديدة كهذه , وأما المؤمنون الموقنون فقال الله عنهم : ( و لما رأى المؤمنون الأحزاب قالوا هذا ما وعدنا الله و  رسوله  ، و  صدق الله و رسوله ، و ما زادهم إلا إيماناً و  تسليماً ) أي هذا هو الابتلاء والاختبار الذي وعدنا الله ورسوله و يعقبه النصر القريب , يعنون ما في قوله تعالى : ( أم حسبتم أن تدخلوا الجنة , و لما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء و الضراء و زلزلوا حتى يقول الرسول و الذين آمنوا معه متى نصر الله ؟ ألا إن نصر الله قريب )  سورة البقرة .

 


 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين