الموحّدون لا المفرّقون

 

عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لَيَأْتِيَنَّ عَلَى أُمَّتِيْ مَا أَتَى عَلَى بَنِيْ إِسْرَائِيْلَ حَذْوَ النَّعْلِ بِالنَّعْلِ، حَتَّى إِنْ كَانَ مِنْهُمْ مَنْ أَتَى أُمَّهُ عَلاَنِيَةً لَكاَنَ فِيْ أُمَّتِيْ مَنْ يَصْنَعُ ذلِكَ، وَإِنَّ بَنِيْ إِسْراَئِيْلَ تَفَرَّقَتْ ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِيْنَ مِلَّةً، وَتَفْتَرِقُ أُمَّتِيْ عَلَى ثَلاَثٍ وَسَبْعِيْنَ مِلَّةً كُلُّهُمْ فِيْ النَّارِ إِلَّا مِلَّةً وَاحِدَةً، قَالُوْا: مَنْ هِيَ يَا رَسُوْلَ اللهِ! قَالَ: مَا أَنَا عَلَيْهِ وَأَصْحَابِيْ». [سنن الترمذي:5/26].

  وَفِيْ رِوَايَةِ أحمد وأبي داود عن معاوية : "ثِنْتَانِ وَسَبْعُوْنَ فِيْ النَّارِ، وَوَاحِدَةٌ فِيْ الجَنَّةِ، وَهِيَ الجَمَاعَةُ، وَإِنَّهُ سَيَخْرُجُ فِيْ أُمَّتِيْ أَقْواَمٌ تَتَجَارَى بِهِمْ تِلْكَ الأَهْواَءُ كَمَا يَتَجَارَى الكَلْب بِصَاحِبِهِ، لاَ يَبْقَى مِنْه عِرْقٌ وَلاَ مَفْصِلٌ إِلاّ دَخَلَهُ ".

هذا حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو حديث الفتن التي كانت ستظهر في المستقبل، وتنبَّأ بها النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم تنبيهًا، وتحذيرًا، من الوقوع فيها، فقد أخبر صلى الله عليه وسلم أمَّته، أنَّهم سيُغزَون من قبل اليهود والنَّصارى، ويُغلَبون أمام فتنتهم، فيقتدون بهم، ويحتذون حذوهم، بل يساوونهم في الفساد والانحراف والضَّلال، مثل مساواة النَّعل بالنَّعل، حتَّى يبلغ الحال في الفجور والدَّعارة والانحلال، أنَّهم يفجرون بأمَّهاتهم جهارًا ونهارًا.

تغلب الحضارة اليهودية والنصرانية

والوقائع تشهد على ذلك، كيف تغلَّبت الحضارة اليهوديَّة والنَّصرانيَّة الممسوخة في مشارق الأرض ومغاربها، حتَّى لم يبق منها الحجاز في أمن، وكيف انتشرت الأفلام الفاجرة الدَّاعرة، وكيف سُخِّرت القنوات، لكل مُجونٍ وعُهرٍ، وكيف سُخِّر الإعلام بكل أنواعه، لكل فسقٍ وعريٍ وخزيٍ وعارٍ، وكلُّ ذلك جهارًا نهارًا، وبحماية الملوك والسَّلاطين، والحكَّام الطُّغاة المجرمين، فإلى الله المشتكى!.

كما تنبأ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث بأنَّ الفرق ستكثر، في هذه الأمَّة، فإذا كان بنو إسرائيل – اليهود والنَّصارى – افترقوا اثنتين وسبعين فرقةً، - وهو تمثيلٌ وبيانٌ للكثرة لا لتحديد العدد – فإنَّ أمَّتي ستفترق ثلاثًا وسبعين فرقةً.

الحث على مقاومة الفتن

هذا إخبار من النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم لأمَّته، لا للتيئيس والتقنيط كلَّا وحاشا! بل للتَّحذير والتَّنبيه، والحثِّ على مقاومة الفتن، وبذل الجهود للتجميع والتَّوحيد، والتَّقريب، فلا يُذكر الباطل إلَّا لدحضه وإماتته، فالغرباء السُّعداء الأمناء يقاومون كلَّ فتن التَّفريق، ولا يستسلمون – كقدر محتوم -لواقع التفريق.

الفرقة النَّاجية من النَّار

ولا بدَّ أن يُعلم هنا أنَّه لا يراد بالتَّفريق المذكور اختلاف الاجتهادات والآراء الفقهيَّة، والكلاميَّة والسُّلوكيَّة، مما يؤجر عليها المجتهد عن استيفاء شروط الاجتهاد، وهي لا تؤدِّي إلى تكوّن فرق وأحزاب، يكفر بعضهم بعضًا، بل كانت هذه الخلافات موجودةً بين الصَّحابة رضي الله عنهم الذين كانوا بمجموعهم معيارًا لصلاح الأمَّة وبقائِها على الطَّريق الصَّحيح، فإنَّ الفرقة الواحدة التي تكون ناجيةً من النَّار، هي من تكون على ما عليه الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم، ثمَّ التَّابعون لهم بإحسان، فقد -رضي الله عنهم ورضوا عنه -وقد ورد في حديث أبي أمامة عند الطَّبراني، توسيع هذه الدَّائرة فقال: «كُلُّهَا فِي النَّارِ إِلَّا السَّوَادَ الْأَعْظَمَ» [المعجم الكبير لطبراني:8/268]، فجمهور المسلمين على الحقِّ، وهم السَّواد الأعظم، وتشذُّ عنهم فرقٌ لتشدُّدها أو تساهلها، وجاء في رواية معاوية عند أحمد وأبي داود: «ثنتان وسبعون في النَّار، وواحدة في الجنَّة» وهي الجماعة، فليست هي فرقةٌ قليلة العدد، أو أقليَّة في المسلمين، بل السَّواد الأعظم والجماعة العظيمة تكون داخلة في هذه الملة.

وهذا دليلٌ واضحٌ على أنَّ من لا يخرج عن منهج الخلفاء الرَّاشدين، والصَّحابة، والقرون المشهود لها بالخير، والتَّابعين لهم بإحسان، ممن أجمع علماء الأمَّة على اهتدائهم، وأنَّهم ليسوا من الفرق الضَّالة المنحرفة التي مصيرها إلى النَّار، فهم كلُّهم من هذه الملَّة الإسلاميَّة، فأصحاب المذاهب الفقهيَّة، والمذاهب الكلاميَّة والمذاهب السلوكيَّة وغيرهم ممن لا يفرِّقون بين الأمَّة، ولا يفترقون وهم من هذه الملَّة المؤمنة المهتدية، رغم الخلافات فيما بينهم، مما أدَّى إليه اجتهادهم.

مؤسسوا الفتنة ومفرقوا الأمة

أمَّا من يفرق بينهم، ويكفِّر بعضهم، أو يبدِّع بعضهم، ويستطيل اللسان عليهم، ويستصدر الفتاوى ضدَّهم، من الأئمَّة الفقهاء كأبي حنيفة ومالك والشَّافعي وأحمد وغيرهم، والأئمَّة المتكلِّمين كالأشعري والماتريدي وغيرهما الذين أجمع علماء الأمَّة عبر القرون، على أنَّهم قادة الأمَّة، وهداة الملَّة، وأئمَّة الدِّين، فمن يطعن فيهم، ولا يستخرج محامل طيبة لآرائهم، ولا يناقشها مناقشةً علميَّةً، بل يتهمهم في الدِّين، فهو خارج عن الملة، ولا يعد فردًا عاصيًا فحسب، بل هو مؤسس الفتنة، ومفرِّق الملَّة، ويحقق هذه التَّفرقة التي حذر منها النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم.

وعلى رأس هذه الفرق الهالكة من يكفِّر جماعة الصَّحابة، ثمَّ من يكفِّر عددًا خاصًّا منهم، ثمَّ من لا يُسلِّم بمكانة الخلفاء الرَّاشدين، ومن يقع في آل البيت الطَّاهرين، ومن يعمل عميلًا لأعداء الله ورسوله، فينتحل من الآراء ما يدمِّر نسيج الدِّين، ويهلك به المسلمين، إلى آخر ما هنالك، من أسباب ودواعٍ، ودوافع؛ لتكوين الفرق من هذه الأمَّة الموحِّدة، والملَّة المتراصَّة.

وقد ورد هذا الحديث من متعدد الأسانيد والطُّرق، منها ما هو ضعيف، ومنها ما هو صحيحٌ، وحديث التِّرمذي هذا صحيحٌ، تؤيِّده أحاديث أخرى، رويت عن أبي هريرة وأنسٍ وعوف بن مالكٍ ومعاوية بن أبي سفيان، وأبي أُمامة، وأبي الدَّرداء، وعمرو بن عوف، وسعد بن أبي وقاص، وابن مسعود، وعلي، والحديث في الباب صحيحٌ ثابتٌ، وقول ابن حزم: "إن هذا الحديث لا يصح عن طريق الاسناد" يدل على عدم علمه، واستعجاله في الحكم.

وزاد معاوية رضي الله عنه في حديثه ما يدلُّ على أن الأهواء والضَّلالات والعقائد المنحرفة التي ستقوم عليها الفرق تتجذر فيها، وتتجارى في عروقها، بل تصبح مثل مرض الكَلَبِ الذي يدخل كلَّ عِرقٍ ومِفْصَلٍ، فهؤلاء النَّاس الذين تغلب عليهم الأهواء وتتجارى بهم الضَّلالات، ويصطادهم الشَّيطان، ويجعلهم مصايد للسذَّج والمغفلين، هم الذين يكوِّنون الفرق الضَّالة.

ومن الظَّاهر المعلوم أن من يخص فرقة أهل الحديث بالنَّاجية دون أهل الرَّأي، ومن يخص الفكر السَّلفي بالنَّجاة، دون الأشعري والماتريدي، ومن يخص العمل بالحديث للنَّجاة دون الأخذ بالمذاهب الفقهيَّة، ومن يتبجَّح بأنَّه من الفرقة النَّاجية، وأنَّ الجنَّة لهم دون غيرهم، فهؤلاء مغرورون مخدوعون أو مفرِّقون للأمَّة خادعون، يخرجون عن الجماعة والسَّواد الأعظم، فهم إذن فرقةٌ من الفرق، والعياذ بالله تعالى.

وعن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللهَ لاَ يَجْمَعُ أُمَّتِيْ أَوْ قَالَ: أُمَّةَ مُحَمَّدٍ عَلَى ضَلاَلَةٍ، وَيَدُ اللهِ عَلَى الجَمَاعَةِ، وَمَنْ شَذَّ شَذَّ فِيْ النَّارِ» [سنن الترمذي:4/466].

   وعنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « فَعَلَيْكُمْ بِالسَّوَادِ الْأَعْظَمِ » [سنن ابن ماجه من حديث أنس:5/96].

 

السَّواد الأعظم

وجاء حديث ابن عمر رضي الله عنه يؤكِّد أنَّ معنى الجماعة هو السَّواد الأعظم، وأن أكثريَّة علماء الأمَّة على خيرٍ، بل كل العلماء والمخلصين الذين ليسوا علماء السَّلاطين ولا أبناء الدُّنيا الطَّامعين، هم على الحقِّ والخير، لا يجتمعون على ضلالةٍ، ويتبعهم عامَّة المسلمين، ممن لا يمضون وراء اليهود والنَّصارى، والمشركين والكافرين، بل يتَّبعون أهل الحقِّ، ويسألون أهل الذكر، ويكونون مع الجماعة، ويوحِّدون ولا يفرقون، هؤلاء هم الجماعة، ويد الله عليهم، أي أنَّه ينصرهم، ويؤيدهم ويوفِّقهم، فمن شذَّ عن هذه الجماعة والسَّواد الأعظم، فهو في النَّار، والعياذ بالله، وكلا حديثي ابن عمر في معنى واحد.

ثَلَاثٌ مِنْ أَصْلِ الْإِيمَانِ

ولا يغيبَّن عن البال هنا أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم أمرنا بأنَّ من صلَّى صلاتنا، واستقبل قبلتنا، وأكل ذبيحتنا فذلك هو المسلم، الذي لا يجوز أن نخفر ذمته، وننقض عهده، ولا نسيء المعاملة معه، كما أمر صلى الله عليه وسلم أمرًا مؤكدًا فقال: «ثَلَاثٌ مِنْ أَصْلِ الْإِيمَانِ (منها): الْكَفُّ عَمَّنْ، قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَلَا نُكَفِّرُهُ بِذَنْبٍ، وَلَا نُخْرِجُهُ مِنَ الْإِسْلَامِ» [سنن أبي داود:3/18].

وكيف كان عتاب النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم لأسامة بن زيد رضي الله عنه عند ما قتل - في حربٍ مسعورةٍ - من قال لا إله إلَّا الله، فحرَّم صلى الله عليه وسلم قتله رغم الشُّكوك في إيمانه، والخوف من  مكره وحيلته.

وكيف تبرَّأ صلى الله عليه وسلم من عمل خالد بن الوليد عندما أمر بقتل من قالوا: صبأنا صبأنا من أفراد قبيلة بني جذيمة، كانوا يريدون بها بيان إسلامهم، ودعا الله تعالى وقال: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَبْرَأُ إِلَيْكَ مِمَّا صَنَعَ خَالِدٌ» [صحيح البخاري:5/160].

وكيف قبل إيمان أَمَةٍ جاهلةٍ بأن وحدَّت الله، وآمنت بالرَّسول، بالإجمال، من دون أي تفصيلٍ، وهكذا، وكم هناك من الأمثلة في حياة الرَّسول صلى الله عليه وسلم تدل على السِّعة واليُسر والسَّماحة.

فليس من سماحة الدِّين ما يذكر من التَّعقيدات والتقعيرات والتشقيقات في العقائد والمسائل الكلاميَّة، ثمَّ يطلب إلزام المسلمين بها، ومطالبتهم بالإيمان بتفصيلها، فإن لم يعرفوها، ولم يحققوها، فهم من الضُّلال والمبتدعين، بل من الكفرة عند بعض المتشددين الأجلاف، ممن يدعون العلم والدين.

ولا بد أن نعرف أنَّ المرجئة والكرَّاميَّة والمعتزلة والشَّيعة الزَّيدية، وكثيرًا من الفِرق من غيرهم لم يخرجهم علماء الأمَّة من الملَّة، وعاشوا فيما بين المسلمين والمجتمعات الإسلاميَّة لا يكفِّرون غيرهم، ولا يحاربون عامَّة المسلمين، بل يذهب إليهم الملتزمون بالجادّة، المنافحون عن السُّنة، المناقشون لآرائهم الخاطئة فيأخذون عنهم الأحاديث، ويروونها في كتبهم، ويحتجُّون بها، وهم مأمورون أن يأخذوا عن العدول الثِّقات.

لا بدَّ من الحذر

أمَّا من يقولون بتحريف القرآن ويكفِّرون الصَّحابة، ويتَّهمون السَّيدة عائشة رضي الله عنها ويخالفون في قطعيَّات الدِّين والشَّريعة، فلا حجَّة لهم ولا كرامة، وهم الذين تتجارى بهم الأهواء كالكلب، يحاربون الإسلام وأهله، وكذلك الخوارج البدو الأجلاف الذين طعنوا في النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم ويكفرون من شاءوا من الصَّحابة، وينصبون العداء ضدَّ المسلمين، فهم المفرِّقون المحاربون، من سعاة الفساد الذين يستحقون القتل والصلب والنَّفي، ولكن لا بدَّ من الحذر والتَّنبه من الطُّغاة الجبابرة الفاسقين من الحكام الذين يصفون من يخرج عليهم بأنَّهم من الخوارج، ويأمرون علماءهم من أبناء الدُّنيا، فيُصدرون فتاوى بأنَّهم من الخوارج، وأنَّهم أصحاب الفتن، والبغي والفساد ليقضوا على حركات الإصلاح، والعودة إلى الإسلام الصحيح فهؤلاء ليسوا خوارج، بل هؤلاء الحكام خوارج على الإسلام، وهؤلاء مصلحون سمّوا في الحديث بالغرباء، أمَّا علماء السَّلاطين الذين يسخِّرهم الملوك لإصدار الفتاوى هم من جثى جهنم، من الضُّلَّال وأرباب الفتن.

وعن أنس قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يَا بُنَيَّ! إِنْ قَدَرْتَ أَنْ تُصْبِحَ وَتُمْسِيَ لَيْسَ فِيْ قَلْبِكَ غِشٌّ لأَحَدٍ فَافْعَلْ" ثُمَّ قَالَ: "يَا بُنَيَّ! وَذلِكَ مِنْ سُنَّتِيْ، وَمَنْ أَحَبَّ سُنَّتِيْ فَقَدْ أَحَبَّنِيْ، وَمَنْ أَحَبَّنِيْ كَانَ مَعِيَ فِيْ الجَنَّةِ»[سنن الترمذي:5/46].

وينبغي أن نقرأ حديث أنس رضي الله عنه في هذا السِّياق، فهو يطلب من كلِّ مسلمٍ أن لا يكون في قلبه غشٌّ لأحدٍ من المسلمين، وأن يكون مع الجماعة، والسَّواد الأعظم، وعامَّة المسلمين، لا ينقب عن دواخلهم، وسرائر أعمالهم، ودقائق عقائدهم، بل يكتفى منهم بظاهر الإسلام.

وقد صرح النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم أنَّ هذا من سنَّته، فقد كان صلى الله عليه وسلم يعامل المنافقين بهذه السَّعة والسَّماحة، إذ يَقبل منهم ظاهر إسلامهم، وعندما يطالب بقتل الأشرار منهم، يذكر عذره، وهو أنَّ النَّاس سوف يقولون "إن محمداً يقتل أصحابه" فهم أصحابه في الظَّاهر، وأشرار في البواطن، وهو أمر معلوم عند الرَّسول صلى الله عليه وسلم ولكن هكذا موقفه منهم، فأين مباحث العقيدة والإيمان التي يشدد بها المتشددون، فيشعلون الحرب فيما بين المسلمين، هؤلاء هم الذين قال الله تعالى فيهم: ?وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ? [البقرة:8] وقال أيضًا: ?قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ? [الحجرات:14]، ومع ذلك هم من المسلمين، يعيشون فيما بينهم، يتعاملون معهم كالمؤمنين، يتبايعون ويتزاوجون ويتعاشرون.

نعم الإسلام بهذا اليُسر والسَّماحة والسِّعة والجماعة، فمن بغى وطغى، واعتدى، وحارب المسلمين، ووادَّ من حادَّ الله ورسوله، واتخذ اليهود والنَّصارى أولياء، واشتغل بالعمالة للأعداء، فهو الذي لا يوالى، ولا يؤاخى، ولا يعامل كالأخ المسلم، ولا بدَّ من محاربته، وكف شره، وإخماد فتنته، وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم هي طريقه ومنهجه، وبيانه لكتاب الله تعالى وتفهيمه وتطبيقه، فمن أحب منهج الرَّسول صلى الله عليه وسلم كان معه في الجنَّة إن شاء الله، ومن تمسَّك بهذا المنهج النَّبويِّ السَّمح الكريم عند فساد الأمَّة في العقائد والأعمال، والأخلاق، والآداب، فله أجر مائة شهيدٍ، -كما ورد في حديث أبي مالك الأشعري رضي الله عنه الآتي؛ لأنَّه كالقابض على الجمر، غريب من بني جلدته، يستميت لدينه، يواجه الموت كل حين، ويقضي الحياة شهيدًا على الحقِّ وبالحقِّ.

هذا الأجر إن ثبت، فليحمل على هذا المعنى، ولكن الحديث أخرجه البيهقي في الزهد، وأخرجه ابن عدي في الكامل عن ابن عباس، والحديث من رواية الحسن بن قتيبة الخزاعي، وهو منكر الحديث، ومتروك الحديث، والحديث ضعيف جدًا، ولكن أخرج الطبراني عن أبي مالك الأشعري بإسنادٍ حسن، أنَّه قال: «فَلَهُ أَجْرُ شَهِيدٍ» [المعجم الكبير للطبراني:3/300] وهذا أقرب.

المصدر : مجلة الحميدية العدد الثاني

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين