الموجز في التاريخ: معركة اليرموك

كانت قيادة الجيوش الإسلامية تتابع تطورات تحركات جيوش الروم، فشعر قادة الجيوش الإسلامية بخطورة الموقف، فعقدوا مؤتمرًا في الجولان، وراسلوا الصديق في ذلك، وفي هذا المؤتمر اجتمعت كلمتهم على ضرورة الانسحاب من الأماكن التي كسبوها من الروم، والتجمع في مكان واحد؛ لخوض معركة فاصلة مع الروم، وتفويت الفرصة على الروم، وعدم تمكينهم من تدمير الجيوش الإسلامية متفرقةً، وأشار عليهم عمرو بن العاص أن يكون تجمع الجيوش الإسلامية، في اليرموك، وهذا ما أشار به عليهم الصديق أيضًا.

رجع أبو عبيدة بجيشه من حمص إلى اليرموك، ثم جاء يزيد وشرحبيل، وكان عمرو بن العاص في فلسطين، ولم يستطع الانسحاب منها، وظلَّ يناور الروم في بئر السبع، حتى نجده خالد بن الوليد بجيشه، فوقعت بينهم وبين الروم معركة في أجنادين، هزم فيها الروم، ثم رجع بعدها عمرو بجيشه إلى اليرموك.

أمام هذا الموقف المتأزم والحرج في بلاد الشام؛ وقع اختيار الصديق على خالد بن الوليد؛ ليقود معركة اليرموك، وكان خالد يومئذ في العراق، يقود جيوش المسلمين ضد الفرس، فكتب إليه الصديق أن يتوجه إلى الشام، وأمَّره على جيوش الشام كلها، فجاء خالد إلى الشام بجيشه، بعد رحلة عبْر الصحراء، لم يعرف التاريخ شبيهًا لها، واستمر بعدها الصديق يرسل الإمدادات إلى الشام، ويرد على أساليب الروم التكتيكية؛ حتى قالت الروم: والله لنشغلنَّ أبا بكر عن أن يورد الجنود إلى أرضنا، فكان رد الصديق عليهم: والله لأشغلنَّ الروم عن وساوس الشيطان بخالد بن الوليد.

وصل خالد رضي الله عنه أرض اليرموك، وكان الصديق رضي الله عنه قد عهد إليه –كما ذكرت سابقا- بإمرة الجيوش الإسلامية في الشام، وكان على إمرتها قبله: أبو عبيدة بن الجراح، فتسلم خالد القيادة من أبي عبيدة بيسر وسلام، دون شقاق ولا نزاع بينهما رضي الله عنهم، بل إن أبا عبيدة رضي الله عنه لما بلغه عزلُه قال: بارك الله لخليفة رسول الله فيما رأى، وحيا الله خالدًا بالسلام، ذلك أنهم كانوا يريدون بجهادهم اللهَ والدارَ الآخرة.

لـمَّا وصل خالدٌ اليرموك اجتمع بقادة الجيوش الإسلامية، ودرس الموقف، ورأى أن يُعينَ جيشَ عمرو بن العاص على الانسحاب من فلسطين إلى اليرموك، فذهب إليه بجيشه، وكانت معركة أجنادين -كما ذكرت سابقا- انتهت بانتصار المسلمين على الروم، بعد أن قتلوا قائدهم، وكان وقع هذه الهزيمة على هرقل كالصاعقة، شعر بعدها بمدى الكارثة التي حلت عليه، كما أعطت هذه المعركة جيشَ المسلمين طمأنينةً وثقةً كبيرةً بنصر الله جل وعلا.

هكذا تجمعت جيوش المسلمين على أرض اليرموك بقيادة خالد بن الوليد، وكان عددها يربو على الأربعين ألف مقاتل، ثم جاءت بعد ذلك جيوش الروم بقيادة تيدور، وكان عددها يُقدر بمئتي ألف وأربعين ألف مقاتل، فقسم خالدٌ جيشه إلى كراديس، وهو تقسيم لم تعهده العرب من قبل، والكردوس نحوٌ من ألف مقاتل، ولهم قائد، فخرج جيش خالد في نحوٍ من أربعين كردوسًا، مقسمةً على فرقٍ، فرقة القلب بقيادة أبي عبيدة بن الجراح، وعكرمة بن أبي جهل، وفرقة الميمنة بقيادة عمرو بن العاص، وفرقة الميسرة بقيادة يزيد بن أبي سفيان، وفرقة المقدمة (الطليعة)، وفرقة المؤخرة بقيادة سعيد بن زيد، رضي الله عنهم أجمعين.

كان قارئ الجيش المسلم المقداد بن الأسود، فكان يدور على الجيش يقرأ سورة الأنفال، وآيات الجهاد، وكان خطيب الجيش أبو سفيان بن حرب، كان يحث الجيش على الصبر والثبات، وكان القائد العام للجيش خالد بن الوليد، رضي الله عنهم أجمعين، وكان خالد ومن معه من القادة يدركون خطورة هذه المعركة وأهميتها، وأنها معركة فاصلة، إن هزموا فيها الروم؛ فلن تقوم لهم قائمة بعدها، وكان ما أراد الله لهذه الأمة من العزة والتمكين.

لـمَّا تراءى الجمعان؛ وقف قادة المسلمين يعظون الجند، ويحضونهم على الصبر والثبات، وقف أبو عبيدة فوعظ، ثم قام عمرو بن العاص فوعظ، وحث على الصبر والثبات، ثم وعظ معاذ بن جبل، وكان ممن وعظ وذكر يومها أبو هريرة رضي الله عنه، وكان معاذ بن جبل كلما سمع أصوات القسيسين والرهبان يقول: اللهم زلزل أقدامهم، وأرعب قلوبهم، وأنزل علينا السكينة، وألزمنا كلمة التقوى، وحبب إلينا اللقاء، وأرضنا بالقضاء، وفي المقابل كانت جموع الروم كبيرةً جدًا، قد سدَّت الأفق من كثرتها، كانت كأنها غمامة سوداء، وكان الرهبان يتلون الإنجيل، ويحثون الروم على القتال والثبات.

قبل بدء المعركة جرت مفاوضات بين الجيشين على الصلح، فخرج من المسلمين أبو عبيدة بن الجراح، ويزيد بن أبي سفيان، وضرار بن الأزور، وغيرهم، فاجتمعوا بقائد الروم، وتفاوضوا على الصلح، ثم رجعوا دون أن يتم ذلك، وبعدها بدأت المعركة.

طلب خالد من عكرمة ومن القعقاع أن ينشبا القتال، فبدرا يرتجزان، ودعَوا إلى البراز، فجندلا الأبطال والرجال، ثم خرج أحد قادة الروم، واسمه جرجة، فطلب خالدَ بن الوليد، فخرج إليه خالد حتى وصل إليه، فقال له جرجة: سألتك الله يا خالدًا أن تصدقني؛ فإن الحر لا يكذب: هل أنزل الله على نبيكم سيفًا فأعطاكه، فلا تسله على أحد إلا هزمتهم؟ فقال له خالد: لا، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لي: «أنت سيف من سيوف الله سله على المشركين» ثم أخذ يسأل خالدًا عن الإسلام، وخالد يجيبه، حتى أسلم جرجة، فرجع به خالد إلى صفوف المسلمين، وعلمه الإسلام، وصلى به ركعتين، وبعدها حملت الروم على المسلمين، وبدأ القتال.

هجم جيش الروم بثقله على المسلمين؛ فانكشفت ميمنة جيش المسلمين، حتى دخل جيش الروم إلى قلب جيش المسلمين، وفرَّ عدد من المسلمين، حتى جعلت النساء تضربهم بالخشب والحجارة؛ ليرجعوا، وثبت في ذلك الموقف عكرمة بن أبي جهل ومن معه؛ حتى ردوا الروم إلى أماكنهم، ثم حملت ميمنة الروم على ميسرة المسلمين حملةً شديدةً، انكشف معها قلب المسلمين من الميسرة، وفرَّ عدد من المسلمين من المعركة، فخرجت النساء من خيامهن ترميهم بالعصي والحجارة، وكان ممن خرج ابنة عمرو، فجعلت تصيح قائلةً: قبح الله رجلًا يفر عن حليلته، قبح الله رجلًا يفر عن كريمته، وقالت أخريات: لستم بعولتنا إن لم تمنعونا، وبذلك ارتدت إليهم عزائمهم، وعادوا للصفوف، وردوا الروم عن المواضع التي كسبوها.

هنا حمل خالد بمن معه على ميسرة الروم، فأرجعوهم إلى صفوفهم، وقتلوا في حملتهم هذه أكثر من ستة آلاف رومي، ولما رأى خالد القتل استشرى في الروم؛ صاح بالجيش قائلاً: والذي نفسي بيده لم يبق عندهم غير ما رأيتم، وإني لأرجو أن يمنحكم الله أكتافهم، ثم حمل المسلمون على الروم حملة رجل واحد، فانكشف الروم، فتبعهم المسلمون حتى حصروهم بين وادي اليرموك، ونهر الزرقاء، ودارت هناك رحى المعركة، وأبلى المسلمون فيها بلاءً عظيمًا، حتى هرب فرسان الروم، وتركوا مشاتهم بلا غطاء منهم، وكانوا مقيدين بالسلاسل فأخذ أكثرهم ينهار في الوادي، فكان إذا قتل منهم أحد يسقط في الوادي ويسقط معه أصحابه، حتى قتل منهم المسلمون خلقًا كثيرًا، قُدِّر بمئة ألفٍ وعشرين ألفاً، وانسحب بقيتهم إلى دمشق، وغيرها من المدن داخل بلاد الشام، وقُتل من المسلمين في هذه المعركة نحوٌ من ثلاثة آلاف مقاتل، منهم عددٌ من رجالات الإسلام من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، كعكرمة بن أبي جهل، وغيره.

فرح المسلمون بهذا النصر العظيم فرحًا كبيرًا، إذ هزموا الروم، وكسروا شوكتهم، ولكن عكَّر هذه الفرحة خبرُ وفاة الصديق رضي الله عنه، وكان خبر وفاته رضي الله عنه قد وصل إلى المسلمين قبل بدء المعركة، ولكن خالدًا أخفاه عن المسلمين؛ ألا يضعفوا عن قتال الروم، وتولى على المسلمين بعد الصديق عمرُ بن الخطاب رضي الله عنه، فعزل عمرُ خالدًا، وجعل على المسلمين في الشام أبا عبيدة بن الجراح؛ لحاجة في نفس عمر رآها.

لـمَّا وصل جيش الروم المنهزم إلى هرقل في أنطاكية؛ أصابه الهم والحزن لما حلَّ بجيشه، فسأل جيشه: لماذا ينهزمون أمام المسلمين وهم أكثر منهم عَددًا وعُددًا؟ سألهم: أليس المسلمون بشرًا مثلكم؟ فقال رجل من عظمائهم: من أجل أنهم يقومون الليل، ويصومون النهار، ويوفون بالعهد، ويأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر، ويتناصفون بينهم، ومن أجل أنا نشرب الخمر ونزني، ونركب الحرام، وننقض العهد، ونغضب ونظلم، ونأمر بالسخط، وننهى عما يرضي الله، ونفسد في الأرض، فقال له هرقل: أنت صدقتني.

وهكذا مضت سنة الله جلَّ وعلا في الروم، لما ظلموا، وأفسدوا في الأرض؛ كسر شوكتهم، وأضعف هيبتهم، وفرق جمعهم، ومن ثَمَّ أزال دولتهم، ومكَّن الله بعدها لعباده الصالحين، وأورثهم الأرض كما وعدهم: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} [الأنبياء: 105].

ثم سار أبو عبيدة بعد اليرموك إلى دمشق، حيث فرَّ جيش الروم المنهزم، فحاصرها طيلة شهرين، حتى تم َّله فتحها، وقد ذُكر أن المسلمين لما دخلوها صالحهم الروم، فمن هنا اختلف المؤرخون بين قائل: إن دمشق فتحت صلحًا، وقائل: إنها فتحت عنوةً، وبعضهم قال فتح نصفها عنوةً، ونصفها الآخر فتح صلحًا، وبعدها كان فتح حمص، وغيرها من المدن الشامية(1).

(1) ينظر: الصلابي، أبو بكر الصديق، مصدر سابق: ص: 314.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين