الموجز في التاريخ: فتوحات الشام

كان اهتمام المسلمين بالشام منذ زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم، حيث كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم كتابًا إلى هرقل يدعوه فيه إلى الإسلام، وكتب كتابًا آخر إلى الحارث بن أبي شمَّر الغساني عامل هرقل على الشام يدعوه إلى الإسلام(1)، ثم بعد ذلك أرسل صلى الله عليه وسلم جيشًا إلى مؤتة بقيادة زيد بن حارثة، فاستشهد فيها زيدٌ، وجعفرُ بن أبي طالب، وعبدُ الله بن رواحة رضي الله عنهم، فأخذ الراية بعدهم خالد بن الوليد(2)، فانسحب بالجيش من أمام جيوش الروم، التي كان يربو عددها على المئتي ألف مقاتل.

بعد الانتصارات الكبيرة التي حققها المسلمون في العراق؛ أخذ الصديق رضي الله عنه يفكر في فتح بلاد الشام، فكان يجيل النظر في ذلك، ويقلب الرأي، حتى سأله شرحبيل بن حسنة عن ذلك، وقصَّ عليه رؤية رآها في منامه، فاستبشر بها الصديق خيرًا، وأوَّلَها بفتح الشام، وكان في رؤية شرحبيل نعيُ الصديق رضي الله عنه، فعقد الصديق بعدها مجلس شورى، جمع فيه المبشرين بالجنة، وأهل بدر، ووجوه المهاجرين والأنصار، وأشار عليهم بفتح الشام، فاجتمع رأيهم على ذلك، فخطب الصديق الناسَ بعدها، وحضهم على قتال الروم.

ثم أرسل الصديق رضي الله عنه أنسَ بن مالك بكتاب إلى أهل اليمن يستنفرهم فيه لقتال الروم، فأخذ أنسٌ يطوف على قبائل اليمن قبيلةً قبيلةً، يقرأ عليهم كتاب الصديق إليهم، فاستجاب لذلك أهل اليمن، وخرجوا إلى الصديق بنسائهم وأولادهم، خرجوا طائعين غير مكرهين، وأرسل أنس بذلك إلى الصديق يبشره، وكتب إليه قائلا: جاءك شجعان اليمن وأبطالهم، وقد ساروا إليك بالذراري والحرم والأموال(3)، ولما وصلت جماعاتهم إلى المدينة، ودخلوا على الصديق المسجد، وسمعوا القرآن؛ اقشعرت جلودهم من خشية الله، وجاشت نفوسهم، وجعلوا يبكون خاشعين؛ فبكى الصديق وقال: هكذا كنا ثم قست القلوب(4).

كان ممن قدم على الصديق من اليمن ذو الكلاع الحميري، سيد قومه، قدم وحوله ألف عبد من الفرسان، وعلى رأسه التاج، وعلى حلته الجواهر المتلألئة، وبردته تسطع بخيوط الذهب المرصع بالآلئ، والياقوت والمرجان، فلما رأى أبا بكر نحيلًا، معروق الوجه، وعليه ثوب خشن، ولا شيء يسطع من ثيابه؛ لما رآه بهذا التواضع والنسك، وعليه الوقار والهيبة، ووجهه يشع نورًا؛ تأثر ذو الكلاع بالصديق رضي الله عنه؛ فخلع ما عليه من الحلي، وتزيَّا بزيه، وبعدها عزم الصديق على تسيير الجيوش إلى الشام، وعقد الألوية لأربعة جيوش هي:

جيش بقيادة يزيد بن أبي سفيان، ومهمته فتح دمشق، شيعه الصديق ماشيًا، وأوصاه خيرًا بمن معه من المسلمين، وحذره من عدوه، وأمره بإكرام رسل عدوه إذا ما قدموا إليه.

جيش بقيادة شرحبيل بن حسنة، وذلك بعد خروج جيش يزيد بثلاثة أيام، وكانت مهمته تبوك والبلقاء، ثم بصرى، وأوصاه بما أوصى به يزيد، وزاد عليها المحافظة على الصلاة والصبر، وعيادة المريض وحضور الجنائز، وغيرها.

جيش بقيادة أبي عبيدة بن الجراح، وكان هدف هذا الجيش فتح حمص، وأوصاه الصديق بما أوصى به يزيدًا وشرحبيل.

جيش بقيادة عمرو بن العاص، هدفه فلسطين، وأصاه وصاية عظيمة كما أوصى من قبله(5).

وصلت الجيوش الإسلامية الأربعة إلى الشام، ولقيت صعوبةً كبيرةً في تنفيذ المهمات الموكلة إليها، حيث كانت جيوش الروم تمتاز بكثرة عَددها وعُددها، وقد بنوا الحصون والقلاع للدفاع عن مراكز مدنهم، وكان للروم جيشان كبيران، قيادة أحدهما في فلسطين، والأخرى في أنطاكية، ويتوزع هذان الجيشان على ستة مواضع في بلاد الشام، وكان هرقل قد وضع خطةً لتصفية الجيوش الإسلامية الأربعة، وذلك بأن تتراجع قواته أمام ضربات المسلمين، وتنسحب لهم من الحدود الحجازية؛ ليتوغلوا في الداخل الشامي؛ ثم ينقضَّ عليهم جيشان كبيران، جيش يخرج من فلسطين، وجيش يخرج من أنطاكية.

استطاع المسلمون بفضل العيون التي بثوها داخل بلاد الشام كشف خطة هرقل هذه، فاحتاطوا لها، وأرسل كل قائد منهم إلى الصديق يعلمه بما عزم عليه هرقل، فكتب إليهم الصديق يحضهم على الثبات أمام عدوهم، ويبشرهم بالنصر، ثم أخذ يمدهم بالرجال والسلاح والخيول، وبكل ما يلزمهم في حربهم؛ فدعا هاشم بن عتبة بن أبي وقاص، وسيره إلى أبي عبيدة بن الجراح، ولما وصل هاشم بجيشه إلى أبي عبيدة؛ سُرَّ المسلمون بذلك كثيراً، ثم أرسل الصديق بعده جيشًا بقيادة سعيد بن عامر، فالتحق بجيش يزيد بن أبي سفيان، وخرج مع جيش سعيد بلالُ بن رباح رضي الله عنه، بعد أن أذن له الصديق في بذلك، وكانت وفود الجهاد من أهل القرى والضواحي تتوالى إلى المدينة؛ فيرسلهم أبو بكر إلى الشام تباعاً(6).

 

(1) الطبراني، سليمان بن أحمد، المعجم الكبير، تحقيق: حمدي عبد المجيد (القاهرة: مكتبة ابن تيمية، ط 2، د. ت) 20/8.
(2) ينظر: البخاري، صحيح البخاري، مصدر سابق، 2/72.
(3) الواقدي، محمد بن عمر، فتوح الشام (بيروت: دار الكتب العلمية، ط 1، 1417/1997) 1/6.
(4) السيوطي، عبد الرحمن بن أبي بكر، تاريخ الخلفاء، تحقيق: حمدي الدمرداش (مكة المكرمة: مكتبة نزار مصطفى الباز، ط 1، 1425/2004) 1/82.
(5) ينظر: الطبري، تاريخ الطبري، مصدر سابق، 3/387، وينظر: ابن كثير، البداية والنهاية، مصدر سابق، 7/3،
(6) ينظر: الحميري، الاكتفاء، مصدر سابق، 2/183.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين