الموجز في التاريخ :فتح مصر

كانت دوافع فتح المسلمين لمصر قوية وملحَّة؛ فإضافة إلى سعيهم لنشر رسالة التوحيد في أرجاء المعمورة كلها؛ كان فتحهم لبلاد الشام قد فصل مصر وشمال إفريقية عن مركز الدولة البيزنطية في القسطنطينية، ولم يعد يصل بينهما إلا البحر، وظلت قوة البيزنطيين في مصر وشمال إفريقية قويةً وكبيرةً، لا يأمن معها المسلمون على أنفسهم في الشام، إضافة إلى معاناة الأقباط من ظلم الروم في مصر؛ كل هذا وغيره شجع الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه على الكتابة لعمرو بن العاص رضي الله عنه أن يندب الناس إلى المسير إلى مصر؛ بعد الانتهاء من فتح بيت المقدس(1).

سار عمرو بن العاص رضي الله عنه من بيت المقدس إلى مصر محاذيًا ساحل البحر؛ فدخل رفح والعريش، ولقيه المصريون بالتهليل والترحاب، ولم يجد في طريقه قوة رومية، إلى أن وصل الفَرْما(2)، وفيها وقع أول قتال بين المسلمين والروم، وكان الظفر فيها للمسلمين(3)، ثم سار عمرو رضي الله عنه لفتح حصن بابليون، وفي بلبيس(4) برز له الروم لصده عن الحص؛ فقال لهم عمرو رضي الله عنه: لا تعجلونا حتى نعذر إليكم، وطلب أن يبرز إليه منهم: أبو مريم وأبو مرايام؛ فدعاهم عمرو رضي الله عنه إلى الإسلام أو الجزية، وأبلغهم أن نبينا محمد صلى الله عليه وسلم قد قال لنا: «إنكم ستفتحون مصر، وهي أرض يسمى فيها القيراط، فإذا فتحتموها؛ فأحسنوا إلى أهلها، فإن لهم ذمة ورحمًا»(5)، ولكنهم أبوا، وبيَّتوا المسلمين؛ فهزمهم المسلمون(6).

في فتح بلبيس وقعت ابنة المقوقس (أرمانوسة) أسيرة في يد المسلمين؛ وقد كان المقوقس قد أكرم رسولَ رسولِ الله إليه: حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه؛ لما أرسله إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعوه إلى الإسلام؛ فلم يسلم، لكنه أكرم حاطبًا، وبعث معه لرسول الله صلى الله عليه وسلم بجاريتين: مارية وأختها سيرين، وبغلة وكسوة، فقبلها رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فلما وقعت ابنته أسيرةً في يد المسلمين؛ ردَّها إليه عمرو بن العاص رضي الله عنه، ومعها جواريها وخدمها ومجوهراتها؛ جزاءً لأبيها على هديته لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فسرَّ المقوقس بها، وبتصرف المسلمين معها(7).

ثم سار عمرو رضي الله عنه بجنوده إلى حصن بابليون، وكان الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه قد أمدَّ عمرو بن العاص بأربعة آلاف مقاتل، فيهم أربعة من قادة الصحابة، كل واحد منهم يعدل ألف رجل، وهم: الزبير بن العوام، والمقداد بن الأسود، وعبادة بن الصامت، ومسلمة بن مخلد رضي الله عنهم؛ ولـمَّا وصل عمروٌ حصن بابليون حاصره حصارًا دام سبعة أشهر؛ حتى راسل المقوقسُ عمرو بن العاص أن يدفع لهم الجزية، فقبل عمرو ذلك، وأرسل إليه وفدًا على رأسهم الصحابي الجليل: عبادة بن الصامت رضي الله عنه؛ وقد لام قيصرُ الروم المقوقسَ على دفعه الجزية للمسلمين، ونفاه عن مصر، لكن عمرو بن العاص رضي الله عنه أمضى لهم الصلح؛ على أن يُخرج جند الروم ما يلزمهم من القوت لبضعة أيام، وتبقى الذخائر وآلات الحرب غنيمة للمسلمين، وأقام عمرو رضي الله عنه والمسلمون في حصن بابليون عدة أشهر(8)؛ حتى جاءه الإذن من الخليفة: عمر بن الخطاب رضي الله عنه لفتح الإسكندرية.

(1) الطبري، تاريخ الطبري، مصدر سابق، 4/104.

(2) الفرما: مدينة قديمة بين العريش والفسطاط، ينظر: ياقوت، معجم البلدان، مصدر سابق، ص: 4/255.

(3) الحميري، الاكتفاء، مصدر سابق، 2/326.

(4) بلبيس: مدينة بينها وبين فسطاط مصر عشرة فراسخ على طريق الشام، ينظر: ياقوت، معجم البلدان، مصدر سابق، ص: 1/479.

(5) مسلم، مسلم بن الحجاج، صحيح مسلم (بيروت: دار إحياء التراث العربي، د. ط، د. ت) 4/1970.

(6) ينظر: ابن كثير، البداية والنهاية، مصدر سابق، 7/97، وينظر: ابن الأثير، الكامل، مصدر سابق، 2/383.

(7) الواقدي، فتوح الشام، مصدر سابق، 2/44.

(8) ينظر: ابن عبد الحكم، عبد الرحمن بن عبد الله، فتوح مصر والمغرب (القاهرة: مكتبة الثقافة الدينية، د. ط، 1415) 1/85.

جميع المواد المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين