الموجز في التاريخ: عمر بن الخطاب رضي الله عنه

إسلامه وصحبته رسول الله صلى الله عليه وسلم

هو عمر بن الخطاب بن نفيل، من بني عدي، يجتمع نسبه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في كعب بن لؤي بن غالب، ولد بعد عام الفيل بثلاث عشرة سنة، يكنى أبا حفص(1)، ويلقب بالفاروق؛ لأنه أظهر الإسلام بمكة، ففرَّق الله به بين الكفر والإيمان، كان عمر بن الخطاب جبارًا في الجاهلية، لقي منه المسلمون بادي الأمر شدةً وأذىً، بل لقد همَّ عمر بقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم(2)، ثم منَّ الله عليه؛ فهداه لهذا الدين.

أسلم عمر رضي الله عنه في السنة السادسة للهجرة، وتم به عدد المسلمين أربعين رجلًا؛ فأظهر الله به الإسلام، فدعي إليه علانية، كما قال ابن مسعود رضي الله عنه: "كان إسلام عمر فتحًا، وكانت هجرته نصرًا، وكانت إمارته رحمةً، لقد رأيتنا وما نستطيع أن نصلي ونطوف بالبيت، حتى أسلم عمر، فلما أسلم قاتلناهم، حتى تركونا نصلي"(3)، ولقد ناله رضي الله عنه بعد إسلامه من أذى الناس ما ناله.

ولـمَّا كانت الهجرة؛ هاجر الناس سرَّاً إلى المدينة؛ إلا عمر رضي الله عنه، فقد هاجر علانية، كما قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: "ما علمت أن أحدًا من المهاجرين هاجر إلا متخفيًا؛ إلا عمر بن الخطاب؛ فإنه لـمَّا همَّ بالهجرة تقلد سيفه، وتنكَّب قوسه، وانتضى في يده أسهمًا، واختصر عَنَزَته، ومضى قبل الكعبة، والملأ من قريش بفنائها؛ فطاف بالبيت سبعًا متمكنًا، ثم أتى المقام، فصلى متمكنًا، ثم وقف على الحلق واحدة واحدة، فقال لهم: شاهت الوجوه، لا يرغم الله إلا هذه المعاطس، من أراد أن تثكله أمه، ويوتم ولده، أو يرمل زوجه؛ فليلقني وراء هذا الوادي، قال علي رضي الله عنه: فما تبعه أحد؛ إلا قوم من المستضعفين علمهم وأرشدهم، ومضى لوجهه"(4).

تربى عمر رضي الله عنه كغيره من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في كنف رسول الله صلى الله عليه وسلم على منهج القرآن وهديه؛ فأثمر ذلك في نفسه إيمانًا راسخًا، وشجاعةً في الحق وجرأةً؛ لذا كان كثيرًا ما يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن التصرفات والأحكام التي لم يدرك حكمتها؛ فأكسبه ذلك فهمًا لمقاصد هذا الدين وحِكَمه؛ حتى نزل القرآن موافقًا لرأيه، في غير ما مسألة من مسائل هذا الدين التي أدلى فيها برأيه، فهو القائل رضي الله عنه: قلت يا رسول الله: لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلى؛ فأنزل الله في ذلك، وقلت يا رسول الله: يدخل عليك البرُّ والفاجر، فلو أمرت أمهات المؤمنين بالحجاب، فأنزل الله آية الحجاب، قال: وبلغني معاتبة النبي صلى الله عليه وسلم بعض أزواجه؛ فدخلت عليهن، قلت: إن انتهيتن أو ليبدلنَّ اللهُ رسولَه خيرًا منكن، حتى أتت إحدى نسائه، قالت: يا عمر، أما في رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يعظ نساءَه، حتى تعظهن أنت؟ فأنزل الله:)عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً خَيْراً مِنْكُنَّ مُسْلِماتٍ مُؤْمِناتٍ قانِتاتٍ تائِباتٍ عابِداتٍ سائِحاتٍ ثَيِّباتٍ وَأَبْكاراً((5)}التحريم (5){ كما وافقه القرآن في غيرها من المسائل(6).

لازم عمر رضي الله عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم طيلة حياته، في حله وترحاله، وفي غزواته وسلمه، واتفق العلماء على أنه رضي الله عنه شهد بدرًا وأحدًا، والمشاهد كلها، ولم يغب عن غزوة غزاها رسول الله صلى الله عليه وسلم(7)؛ فأورثه ذلك علمًا غزيرًا في السنة النبوية؛ حتى صار من أكبر فقهاء الصحابة رضي الله عنهم وأعلمهم، وكان رضي الله عنه أحد الذين حفظوا القرآن كله، من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعلم بقوله: «بينا أنا نائم أُتيتُ بقدَحٍ لبنٍ، فشِربتُ منه، حتى إني لأرَى الرِّي يخرج من أطرافي، فأعطيتُ فضلِي عمر بن الخطاب»، فقال مَن حوله: فما أوَّلْتَ ذلك يا رسول الله؟ قال: «العِلم»(8)، وقال فيه ابن مسعود رضي الله عنه: «إني لأحسب عمر قد رفع معه يوم مات تسعة أعشار العلم، وإني لأحسب علم عمر لو وضع في كفة الميزان، وعلم من بعده؛ لرجح عليه علم عمر رضي الله عنه»(9)، وكيف لا يكون كذلك وهو الملهم المحدث، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لقد كان فيما قبلكم من الأمم محدثون، فإن يك في أمتي أحد، فإنه عمر»(10)، واستحق لذلك أن يكون خير أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أبي بكر الصديق رضي الله عنه؛ ولذا عهد إليه الصديق بالخلافة من بعده.

ولي الفاروق رضي الله عنه الخلافة بعد وفاة الصديق رضي الله عنه عام (13 ه)، وكانت خلافته تطبيقاً حيَّاً لكتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ضرب خلالها أروع الأمثلة في العدل والزهد، والرحمة والحرص على ما يصلح رعيته، ويقضي حوائجهم، بل لقد كان رضي الله عنه رحيمًا حتى بالبهائم، فقد أقدم على ضرب جمَّالٍ قد حمَّل جمله أكثر مما يطيق، ووعظ قومًا لأنهم لم يعطوا البهائم حقها في الرعي، وقال لهم: ألا خليتم عنها فأكلت من نبت الأرض(11)؛ واضعًا بذلك رضي الله عنه القواعد والأسس التي ينبغي أن تقوم عليها منظمات رعاية الحيوان من بعده! ووسعَّ الفاروق رضي الله عنه مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأجرى تعديلات يسيرة في المسجد الحرام بعد أن وسعه؛ فنقل مقام إبراهيم u إلى مكانه اليوم، وقد كان ملصقًا بالكعبة؛ وذلك تيسيرًا على الطائفين والمصلين بالبيت.

كان عمر رضي الله عنه حريصًا على تسهيل سبل التواصل بين الأمصار الإسلامية، وقد رصد حصةً من بيت مال المسلمين، أنفقها على عددٍ ضخمٍ من الجمال، جعلها للتواصل بين الجزيرة، والشام والعراق، ووضع في الطريق بين مكة والمدينة ما يصلح به حاجة المسافر، وكانت توجيهاته رضي الله عنه للقبائل والأمراء والولاة تصب في هذا الاتجاه؛ فبعد أن كلمه بعضهم أن يبنوا منازلهم في الطريق بين مكة والمدينة؛ أذن لهم، واشترط عليهم أن ابن السبيل أحق بالماء والظل(12)، وشق في مصر الخليجَ الذي هدمه الروم، الذي كان يصل نهر النيل بالبحر الأحمر؛ فيسَّر شقُّه على المسلمين التجارة، والتنقل بين مصر والحجاز؛ وبقي الخليج إلى أن أهمله الولاة؛ فردم، كما بنى المدن على الثغور، كالبصرة والكوفة، والجيزة وسرت، وشجع الزراعة والصناعة(13).

(1) ينظر: ابن الأثير، علي بن أبي الكرم، أسد الغابة (بيروت: دار الفكر، 1409/1989) 3/642.

(2) ابن حنبل، أحمد بن حنبل، فضائل الصحابة، تحقيق: وصي الله محمد (بيروت: مؤسسة الرسالة، ط1، 1403) 1/285.

(3) ينظر: الصوباني، محمد بن حمد، الصَّحيِحُ من أحاديث السّيرة النبوية (مدار الوطن للنشر، ط 1، 1432/ 2011) 1/86.

(4) ابن الأثير، أسد الغابة، مصدر سابق، 3/649.

(5) البخاري، صحيح البخاري، مصدر سابق، 1/89.

(6) ينظر: مسلم، صحيح مسلم، مصدر سابق، 4/1865.

(7) المبرد، يوسف بن حسن، محض الصواب في فضائل أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، تحقق: عبد العزيز بن محمد (المدينة المنورة: عمادة البحث العلمي بالجامعة الإسلامية، ط 1، 1420/2000) 2/637.

(8) البخاري، صحيح البخاري، مصدر سابق، 9/35.

(9) الطبراني، سليمان بن أحمد، المعجم الكبير، تحقيق: حمدي بن عبد المجيدي (القاهرة: مكتبة ابن تيمية، ط 2، د، ت) 9/163.

(10) البخاري، صحيح البخاري، مصدر سابق: 5/12.

(11) المبرد، محض الصواب في فضائل أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، مصدر سابق، 2/502.

(12) ابن سعد، محمد بن سعد، الطبقات الكبرى، تحقيق: محمد عبد القادر (بيروت: دار الكتب العلمية، ط 1، 1410/1990) 3/232.

(13) ينظر: الصلابي، عمر بن الخطاب، مصدر سابق، ص: 213.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين