الموجز في التاريخ: عام الرمادة

في عام (18) للهجرة؛ أصاب الجزيرة العربية قحط شديد، جعلت الوحوش تأوي إلى الإنس، وجعل الرجل يذبح شاته فيعافها من قبحها، وهرع الناس من أعماق البادية إلى المدينة يقيمون فيها، يلتمسون حلَّاً عند أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه؛ وكان الفاروق أكثر الناس إحساسًا بهذا البلاء، وأكثرهم تحملًا لتبعاته، واتخذ رضي الله عنه للتعامل مع هذه الأزمة الشديدة عدة خطوات؛ حتى كشفها الله برحمته I؛ فبدأ رضي الله عنه بنفسه، فحلف ألا يذوق لحمًا، ولا سمنًا حتى يحيا الناس؛ وكان رضي الله عنه صارمًا في الوفاء بهذا القسم؛ فاقتصر على أكل الزيت حتى جاع، وتغير لونه من شدة الجوع، يقول عياض بن خليفة: "رأيت عمر رضي الله عنه في عام الرمادة وهو أسود اللون، ولقد كان رجلًا عربيًا، يأكل السمن واللبن؛ فلما أمحل الناس حرَّمها، فأكل الزيت حتى غيَّر لونه وجاع"(1)، وكما منع نفسه الطعام رضي الله عنه؛ فقد كان يشدد على أهل بيته، ويرى أنه يجب عليهم أن يعانوا كما يعاني أكثر الناس، ورأى يومًا بيد ولد من أولاده بطيخة؛ فقال على الفور: بخٍ بخٍ يا ابن أمير المؤمنين، تأكل الفاكهة وأمة محمد هزْلَى؟ فخرج الصبي هاربًا يبكي، ولم يسكت عمر حتى علم أن ابنه اشتراها بكف من نوى(2).

لم يترك عمر رضي الله عنه وسيلة يواجه بها هذه الشدة إلا لجأ إليها، فلما أخذ الناس يفدون إلى المدينة، وبلغ عددهم الآلاف؛ وكَّل رجالًا يقومون بمصالحهم، وقسَّم العمل عليهم؛ حتى لا يتداخل عمل في عمل، فمنهم من كان يعمل على إحصاء أعداد اللاجئين، ومنهم من كان يحصي أعداد المرضى، ومنهم من كان يجتمع بعمر مساءً، يطلعه على أخبار الناس وأحوالهم، ومنهم من كان يصنع لهم الطعام، ولقد كان عمال عمر رضي الله عنه يقومون إلى القدور وقت السحر، يصنعون الطعام للناس، وربما كان عمر رضي الله عنه معهم، يشرف على صنع الطعام بنفسه(3)، ليضع رضي الله عنه بتعامله المنظم مع هذه الشدة الأسس والقواعد التي ينبغي أن تتعامل بها المؤسسات الإغاثية مع الشدائد والأزمات التي تنزل بالناس.

ثم أرسل عمر رضي الله عنه إلى عماله على الأمصار أن يبعثوا إليه بطعام، يصلح من عنده من الناس، فكلهم أرسل إليه، وكان أول من قدم عليه: أبو عبيدة بن الجراح رضي الله عنه، ومعه أربعة آلاف راحلة من طعام، وأرسل إليه عمرو بن العاص رضي الله عنه بألف بعير تحمل الدقيق، وأرسل في البحر عشرين سفينة تحمل الدقيق والدهن، وبعث إليه بخمسة آلاف كساء، كما أرسل إليه معاوية رضي الله عنه بثلاثة آلاف بعير تحمل طعامًا، ووصلت إليه من العراق ألف بعير تحمل دقيقًا، وشرع عمر رضي الله عنه في توزيع ذلك كله على أهل المدينة، ومن لاذ بها، وسيَّر منه إلى البادية، وأمر بتوزيعه على أحياء العرب جميعًا(4).

كان من سياسة عمر رضي الله عنه وفقهه في التعامل مع هذه الشدة عام الرمادة؛ أن أوقف حدَّ السرقة، وقال: (لا يقطع في عذق، ولا في عام السَّنة) (5)، وأخَّر رضي الله عنه في ذلك العام أخذَ الزكاة من أصحابها، ولم يلزمهم بدفعها؛ حتى إذا أخصبت الأرض؛ أخذ منهم الزكاة عن عام الرمادة، ومع كل هذه الخطوات التي اتخذها رضي الله عنه في التعامل مع هذه النازلة؛ كان لا يفتر عن الدعاء والصلاة؛ أن يرفع الله عنهم هذه الشدة، ويتضرع إلى ربه ألا يكون هلاك أمة محمد صلى الله عليه وسلم على يديه؛ وبعد تسعة أشهر من هذه الشدة؛ أنزل الله تعالى الغيث رحمة بعباده، فأخضبت الأرض، وكشفت بنزوله الشدة(6).

قدم الفاروق رضي الله عنه للحضارة الإسلامية خدمات جليلة وعظيمة، كانت نبراسًا يضيء الطريق لمن بعده من الخلفاء والأمراء، سواء في الجانب الاجتماعي، أو في الجانب المدني، أو في الجانب العمراني، أو في غيرها من جوانب نهوض الأمم وتقدمها؛ ومن ذلك تطويره لمؤسسة القضاء في الإسلام، والتي تعدم أعظم مؤسسات الدولة وأخطرها، والتي تعطي صورة صادقة عن عدل الدولة ورقيها، أو عن ظلمها وتخلفها، فبعد أن اتسعت رقعة الدولة الإسلامية زمن الفاروق رضي الله عنه، وكثرت مشاغل الخليفة وولاته؛ أقدم عمر رضي الله عنه على فصل السلطة القضائية عن غيرها من السلطات، فأصبح للقضاة مؤسسة خاصة بهم، تفصلهم عن السلطة التنفيذية؛ بعد أن كان القاضي هو الوالي نفسه، ومع هذا الفصل أبقى عمر رضي الله عنه بعض الولاة على القضاء أيضًا؛ فمن القضاة الذين قصرهم عمر رضي الله عنه على القضاء وحده: عبد الله بن مسعود، فقد ولاه قضاة الكوفة، ومنهم من أبقاه على القضاء مع الولاية، كمعاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهم(7).

كان من أعظم ما أظهر عظمة الفاروق رضي الله عنه في تطويره لمؤسسة القضاء، ووضعه دستورًا قويمًا لها؛ ما ذكره في رسائله لولاته وقضاته، ومن أعظم تلك الرسائل؛ رسالته لواليه على البصرة: أبو موسى الأشعري رضي الله عنه، التي ما تزال موضع إكبار العلماء، فقد جمع فيها رضي الله عنه بين آداب القاضي وصفاته، وما يجب عليه مراعاته، وبين أصول المحاكمة، فقال رضي الله عنه: «أما بعد فإن القضاء فريضة محكمة، وسنة متبعة، فافهم إذا أدلي إليك بحجة، وأنفذ الحق إذا وضح، فإنه لا ينفع تكلم بحق لا نفاذ له، وآسِ بين الناس في وجهك ومجلسك وعدلك؛ حتى لا ييأس الضعيف من عدلك، ولا يطمع الشريف في حيفك، البينة على من ادعى، واليمين على من أنكر، والصلح جائز بين المسلمين، إلا صلحًا أحلَّ حرامًا، أو حرم حلالًا، لا يمنعك قضاء قضيته بالأمس راجعت فيه نفسك، وهديت فيه لرشدك؛ أن تراجع الحقَّ، فإن الحق قديم، ومراجعة الحق خير من التمادي في الباطل، الفهمَ الفهمَ فيما يختلج في صدرك مما لم يبلغك في الكتاب أو السنة، اعرف الأمثال والأشباه، ثم قس الأمور عند ذلك؛ فاعمد إلى أحبها عند الله، وأشبهها بالحق فيما ترى، واجعل لمن ادعى بينة أمدًا ينتهي إليه، فإن أحضر بينة أخذ بحقه، وإلا وجهت القضاء عليه، فإن ذلك أجلى للعمى، وأبلغ في العذر، المسلمون عدول بعضهم على بعض، إلا مجلود في حد، أو مجرب في شهادة زور، أو ظنين في ولاء أو قرابة، إن الله تولى منكم السرائر، ودرأ عنكم بالبينات، وإياك والقلق والضجر، والتأذي بالناس، والتنكر للخصوم في مواطن الحق التي يوجب الله بها الأجر، ويحسن بها الذخر، فإنه من يصلح نيته فيما بينه وبين الله ولو على نفسه؛ يكفه الله ما بينه وبين الناس، ومن تزين للناس بما يعلم الله منه غير ذلك؛ يشنه الله، فما ظنك بثواب غير الله عز وجل في عاجل رزقه، وخزائن رحمته، والسلام عليك»(8).

(1) ابن عساكر، علي بن الحسن، تاريخ دمشق، تحقيق: عمرو بن غرامة (دمشق: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، د. ط، 1415/1995) 44/21.

(2) ابن سعد، الطبقات، مصدر سابق، 3/240.

(3) ينظر: المصدر السابق، 3/241.

(3) ينظر: سبط ابن الجوزي، يوسف بن قِزْأُوغلي، مرآة الزمان في تواريخ الأعيان، تحقيق وتعليق: محمد بركات، وغيره (دمشق: دار الرسالة العالمية، ط 1، 1434/2013) 5/271، وينظر: ابن سعد، الطبقات، مصدر سابق، 3/240،

(4) عبد الرزاق، عبد الرزاق بن همام، المصنف، تحقيق: حبيب الرحمن الأعظمي (الهند: المجلس العلمي، ط 2، 1403) 10/242.

(5) ينظر: ابن كثير، البداية والنهاية، مصدر سابق، 7/90.

(6) ينظر: الصلابي، عمر بن الخطاب، مصدر سابق، ص: 273.

(7) الدارقطني، علي بن عمر، سنن الدارقطني، تحقيق: شعيب الأرنؤوط، وآخرون (بيروت: مؤسسة الرسالة، ط 1، 1424/2004) 5/367.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين