الموجز في التاريخ: جموع الموتورين تفدُ المدينة

في شوال عام (35 ه) خرجت جموع أهل الفتنة من الكوفة والبصرة ومصر، على هيئة حجاج، حتى وصلت مشارف المدينة، وكان المتمردون من أهل مصر ألفَ رجل، مقسمين على أربع فرق، على كل فرقة أمير، ومعهم شيطانهم: عبد الله بن سبأ، وعلى رأس تلك الفرق كلها: الغافقي بن حرب العكي، وخرج أهل الكوفة في ألف رجل أيضًا، وأمير فرقهم: عمرو بن الأصم، كما خرج أهل البصرة في ألف رجل، وأمير فرقهم: حرقوص بن زهير السعدي، يريدون عزل عثمان رضي الله عنه، وتنصيب خليفةً غيره، وكان أهل الفتنة في مصر يريدون علي بن أبي طالب رضي الله عنه خليفةً، وكان أهل الكوفة يريدون الزبير بن العوام رضي الله عنه خليفةً، وكان أهل الفتنة من البصرة يريدون طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه خليفةً؛ وذلك منهم للإيقاع بين الصحابة رضي الله عنهم، وقد نجى الله عز وجل أصحاب رسوله صلى الله عليه وسلم من هذا المخطط الشيطاني.

التقى عثمان رضي الله عنه ببعض تلك الجموع، وأرسل علي بن أبي طالب رضي الله عنه إلى غيرها، وبينوا لهم ما أشكل عليهم في أمر عثمان رضي الله عنه، فرضيت تلك الجموع بما قيل لها، وجددوا البيعة لعثمان رضي الله عنه، على السمع والطاعة، وألا يشقوا عليه عصا، ولا يفارقوا جماعة المسلمين، بشرط أن يعطيهم ما طلبوا، ورجعت تلك الوفود إلى ديارها راضية، وتبين بذلك لقادة الفتنة ومحركيها أن خطتهم قد فشلت، وأن أهدافهم الدنيئة لم تتحقق؛ فخططوا لعملٍ يقضي على ما جرى من صلح بين عثمان رضي الله عنه وأهل الأمصار، فأرسل حكيمُ بن جبلة والأشترُ النخعي إلى وفد مصر من يعلمهم أن معه كتاب من عثمان رضي الله عنه إلى والي مصر: عبد الله بن أبي السرح، وفيه أمر من عثمان رضي الله عنه بقتلهم، فرجع وفد مصر إلى المدينة ساخطًا، وعلم بذلك وفد أهل الكوفة ووفد أهل البصرة؛ فرجعوا! وقد تنبه لرجوعهم علي رضي الله عنه، فقال لهم: كيف علمتم يا أهل الكوفة ويا أهل البصرة بما لقي أهل مصر، وقد سرتم مراحل، ثم طويتم نحونا؟ هذا والله أمر أبرم بالمدينة! قالوا: فضعوه على ما شئتم، لا حاجة لنا في هذا الرجل، ليعتزلنا، وهو في ذلك يصلي بهم، وهم يصلون خلفه رضي الله عنه [ينظر: الطبري، تاريخ الطبري، مصدر سابق، 4/348].

نفى عثمان رضي الله عنه أن يكون كتب ذلك الكتاب، وقال لهم: إنهما اثنتان، أن تقيموا رجلين من المسلمين، أو يمين بالله الذي لا إله إلا هو ما كتبت، ولا أمليت، ولا علمت، وقد يُكتب الكتاب على لسان الرجل، وينقش الخاتم، فلم يصدقوه [ابن كثير، البداية والنهاية، مصدر سابق، 7/175] ، وفي هذه الظروف كلَّف عثمان رضي الله عنه عبدَ الله بن عباس رضي الله عنهأن يحج بالناس هذا الموسم؛ وكتب له كتابًا يقرؤه على الناس في الحج، بيَّن فيه قصته مع الخوارج، وموقفه منهم، ومآخذهم عليه. ينظر: الطبري، تاريخ الطبري، مصدر سابق، 4/407.

بعد ذلك بدأ حصار الموتورين لعثمان رضي الله عنه، حتى منعوه من الخروج للصلاة، وقدَّموا للصلاة رجلاً منهم، وطلبوا من عثمان رضي الله عنه أن يخلع نفسه، أو يقتلوه، فرفض رضي الله عنه أن يخلع نفسه، وأشار عليه ابن عمر رضي الله عنه بذلك أيضًا، ألا يخلع قميصًا قمَّصه الله إياه؛ حتى لا تكون سنة، كلما كره قوم خليفةً، أو إمامًا قتلوه. [ابن سعد، الطبقات، مصدر سابق، 2/48]، بل إن عثمان رضي الله عنه كان يعمل بوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم له بذلك لما قال له صلى الله عليه وسلم: «يا عثمان إنه لعل الله يقمصك قميصًا، فإن أرادوك على خلعه فلا تخلعه لهم» [الترمذي، سنن الترمذي، مصدر سابق، 5/628].

وبينما عثمانُ محاصر في داره؛ سمع توعد الموتورين له بالقتل؛ فأشرف عليهم، وحاول أن يهدأهم، ويبيِّن لهم ما التَبس عليهم من أمره، وحذرهم من عاقبة قتله، وأخذ يذكرهم بفضائله، وما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه؛ ولكن الباطل كان قد أعماهم وأصمهم؛ فلم يستجيبوا له، وقال عثمان رضي الله عنه لمن معه في الدار: إنهم يتوعدونني بالقتل، وقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا يحل دم امرئٍ مسلم إلا في إحدى ثلاث: رجل كفر بعد إسلامه، أو زنى بعد إحصانه، أو قتل نفسًا بغير نفسٍ» [أحمد، مسند أحمد، مصدر سابق، 1/365] ، فوالله ما زنيت في جاهليةٍ ولا إسلام، ولا تمنيت بدلًا بديني منذ هداني الله عز وجل، ولا قتلت نفسًا، فبم يقتلوني؟! [ابن كثير، البداية والنهاية، مصدر سابق، 7/179].

ودخل عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرضون عليه الدفاع عنه، والتصدي لأولئك الموتورين، عرض عليه ذلك كلٌّ من علي والزبير، وغيرهم رضي الله عنهم؛ لكنه رضي الله عنه أبى ذلك [ينظر: الخطيب، أحمد بن علي، المتفق والمفترق، تحقيق: محمد صادق (دمشق: دار القادري للطباعة والنشر والتوزيع، ط 1، 1417/1997) 1/459، وينظر: ابن عساكر، تاريخ دمشق، مصدر سابق، 39/373] ، ولم يأذن لأحد أن يسلَّ سيفًا في هذه الفتنة؛ لأنه يعلم أنه مقتول فيها لا محالة، لكنَّ أولئك الصحب الأوفياء أمروا أبناءهم ألا يبرحوا بيت عثمان رضي الله عنه؛ فبقي عنده الحسن والحسين، وابن عمر وعبد الله بن الزبير، وغيرهم كثير، بل لقد كانت داره غاصةً بالناس، ولو أذن لهم عثمان رضي الله عنه بالقتال لأخرجوهم من أقطارها، لكنه شدد عليهم ألا يقاتلوا؛ ولما شدد الموتورون الحصار على عثمان ومنعوا عنه الماء؛ خرجت إليه أم حبيبة رضي الله عنها؛ فمنعها المحاصرون من الوصول إليه، بل لقد ضرب الأشتر وجه بغلتها حتى ندَّت، وكادت تقتل رضي الله عنها [الطبري، تاريخ الطبري، مصدر سابق، 4/386].

الموتورون يجمعون على قتل عثمان

في نهاية موسم الحج بلغ الموتورين أنَّ أهل الموسم يريدون نصرة عثمان رضي الله عنه؛ فقالوا: لا يخرجنا مما وقعنا فيه إلا قتلُ هذا الرجل؛ فيشتغل بذلك الناس عنا، فهاجموا دار عثمان رضي الله عنه؛ فتصدى لهم الحسن، وابن الزبير، ومحمد بن طلحة، ومروان بن الحكم، وسعيد بن العاص، وغيرهم رضي الله عنهم، ونشب القتال بينهم؛ فنادى بهم عثمان رضي الله عنه: الله الله، أنتم في حل من نصرتي؛ فأبوا ذلك، ودخل عليه غلمانه لينصروه؛ فأمرهم ألا يفعلوا، بل قال لهم: من كفَّ يده فهو حرٌ، وقال للناس في وضوح وإصرار: أعزم على كل من رأى أن عليه سمعًا وطاعةً إلا كفَّ يده وسلاحه؛ لأنه رضي الله عنه كان واثقًا من استشهاده؛ لشهادة النبي صلى الله عليه وسلم له بذلك؛ فكفوا عن القتال وألزمهم الخروج من الدار، وقد أصيب في ذلك القتال الحسن بن علي، وابن الزبير، ومحمد بن حاطب، ومروان بن الحكم، وقتل المغيرة بن الأخنس وغيره رضي الله عنهم، ولم يبقَ في الدار إلا عثمان رضي الله عنه وآله، وليس بينه وبين المحاصرين مدافع ولا حامٍ، ونشر بعد ذلك المصحف بين يديه، وأخذ يقرأ، وكان يومئذٍ صائمًا؛ وإذا برجل من المحاصرين يدخل عليه الدار؛ فقال له عثمان رضي الله عنه: بيني وبينك كتاب الله؛ فخرج الرجل وتركه، ثم دخل عليه رجل من بني سدوس، يقال له: الموت الأسود، فخنفه قبل أن يضربه بالسيف، وقال: والله ما رأيت شيئًا أهون من خنقه، لقد رأيت نفسه مثل الجان تردد في جسده؛ ثم أهوى إليه بالسيف؛ فاتقاه عثمان رضي الله عنه بيده فقطعها؛ فقال عثمان رضي الله عنه: أما والله إنها لأول كف خطت المفصَّل، وذلك أن عثمان كان من كتبة الوحي، وهو أول من كتب المصحف إملاء من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقتل رضي الله عنه والمصحف بين يديه، وعلى إثر قطع يده انتضح الدم على المصحف، وسقط على قوله تعالى: فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ [البقرة: 137].

قيل إن أول من ضرب عثمانَ بالسيف رجل يسمى: رومان اليماني، وقد وقفت زوجته نائلة بنت الفرافصة تدافع عنه، واتقت السيف بيدها؛ فتعمد سودان بن حمران؛ فقطع أصابع يدها، وغمز ورْكَها، ولما تمَّ لهم قتل عثمان رضي الله عنه نهبوا ما في البيت، حتى نهبوا ما على النساء، وهجم كلثوم التجيبي على نائلة امرأة عثمان رضي الله عنه فنهب الملاءة التي عليها، ثم غمز وركها، وقال لها: ويح أمك من عجيزة ما أتمَّك، فرآه صبيح غلام عثمان رضي الله عنه، وسمعه وهو يتكلم في حق نائلة هذا الكلام الفاحش؛ فعلاه بالسيف فقتله، فهجم أحد السبئيين على الغلام فقتله [ينظر: الطبري، تاريخ الطبري، مصدر سابق، 4/388، وينظر: ابن الأثير، الكامل، مصدر سابق، 2/541].

قتل عثمان رضي الله عنه يوم الجمعة، الثامن عشر من ذي الحجة، عام: خمس وثلاثين للهجرة، وعمره: (82) سنة [ينظر: الطبري، تاريخ الطبري، مصدر سابق، 4/415]، ولم يكن منهجه رضي الله عنه في التصدي للفتنة نابعًا من مجريات الأحداث، ولا من ضغط الواقع عليه، بل كان منهجًا نابعًا من مشكاة النبوة؛ حيث أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصبر والاحتساب، وعدم القتال حتى يقضي الله أمرًا كان مفعولًا، وقد وفى رضي الله عنه بوعده وعهده لرسول الله صلى الله عليه وسلم طوال أيام خلافته؛ حتى خرَّ رضي الله عنه شهيدًا مضرَّجًا بدمائه الطاهرة الزكية.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين