الموجز في التاريخ: أساليب عثمان في وأد الفتنة

لما عظم أمر الغوغاء في الكوفة؛ بعد اجتماعهم بابن سبأ، وأعلنوا فيها رفضهم لواليها، بل وللخليفة أيضًا، ونال الناسَ منهم الأذى؛ شكاهم الناسُ إلى عثمان رضي الله عنه، وطلبوا منه أن يخرجهم من الكوفة؛ فنفاهم عثمان رضي الله عنه إلى الشام، وكتب إلى معاوية أن يخيفهم ويأدبهم، فإن رأى منهم رَشدًا قبل منهم، وكان ممن نُفي إلى الشام: الأشتر النخعي، وجندب الأزدي، وصعصعة بن صوحان، وكميل بن زياد، وعمير بن ضابئ، وابن الكواء، وقد أحسن إليهم معاوية بادي الأمر، فكان يجلس إليهم كل يوم، يتغدى معهم ويتعشى، ثم أخذ يستمع إليهم، ويناقشهم فيما ينقمونه من أمر الخليفة عثمان رضي الله عنه، وبغض قريش، ويرد عليهم، ويحتمل منهم الأذى، ويبذل لهم صبره وحلمه، ويحذرهم نقمة الله وغضبه، وفرقةَ الكلمة، ومعصيةَ الإمام،؛ ولما تبين له رضي الله عنه أنهم لا يريدون خيرًا، وأن الفتنة قد عشعشت في رؤوسهم حتى أضلتهم؛ كتب إلى عثمان رضي الله عنه أن يردهم إلى مكانهم الذي نجم فيه نفاقهم؛ فردهم عثمان إلى الكوفة، حيث واليها سعيد بن العاص رضي الله عنه، لكنهم لم ينتهوا عن فجورهم وتضليلهم، ولم يكونوا إلا أطلق ألسنةً منهم حين رجعوا؛ حتى ضجَّ منهم سعيد بن العاص، وكتب إلى عثمان أن يسيرهم إلى عبد الرحمن بن خالد بن الوليد في حمص [ابن كثير، البداية والنهاية، مصدر سابق، 7/166].

لم يلنْ معهم عبد الرحمن بن خالد، كما لان لهم معاوية وسعيد، بل اتبع معهم أسلوبًا شديدًا وقاسيًا، وكان لا يدع مناسبة إلا ويذلهم فيها، ويقول لهم: خسَّر الله عبد الرحمن إن لم يؤدبكم ويخزكم، يا معشر من لا أدري من أنتم: أعرب أم عجم؟ وكان يقول لزعيمهم صعصعة بن صوحان: يا ابن الخطيئة: هل تعلم أن من لم يصلحه الخير أصلحه الشر، وأن من لم يصلحه اللين أصلحته الشدة؟ وبقي معهم على هذا الأسلوب حتى نفع بهم، وأظهروا التوبة والندم، وقالوا له: نتوب إلى الله ونستغفره، أقلنا أقالك الله، وسامحنا سامحك الله، وراسلوا عثمان رضي الله عنه يعلمونه برجوعهم إلى الحق وتوبتهم، فعفا عنهم رضي الله عنه، وظلوا كذلك عند عبد الرحمن في حمص، ورأى أهل الفتنة في الكوفة أن يسكتوا حتى حين، وذلك عام: (33 ه).

وفي عام: (34 ه) أتمَّ ابن سبأ إحكام مخططه التدميري، فرتَّب مع جماعته الخروج على الخليفة وولاته، وراسلهم للبدء بذلك، وكانت البداية من الكوفة؛ التي خلت وقتها من أشراف القوم ووجهائهم، بعد أن أرسلهم واليها: سعيد بن العاص إلى الجهاد، ووفد هو أيضًا على عثمان بن عفان رضي الله عنه، فقام زعيم الفتنة في الكوفة: يزيد بن قيس، إلى مسجد الكوفة يريد خلع الخليفة عثمان رضي الله عنه، فتجمَّع حوله الغوغاء والسبئيُّون الذين كان يراسلهم ابن سبأ أيضًا؛ فعلم بتجمعهم أمير الحرب: القعقاع بن عمر التميمي، فقبض عليهم؛ ولما رأى يزيدُ شدةَ القعقاع معه؛ أظهر له أنه إنما يريد تغيير والي الكوفة: سعيد بن العاص.

وهنا أرسل يزيد بن قيس إلى أصحابه المنفيين إلى حمص أن يقدموا إليه؛ فخرجوا من حمص دون أن يشعر بهم عبد الرحمن بن خالد، أو أن يعثر لهم على أثر، ولما وصلوا الكوفة، قام الأشتر النخعي في المسجد يخطب الناس ويحضهم على الخروج، وكان مما قال: جئتكم من عند الخليفة عثمان، وتركت واليكم سعيد بن العاص عنده، وقد اتفق عثمان وسعيد على إنقاص عطائكم، وخفض أموالكم، وقد كذب في ذلك الأشتر؛ فضجَّ الغوغاء لذلك وثاروا؛ فقادهم رأس الفتنة: يزيد بن قيس، ووقف بهم على أطراف الكوفة؛ يمنعون سعيد بن العاص من دخولها، ويطالبون بأبي موسى الأشعري واليًا عليهم، ولما خرجوا أشار القعقاع بن عمرو بقتلهم؛ لكن رأيه لم يلقَ قبولًا، بل لقد رجع سعيد بن العاص إلى عثمان، وولى عثمان على الكوفة أبا موسى الأشعري رضي الله عنه؛ استجابةً لمطالب السبئيين، ثم كتب إليهم رضي الله عنه قائلًا: أما بعد؛ فقد أمّرت عليكم من اخترتم، وأعفيتكم من سعيد، وواللَّه لأفرشنَّ لكم عرضي، ولأبذلن لكم صبري، ولأستصلحنَّكم بجهدي، فلا تدعوا شيئًا أحببتموه لا يُعصى اللَّه فيه إلا سألتموه، ولا شيئًا كرهتموه لا يعصى اللَّه فيه إلا استعفيتم منه، أنزل فيه عند ما أحببتم، حتى لا يكون لكم على اللَّه حجة [ينظر: التميمي، الفتنة ووقعة الجمل، مصدر سابق، 1/45، وينظر: الطبري، تاريخ الطبري، مصدر سابق، 4/331، وينظر: ابن الأثير، الكامل، مصدر سابق، 2/405].

ومن هنا أخذ عثمان رضي الله عنه يقوم بخطوات عملية، يواجه بها هذه الفتنة التي يقودها ابن سبأ، فاختار عددًا من خيار الصحابة رضي الله عنهم، وأرسلهم إلى الأمصار، يسألون الناس عن أحوالهم، وما أشاعه السبئيون عن ولاتهم، فلم يجدوا ما يوجب على الخليفة أن يعزل أحدًا من الولاة، بل وجدوا الناس في راحة وعدل واطمئنان، ولما رجعوا إلى المدينة قالوا: يا أيها الناس، ما أنكرنا شيئًا، ولا أنكر المسلمون، غير أن أمراءهم يقسطون بينهم، ويقومون عليهم.

ثم أتبع عثمان هذه الخطوة بكتاب إلى الناس في الأمصار، يطلب منهم أن يرفعوا إليه مظالمهم، ويوافوه على الموسم في الحج؛ ليقتصَّ لهم من ظالميهم؛ حتى لو كانوا الولاة أنفسهم، وبعد ذلك استدعى عثمان رضي الله عنه ولاة الأمصار إلى المدينة على عجل، فاجتمع إليه معاوية بن أبي سفيان أمير الشام، وعمرو بن العاص أمير مصر، وعبد الله بن سعد بن أبي سرح أمير المغرب، وسعيد بن العاص أمير الكوفة، وعبد الله بن عامر أمير البصرة؛ فاستمع لرأيهم فيما يشاع في الأمصار، فمنهم من أشار عليه باللين معهم، وأشار عليه عمرو بن العاص بأخذهم بالشدة، ثم كان رأي عثمان رضي الله عنه أن الفتنة قائمة، وأن الأمة تمخض بشر، وأن الشدة لن توقفها، وقال: طوبى لعثمان إن مات ولم يحِّركها، وأشار معاوية بن أبي سفيان على عثمان رضي الله عنه أن يخرج معه إلى الشام؛ لكن عثمان رفض أن يترك جوار رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له معاوية: أبعث لك جيشًا من أهل الشام، يقيم في المدينة لمواجهة الأخطار المتوقعة، وليدفع عنك وعن أهل المدينة؛ فقال عثمان لا، حتى لا أقتِّر على جيران رسول الله صلى الله عليه وسلم الأرزاق بجند تساكنهم، ولا أضيِّق على أهل الهجرة والنصرة [ينظر: التميمي، الفتنة ووقعة الجمل، مصدر سابق، 1/49 وما بعدها، وينظر: الطبري، تاريخ الطبري، مصدر سابق، 4/341 وما بعدها، وينظر: ابن الأثير، الكامل، مصدر سابق، 2/527 وما بعدها]، وكان عثمان رضي الله عنه يريد أن يسير مع أهل الفتنة إلى نهاية الطريق، حتى لا يترك لهم حجة عند الله وعند الناس؛ فيفضحهم الله في الدنيا والآخرة، وتلك منه مصابرة عظيمة رضي الله عنه.

ولقد كان عند عثمان رضي الله عنه من اليقظة والوعي ما جعله يكشف مخططات السبئيين وتحركاتهم، واستطاع بفضل عيونه اختراق صفوف المتآمرين عليه، والوقوف على خططهم، ومعرفة طريقتهم في تنفيذها، والوقت الذي سيبدؤون به ذلك أيضًا، فقد أطلعه اثنان من عيونه؛ أن أهل الفتنة قد أسروا إليهم أنهم سيذكرون لعثمان رضي الله عنه أشياء قد زرعوها في قلوب الناس، وسيبعثون إليهم أن عثمان رضي الله عنه لم يتب منها، ولم يرجع عنها، ثم سيخرجون إلى المدينة على أنهم حجاج، فإذا فرغت المدينة من الناس؛ أحاطوا بعثمان رضي الله عنه، وطالبوه بخلع نفسه، فإن أبى قتلوه، ولما سمع عثمان ذلك ضحك، وقال: اللهم سلم هؤلاء، فإنك إن لم تسلمهم شقوا [الطبري، تاريخ الطبري، مصدر سابق، 4/346]، وقد خطب عثمان رضي الله عنه الناسَ، وأطلعهم على هذا المخطط، فأشار عليه الصحابة بقتلهم، لكنه أبى ذلك، وقال: بل نعفو ونصفح، ونبصرهم بجهدنا، ولا نقتل أحدًا من المسلمين، إلا إذا ارتكب حدًا يوجب القتل، أو أظهر ردةً وكفرًا.

ومما واجه به عثمان رضي الله عنه تلك الفتنة؛ أن دعا أولئك السبئيين ليعرضوا ما عندهم عليه من شبهات وانتقادات، فاجتمع بهم في المسجد، على مرأى ومسمع الصحابة والمسلمين، فتكلم السبئيون بما عندهم، وقام عثمان رضي الله عنه بالرد عليهم، وكان مما قالوه: إن عثمان رضي الله عنه قد أتمَّ الصلاة في السفر، ولم يتمها قبله رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا أبو بكر وعمر رضي الله عنهم، فقال عثمان رضي الله عنه: لقد أتممت الصلاة لما سافرت من المدينة إلى مكة، ومكة بلد فيه أهلي، فأنا مقيم بين أهلي، ولست مسافرًا، أليس كذلك؟ فقال الصحابة: اللهم نعم، وقالوا: إن عثمان رضي الله عنه قد حمى الحمى، وضيَّق على المسلمين، وجعل أرضًا واسعةً لرعي إبله، ولم يكن الحمى كذلك في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبيه رضي الله عنهم؛ فقال عثمان رضي الله عنه: وأنا زدت فيه لما كثرت إبل الصدقة والجهاد، ولم أحمِ لماشيتي، وإني قد وُليت وإني أكثر العرب بعيرًا وشاة، فما لي اليوم شاة ولا بعير، غير بعيرين لحجي، أكذلك؟ فقال الصحابة: اللَّهم نعم، وقالوا: كان القرآن كتبًا فتركتها عثمان رضي الله عنه إلا واحدًا، فقال عثمان رضي الله عنه: ألا وإن القرآن واحد، جاء من عند واحد، وإنما أنا في ذلك تابع لأبي بكر رضي الله عنه الذي جمع القرآن، أليس كذلك؟ فقال الصحابة: اللهم نعم.

وقالوا: إن عثمان قد ردَّ الحكم بن العاص إلى المدينة، وقد سيَّره رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إلى الطائف، فقال عثمان رضي الله عنه: إن الحكم مكيٌّ، سيَّره رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم من مكة إلى الطائف، ثم ردَّه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إلى مكة بعد أن رضي عنه، فرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم سيَّره، ورسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ردَّه، أليس كذلك؟ فقال الصحابة: اللهم نعم، وقالوا: إن عثمان رضي الله عنه قد استعمل الأحداث، فقال عثمان رضي الله عنه: لم أستعمل إلا مجتمِعًا محتمِلًا مرضيَّاً، وهؤلاء أهل عَمَلهم فسلوهم عنهم، ولَقَد ولَّى من قبلي أحدثَ منهم، لقد ولى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أسامة بن زيد، وهو أصغر ممن وليت، وقالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم أشد مما قالوا لي في استعماله أسامة، أليس كذلك؟ فقال الصحابة: اللهم نعم، إن هؤلاء الناس يعيبون للناس ما لا يفسرونه، ولا يوضحونه.

وقالوا: إن عثمان رضي الله عنه أعطى عبد الله بن أبي سرح رضي الله عنه ما أفاء اللَّه عليه، فقال عثمان رضي الله عنه: إني إنما نفلته خمس الخُمس جزاء جهاده في فتح إفريقية، فكان مئة ألف، وقد أنفذ مثل ذلك أبو بكر وعمر رضي الله عنهم، فزعم الجند أنهم يكرهون ذلك؛ فرددته عليهم، وليس ذاك لهم، أليس كذلك؟ فقال الصحابة: اللهم نعم، وقالوا: إن عثمان رضي الله عنه يحب أهل بيته ويعطيهم، فقال عثمان رضي الله عنه: فأما حبي فإني لم أَمِلْ معهم على جَوْر، بل أحمل الحقوق عليهم، وأما إعطاؤهم فإن ما أعطيهم من مالي، ولا أستحل أموال المسلمين لنفسي، ولا لأحد من الناس، ولقد كنت أعطي العطية الكبيرة الرغيبة من صلب مالي أزمان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر رضي الله عنهم، وأنا يومئذٍ شحيح حريص، أفحين أتيتُ على أسنان أهل بيتي، وفَنِي عمري، وودعتُ الذي لي في أهلي؛ قال الملحدون ما قالوا! وإني واللَّه ما حملت على مصر من الأمصار مالًا ولا فضلًا، ولقد رددته عليهم، وما قدم عليَّ إلا الأخماس، ولا يحل لي منها شيء، ولقد تولى المسلمون وضعها في أهلها دوني، وإني لا آكل إلا من مالي، ولا أعطي أهلي إلا من مالي.

وقالوا: إن عثمان رضي الله عنه قد أعطى الأرض المفتوحة لرجالٍ معينين، فقال عثمان رضي الله عنه: إن هذه الأرضين المفتوحة، قد اشترك في فتحها المهاجرون والأنصار، وغيرهم من المجاهدين، فلما قسمتها بينهم منهم من أقام بها واستقر، ومنهم من رجع إلى المدينة أو غيرها، وبقيت تلك الأرض ملكًا له، وقد باع بعضهم تلك الأراضي، وكان ثمنها في أيديهم [ينظر: التميمي، الفتنة ووقعة الجمل، مصدر سابق، 1/55].

لم يكن أهل الفتنة طلاب حق حتى يرتدعوا بكلام عثمان رضي الله عنه وبيانه، بل لقد أعمت الفتنة قلوبهم، واستولى الباطل وحبُه على عقولهم، وعشعشت فيهم آراء ابن سبأ ومعتقداتُه، وأصروا على المضي فيما أملى به عليهم.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين