الموت ... جهة غير متوقعة

الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا محمد رسول الله، وأترضى عن الصحابة، والتابعين، ومن ولاه.

 

وبعدُ:

فليس بدعًا من القول أن الموت مصيبة؛ قال - تعالى -: ? فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ ? [المائدة: 106]، وجزاء الصابر عليها أن الله يصلي عليه؛ قال - تعالى -: ? وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ ? [البقرة: 155 - 157].

 

ومعنى صلاة الله على عبده: أن يخرجه من الظلمات إلى النور؛ قال - تعالى -: ? هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا ? [الأحزاب: 43].

 

والموت على دين الإسلام غاية الغايات، وأسمى الأُمنيات؛ قال الله - تعالى -: ? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ? [آل عمران: 102].

 

والموت خلْق من خلق الله؛ قال - تعالى -: ? الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ ? [الملك: 2].

 

وهو قدرٌ مقَّدر، فأي خلل في هذا التقدير يؤدي إلى فساد الدنيا؛ قال - تعالى -: ? نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ ? [الواقعة: 60].

 

وهذا القدر المحسوم لن يُدفَع، أو يتقدَّم، أو يتأخر؛ قال - تعالى -: ? الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ? [آل عمران: 168]، وقال - تعالى -: ? وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ ? [النحل: 61].

 

وقضى الله في كتابه أننا جميعًا سنلاقي هذا المصير المحتوم؛ قال - تعالى -: ? كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ ? [العنكبوت: 57].

 

ولو نجا منه أحد وكُتِب له الخلد، لكان أحب خلْق الله له سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم - فقال - تعالى -: ? وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ ? [آل عمران: 144].

 

كل نفس ذائقة الموت، وهذا المصير المحتوم سنعيشه بواقعه؛ كما أخبرنا عنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في السنة النبوية المطهَّرة[1].

 

وهو من موازين الله في خلقه لمن تمنَّاه، فهو علامة من علامات أولياء الله: ? قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ? [الجمعة: 6].

 

من أجل ذلك تحدى الله - تعالى - بني إسرائيل أن يتمنَّوه إن كانوا يظنون أن الآخرة لهم دون غيرهم؛ قال - تعالى -: ? قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ? [البقرة: 94].

 

ونوَّع الله - تعالى - الوصف فيمن يأتيه الموت على ثلاث صفات:

فقد وصف بالحضور، والمجيء، والإتيان، فالذي يقضي حياته بالسيئات صباحَ مساءَ، فسيحضره الموت، فيشاهده، ويكون بمكان قريب منه[2] - ليس له توبة؛ لأنه قد وقع به، فلا مجال لتوبته؛ قال - تعالى -: ? وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ? [النساء: 18]، فقد اجتاز مرحلة الغرغرة التي أخبرنا عنها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقوله: ((إن الله يقبل توبة العبد ما لم يُغَرْغِر))[3]، فيكون توبته كتوبة فرعون التي لم تُقبل؛ لأنه قد فاته هذا، فرأى العذاب: ? وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ ? [يونس: 90].

 

وأما المنفِق الذي يتصدَّق بماله في سبيل الله، سيسهل أمره إذا جاءه الموت، فجاء بصيغة الإتيان بقوله - تعالى -: ? وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ ? [المنافقون: 10].

 

فالإتيان: مجيء الشيء بسهولة[4]، فأرشدنا ربُّنا أننا إذا أردنا أن يسهل أمرنا في الموت، فعلينا أن نُكثر من الصدقة.

 

وأما المشرك والمنافق، فيكون الموت عليه شاقًّا، فجاء بصيغة المجيء[5].

 

قال - تعالى -: ? حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ ? [المؤمنون: 99].

 

وقال - تعالى -: ? وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ? [ق: 19].

 

المتتبع لآيات التنزيل - ومن خلال التأمل - يجد أن الموت يأتي من مكان غير متوقَّع، وسأحاول في هذا الكلمات أن أقرب المقصود، فأقول:

الذي يفر من عدو، فيجعله خلف ظهره، جلُّ همه أن ينجو منه، فهو عندما يفر يلتفت خلف ظهره؛ ليقدِّر المسافة بينه وبين عدوه، فيزيد من سرعته إن اقترب، وإذا تباطأ بالجري خلفه يلتقط أنفاسه، فيخفف قليلاً من سرعته، فيكون في أمان بالنجاة منه، ولكن هذا الأمر لا ينطبق على الموت الذي نفر منه جميعًا، فسيأتي من جهة غير متوقعة، فسيأتينا من أمامنا وليس من خلفنا، ويلاقينا وجهًا لوجهٍ؛ قال - تعالى -: ? قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ? [الجمعة: 8].

 

بل أخبرنا الله - تعالى - أن هذا الفرار لن ينفعنا أبدًا؛ قال - تعالى -: ? قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لَا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا ? [الأحزاب: 16].

 

وهذا ما أُكِّد في القرآن بصيغة أخرى، فالجملة في اللغة متكوِّنة: من فعل، وفاعل، ومفعول به، والأصل فيه هذا الترتيب، فإذا تقدم المفعول به على الفاعل، فلحكمة يعلمها أهل الشأن، ومن حكمها القَصْر وغيرها، والذي يقرأ القرآن الكريم في موضوع الموت، يعلم يقينًا حكمة تقدُّم المفعول به على الفاعل في قوله: ? وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ ? [الأنعام: 61].

 

وقال - تعالى -: ? وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ ? [المنافقون: 10].

 

وهذا يتناول الأنبياء وغيرهم؛ قال - تعالى -: ? أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ? [البقرة: 133].

 

فتقدُّم المفعول به على الفاعل:

إما لأن النفس ترغب في تأخيره، فتأخَّر لذلك.

 

وإما أن يكون المعنى: أنكم تمشون إلى الموت بأنفسكم، فأنتم تسيرون إليه، فاستعدوا له، لا أن يأتكم هو؛ كقوله - تعالى -: ? يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ ? [الأنفال: 6].

 

ومن المعلوم بداهة أن الذي يهاجر من موطنه إلى بلدٍ آخر، يتوقَّع الخير والشر، وكل ما يخبئه له القدر سيأتيه في المكان الذي سيهاجر إليه، لا من البلد الذي تركه خلف ظهره؛ فلذلك فإن الموت سيأتي من هذا المكان غير المتوقَّع؛ قال - تعالى -: ? وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ? [النساء: 100].

 

فجاء مصطلح "الإدراك"؛ ليختصر لنا هذا المعنى، وهذا الذي حصَّن نفسه، وجلس في حصنه وقصره، يتوقع أن يأتيه الشر من خارجه، وليس من داخله؛ لأنه قد حصن نفسه في مكانه هذا، من أجل هذا فإن الموت سيأتي من مكان آمِن بنظر هذا العبد، متناسيًا قوله - تعالى -: ? أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا ? [النساء: 78].

 

والذي يُشرِف على الغرق في بحر متلاطم الأمواج، ينتظر أن تأتيه يد العون من خارجه، ولكن مع الموت - ولا سيما للظالم - فيد العون تقول لهم: أخرجوا أنفسكم.

 

فماذا يختار؟ الجاذب أم المنقذ؟

فإذا كان المنقذ من أهل الرحمة فحَيَّهلاًّ، وأما إن كان الآخر، فسيختار أن تُفرَّق رُوحه في جسده؛ كما أخبرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث[6]؛ قال الله - تعالى - واصفًا هذا الموقف بقوله: ? وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ ? [الأنعام: 93].

 

ولعل في ذلك كله تَكمن حكمة الإكثار من ذكر الموت؛ كما أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقوله: ((أكثروا من ذكر هادم اللذات))[7]، وفي رواية بالمبالغة: ((استكثروا من ذكر هادم اللذات، فإنه ما ذكره أحدٌ في ضيق إلا وسَّعه الله، ولا ذكره في سَعة إلا ضيَّقها عليه))[8]؛ فالإكثار من ذكره يجعل الفرد في تأهُّب دائم لاستقباله، وهو أمر واقع لا محالة.

 

اللهم خفِّف علينا الموت وسكرته، وأَمِتْنا على دين نبيِّك سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم - غيرَ خزايا ولا مفتونين، برحمتك يا أرحم الراحمين.

 

وصلى الله وسلم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحْبه أجمعين.

---------------------------------------------------------

[1] كما في حديث البراء بن عازب - الذي أخرجه الإمام أحمد - قال: "خرجنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في جنازة رجل من الأنصار، فانتهينا إلى القبر، ولَما يُلحد، فجلس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وجلسنا حوله، وكأن على رؤوسنا الطير، وفي يده عود ينكت في الأرض، فرفع رأسه، فقال: ((استعيذوا بالله من عذاب القبر)) مرتين أو ثلاثًا، ثم قال: ((إن العبد المؤمن إذا كان في انقطاع من الدنيا، وإقبال من الآخرة؛ نزل إليه ملائكة من السماء بيض الوجوه كأن وجوههم الشمس، معهم كفن من أكفان الجنة، وحنوط من حنوط الجنة، حتى يجلسوا منه مدَّ البصر، ثم يجيء ملك الموت - عليه السلام - حتى يجلس عند رأسه، فيقول: أيتها النفس الطيبة، اخرجي إلى مغفرة من الله ورضوان))، قال: ((فتخرج تَسِيل كما تَسِيل القطرة من فِي السِّقاء، فيأخذها، فإذا أخذها لم يَدَعُوها في يده طرْفة عين حتى يأخذوها، فيجعلوها في ذلك الكفن وفي ذلك الحنوط، ويخرج منها كأطيب نفحة مسكٍ وُجِدت على وجه الأرض))، قال: ((فيصعدون بها، فلا يمرون - يعني: بها - على ملأ من الملائكة، إلا قالوا: ما هذا الروح الطيب؟ فيقولون: فلان بن فلان - بأحسن أسمائه التي كانوا يسمونه بها في الدنيا - حتى ينتهوا بها إلى السماء الدنيا، فيستفتحون له، فيُفتح لهم، فيُشيعه من كل سماء مقربوها إلى السماء التي تليها، حتى ينتهى به إلى السماء السابعة، فيقول الله - عز وجل : اكتبوا كتاب عبدي في علِّيين، وأعيدوه إلى الأرض، فإني منها خَلقتهم، وفيها أُعيدهم، ومنها أخرجهم تارةً أخرى))، قال: ((فتعاد رُوحه في جسده، فيأتيه ملكان، فيجلسانه، فيقولان له: من ربك؟ فيقول: ربي الله، فيقولان له: ما دينك؟ فيقول: ديني الإسلام، فيقولان له: ما هذا الرجل الذي بُعِث فيكم؟ فيقول: هو رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيقولان له: وما علمك؟ فيقول: قرأت كتاب الله، فآمنت به، وصدقت، فينادي منادٍ في السماء: أن صدق عبدي؛ فأفرشوه من الجنة، وألبسوه من الجنة، وافتحوا له بابًا إلى الجنة، قال: فيأتيه من روحها وطِيبها، ويفسح له في قبره مد بصره، قال: ويأتيه رجل حسن الوجه، حسن الثياب، طيب الريح، فيقول: أبشِر بالذي يسرُّك، هذا يومك الذي كنت توعَد، فيقول له: من أنت فوجهك الوجه يجيء بالخير فيقول: أنا عملك الصالح، فيقول: رب أقم الساعة؛ حتى أرجع إلى أهلي ومالي، قال: وإن العبد الكافر إذا كان في انقطاع من الدنيا، وإقبال من الآخرة، نزَل إليه من السماء ملائكة سود الوجوه، معهم المُسُوح، فيجلسون منه مد البصر، ثم يجيء ملك الموت حتى يجلس عند رأسه، فيقول: أيتها النفس الخبيثة، اخرجي إلى سخط من الله وغضبٍ، قال: فتفرق في جسده، فيَنتزعها، كما ينتزع السَّفُّود من الصوف المَبلول، فيأخذها، فإذا أخذها، لم يَدَعُوها في يده طرْفة عين، حتى يجعلوها في تلك المُسُوح، ويخرج منها كأنتن ريح جِيفة وُجِدت على وجه الأرض، فيصعدون بها، فلا يمرون بها على ملأ من الملائكة، إلا قالوا: ما هذا الروح الخبيث؟ فيقولون: فلان بن فلان بأقبح أسمائه التي كان يسمى بها في الدنيا، حتى يُنتهى به إلى السماء الدنيا، فيستفتح له، فلا يُفتح له))، ثم قرأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ? لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ ?[الأعراف: 40]، فيقول الله - عز وجل -: اكتبوا كتابه في سجين، في الأرض السفلى، فتطرح رُوحه طرحًا ثم قرأ: ? وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ ? [الحج: 31]، فتعاد روحه في جسده، ويأتيه ملكان، فيجلسانه، فيقولان له: من ربك؟ فيقول: هاه، هاه، لا أدري، فيقولان له: ما دينك؟ فيقول: هاه، هاه، لا أدري، فيقولان له: ما هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ فيقول: هاه، هاه، لا أدري، فينادي منادٍ من السماء: أن كذب، فافرشوا له من النار، وافتحوا له بابًا إلى النار، فيأتيه من حرِّها وسَمُومها، ويضيَّق عليه قبره؛ حتى تختلف فيه أضلاعه، ويأتيه رجل قبيح الوجه، قبيح الثياب، مُنتن الريح، فيقول: أبشر بالذي يسوؤك، هذا يومك الذي كنت توعَد، فيقول: من أنت، فوجهك الوجه يجيء بالشر؟ فيقول: أنا عملك الخبيث، فيقول: ربِّ لا تُقم الساعة))، (4/ 287)، (18557)، قال شعيب الأرنؤوط: إسناده صحيح، رجاله رجال الصحيح.

[2] حضر: الحاء والضاد والراء: إيراد الشيء، ووروده، ومشاهدته، وقربه، وهو خلاف البدو، ثم جعل ذلك اسمًا لشهادة مكان، أو إنسان، أو غيره؛ قال - تعالى -: ? كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ ? [البقرة: 180]، ويراد به القرب؛ كقوله - تعالى -: ? وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ ? [الأعراف: 163]؛ ينظر: معجم مقاييس اللغة؛ لابن فارس (2/ 75)، ومفردات ألفاظ القرآن (1/ 243).

[3]من حديث ابن عمر في مسند أحمد: (10/300)، (6160)، والترمذي (5/ 547)، (3537)، وقال: حديث حسن غريب.

[4] الإتيان يقال للمجيء بالذات، وبالأمر، وبالتدبير، ويقال في الخير وفي الشر، وفي الأعيان والأعراض؛ ينظر معجم مقاييس اللغة؛ لابن فارس (1/ 49)، ومفردات ألفاظ القرآن (1/ 10).

[5] المجيء كالإتيان، لكن المجيء أعم من الإتيان؛ لأن الإتيان مجيء بسهولة، والإتيان قد يقال باعتبار القصد، وإن لم يكن منه الحصول، والمجيء يقال اعتبارًا بالحصول، ويقال: جاء في الأعيان والمعاني، ولما يكون مجيئه بذاته وبأمره، ولمن قصد مكانًا، أو عملاً، أو زمانًا، وجاء بكذا: استحضره، وجاء بكذا يختلف معناه بحسب اختلاف المجيء به؛ ينظر معجم مقاييس اللغة؛ لابن فارس (1/ 497)، مفردات ألفاظ القرآن (1/ 204).

[6] كما في حديث البراء بن عازب الذي سبق تخريجه، وفيه: ((...وإن العبد الكافر إذا كان في انقطاع من الدنيا، وإقبال من الآخرة - نزل إليه من السماء ملائكة سود الوجوه، معهم المُسوح، فيجلسون منه مدَّ البصر، ثم يجيء ملك الموت حتى يجلس عند رأسه، فيقول: أيتها النفس الخبيثة، اخرجي إلى سخط من الله وغضب))، قال: ((فتفرَّق في جسده، فيَنتزعها كما ينتزع السفود من الصوف المبلول...))؛ ينظر: مسند الإمام أحمد (4/287)، (18557).

[7] كما في حديث أبي هريرة في سنن الترمذي (4/ 553)، (2307)، قال أبو عيسى: هذا حديث حسن غريب، وقال الألباني: حسن صحيح، وصحيح ابن حبان: (7/ 261)، ( 2995)، قال شعيب الأرنؤوط: إسناده حسن.

[8] المعجم الكبير؛ للطبراني (20/ 66)، (1355)، وقال الهيثمي: سنده حسن؛ يُنظر: مَجمع الزوائد (10/ 554).

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين